قال الإمام عزالدين: وهذا هو الظاهر من مذهبهم والذي تقضي به نصوصهم، وصرح به الرازي في نهايته، واحتج لصحته بأن الغرض في فعل الله تعالى إذا كان عائداً إلى غيره، فهل له في انتفاع ذلك الغير غرض يعود عليه فيلزم صحة الحاجة عليه، أو لا غرض فيه يعود عليه فيلزم كون وجود ذلك الفعل وعدمه بالنظر إليه على سواء، ومع ذلك فلا معنى لكونه غرضاً مرجحاً للإيجاد.
ويمكن الجواب: بأن حاصل دليلك هذا إنكار أن يكون النفع العائد إلى الغير غرضاً وهو نفس المتنازع فيه، فإنا نقول: أنه غرض صحيح، وأنه يعلم بالعقل حصول الغرض في إرشاد ضال عن الطريق، وإطعام جائع قد أشرف على التلف، وإن فرضنا عدم العلم بحصول نفع في ذلك يعود إلى المرشد والمطعم بأن لا يخطر بباله ثناء ولا ثواب، أو بأن يكون ممن ينكر ذلك أو يجهله (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح، وهو مذهب العدلية (أن المجازاة) بالثواب والعقاب (لمن لا يستحقها قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله فهو أن الثواب يتضمن التعظيم).

قال الشارح المحقق: لا يخفى ما في هذه العبارة من الركة؛ لأن الاشتغال بإبانة أن الثواب لمن لا يستحقه قبيح، وفي تصدير الكلام في قوله: أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله رجوع إلى نفس المسألة لا إلى الاستدلال على أصلها المبنية عليه هي، وإنما قلنا: يتضمن التعظيم؛ لأن حقيقته المنافع المستحقة على جهة التعظيم، (و)معلوم قطعاً (أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح)، دليله ما نعلمه في الشاهد (ألا ترى أنه يقبح من الواحد منا تعظيم البهائم كتعظيم الأنبياء وتعظيم الأجانب كتعظيم الوالدين) وأن من أهان وليه وأعز عدوه فلا شك في سخافته، (وإنما قبح ذلك؛ لكونه تعظيم من لا يستحق التعظيم)، إذ لا نجد ما يتعلق الحكم به أولى فثبت أنها هي العلة، وإذا ثبت ذلك لزم أن إثابة الباري من لا يستحق الثواب قبيحة وقد قدمنا أن الله لا يفعل القبيح كما بيّناه.
(وأما الدليل على أنه لا يعاقب أحداً إلا بذنبه، فلأن عقاب من لا يستحق العقاب يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع، أو دفع ضرر أو استحقاق، وهذه حقيقة الظلم) والعقاب هي المضار المستحقة على جهة الإهانة.
قال الدواري: الأجود في حقيقة الظلم أن يقال: هو الضرر العاري عن استحقاق، أو جلب منفعة أو دفع مضرة، أو الضرر الذي لا يعرى عنها أو عن أحدها، ولم يقض الشرع أو العقل بحسن ذلك الضرر، أو العاري عن ظن جلب النفع أو دفع الضرر، أو الذي لا يعرى عن ظن ذلك، ولم يكن فعله حسناً ولا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر.

وقال أيضا: وأوجز من هذه الحقيقة ما ذكره المؤيد بالله والحاكم في حقيقة الظلم فقالا: حقيقة الظلم: هو الضرر القبيح، والدليل على أن ذلك الضرر ظلم، أن من علم ضرراً هذا حاله علمه ظلماً، ومن لم يعلمه بهذه الصفة لم يعلمه ظلماً، (والظلم قبيح) بدليل أن القبح وعدمه يدور على العلم بكونه ظلماً وجوراً وعدماً، (والله تعالى لا يفعل القبيح)، وقد جاء السمع بتصحيح ما ذكرنا (قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38] {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، {فَكُلاأَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت:40] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عدله وحكمته، وبهذا نستدل على أن الله تعالى لا يعذب أطفال المشركين لفعل آبائهم القبائح.
(وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه)، وتقدم الدليل عليه (فثبت بذلك أن الله لا يثيب أحداً إلا بعمله، ولا يعاقبه إلا بذنبه).
(المسألة السادسة عشرة) أنَّ الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد الظلم وسائر القبائح
واعلم: أن عادات المصنفين في علم الكلام تختلف في ذكر إرادة الله وكراهته وما يريده وما يكرهه، فمنهم من يذكر جميع ذلك في باب التوحيد؛ نظراً إلى أن كونه تعالى مريداً أو كارهاً من صفاته الثابتة وأحواله التي تستحقها ذاته، وذكر ما يريده وما يكرهه من فروع ذلك ولواحقه.
ومنهم من يذكر ذلك جميعه في باب العدل نظراً إلى أن مقتضى العدل والحكمة أن يريد الطاعات ويكره المعاصي، وأن خلاف ذلك ينافي الحكمة، وإذا عرفت ذلك فقد ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى مريد لجميع أفعاله ما خلى الإرادة والكراهة، وأنه تعالى مريد لجميع الطاعات من أفعالنا ما حدث منها ومالم يحدث، و (أنه لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد).

وذهب سائر فرق المجبرة من الأشعرية والكُلابية والنجارية إلى أن الله تعالى مريد لجميع ما حدث من الكائنات، طاعة كان أومعصية، وأنه لا كائن في عالمه إلا وهو متعلق بإرادته، وما لم يحدث منها فإنه لا يريده طاعة كان أو معصية، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل (أن الرضى والمحبة يرجعان إلى الإرادة)، فإذا قد قام الدليل على عدم الرضى، وعدم المحبة للقبيح كان غير مريد لهما، وبيانه أن الرضى والمحبة من جنس الإرادة وإن كانا لنوعين مخصوصين منها فالرضى اسم للإرادة المتقدمة المتعلقة بفعل الغير بشرط وقوع ذلك الفعل، والمحبة اسم للإرادة التي تطابق الداعي وقد يخلق الله فينا إرادة بما لاداعي لنا إليه كدخول النار فإنه يسمى إرادة ولا يسمى محبة.
فقول الشارح المحقق بترادفهما فيه ما فيه، (والذي يدل على ذلك) الذي ذهبنا إليه من العقل (أن إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبيح) والعلم بذلك ضروري، (وهو مما لا خلاف فيه) في الشاهد عند زوال اللبس ووجوه الشبه، (ولهذا أن العقلاء يذمون من أراد القبيح كما يذمون من فعله، وتسقط منزلة المريد للقبيح كما تسقط منزلة من فعله)، وما ذاك إلا لكونه قبيحاً ولا وجه لقبحه إلا كونه إرادة للقبيح، لأنا عند العلم بذلك نعلم قبحه وإن جهلنا كل أمر، وعند الجهل بذلك لا نعلم قبحه.
ولنا على ذلك أيضاً أن الله تعالى لو كان مريداً للمعاصي لكان الفاعل لها مطيعاً؛ لأن من فعل ما أراده المطاع وصفه أهل اللغة بأنه مطيع، وقولهم بل المطيع من فعل ما أمر به المطاع غير مسلم؛ لأن العبد يوصف بأنه مطيع لسيده وإن لم يصدر منه أمر حيث فعل مراده، وإن سلمنا فلا ينجيهم؛ لأن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.

(و) أما الدليل على ذلك من السمع: فإنه (قد) جاء السمع بذلك حيث (قال تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7] وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}[غافر:31] {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ})[البقرة:205] ونحو: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] أي ما يؤدي إلى اليسر من الطاعة، ولا يريد بكم العسر وهو ما يؤدي إلى العسر من المعصية، هكذا فسره بعضهم.
وقال ً فيما رواه مسلم: ((إن الله يقول للعبد العاصي إذا جاء يوم القيامة أردت منك أيسر من ذلك)) فصرح بأنه أراد منه الطاعات التي لم يفعلها، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وهذه لام الغرض بلا شبهة، والغرض والإرادة واحدة في الأغلب بلا خلاف، وقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[الأنفال:67] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما تعلق به المخالف فإنه تعلق بشبهتين من قبل العقل فقالوا: الإرادة مطابقة للعلم، فما لا يعلم الله وقوعه لا يصح أن يريده.
والجواب: أن هذه دعوى محض ومحل النزاع، وأيضاً فكيف يصح ذلك عندهم أن كونه مريداً ككونه عالماً في أنها تستحق للذات أو لمعنى قديم؟ فلم كانت إحداهما تطابق الأخرى أولى من العكس؟ وهلا طابقت القدرة كما هي مطابقة للعلم؟ أو هلا كانت القدرة والعلم مطابقين للإرادة؟ وما وجه هذه التحكمات من غير دليل؟
الشبهة الثانية: قالوا: لو وقع في ملك الله مالا يريده لدل على عجزه قياساً على الشاهد.
والجواب أولاً: بأنهم يمنعون قياس الغائب على الشاهد ويقولون لا يقاس بالناس فكيف قاسوا هنا؟
وثانياً: أنه معارض بالأمر، فلو وقع في ملك الله خلاف ما أمر به أو ما نهى عنه لدل على عجزه قياساً على الشاهد بل مخالفة أمر الملك في الشاهد أدل على عجزه من مخالفة إرادته.

وأما السمعيات فقد منعوا من الاستدلال بها؛ لتجويزهم القبيح على الله تعالى.
وأيضاً فما ذكروه من الأدلة محتمل يجب رده إلى المحكم، (فثبت بذلك أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد) فبطل ما قاله المخالف.
(المسألة السابعة عشرة في الآلام)
واعلم: أنَّ الألم جنس من الأعراض متميز عن غيره راجع إلى النفي، واللذة من جنسه ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بمقارنة الشهوة أوالنفرة، فما قارنته الشهوة فلذة، وما قارنته النفرة فألم،ودليل كونهما جنساً واحداً أن الواحد منا قد يتألم بما يلتذ به ويلتذ بما يتألم به كالحك وغيره.
وحقيقة الألم: المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة، فقولنا: بمحل الحياة فيه قيدٌ يمتاز به عن سائر المدركات؛ لأن سائرها يدرك بمحل الحياة في غيره، فلهذا كان فصلاً.
وأما الغم: فإنه اعتقاد الحي أو ظنه بأن عليه أو على من يحب في فعل الغير فوت نفع أو جلب ضرر في الحال أو في المستقبل.
واعلم: أن الآلام مضرة عاجلة ووجوه حسنها خفية غير ظاهرة، فلذلك ضل كثير من الناس حتى كان ذلك شبهة في إثبات ثان مع الله تعالى وفي جواز كل قبيح على الله تعالى.
وفي التعطيل عند ابن الراوندي حيث رأى أهل الفضل والعلم مبتلين بمقاسات الفقر والأمراض والمصائب، وأهل الجهالة والوضاعة بالعكس حتى أنشد البيتين المعروفين:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصَيَّر العالم النحرير زنديقاً
وكذلك أبو عيسى الوراق فإن ذبح البهائم صار له شبهة حتى صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، وكان السبب في ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام وميله إلى اللذة.

(واعلم أن جميع الآلام والنقائص) إذا كانت من أفعالنا، فإنها تحسن إذا كانت لجلب نفع أو دفع ضرر أعظم، أو استحقاق، أو لظن أحد الوجهين المتقدمين، وهذا لا شبهة فيه، فإن كل عاقل يعلم حسن تحمل المشاق في الأسفار ومعالي الأمور ومشاق التعليم طلباً للمنافع سواءً كانت معلومة أو مظنونة، وكذلك يستحسنون الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة ونحو ذلك طلباً لدفع مضار هي أعظم منها سواءً كان اندفاعها معلوماً أو مظنوناً.
وأما الظن لاستحقاق الألم فقيل لا يحسن إنزاله بالظن؛ لأن المنزل له يكون مُقْدماً على مالا يأمن من كونه ظلماً، وقال أبو هاشم: يحسن واحتج بإنزال الحدود عند الشهادة التي لا تفيد إلا الظن، وأجيب بأن ذلك ورد به الشرع لمصلحة شرعية حتى لو تركنا والعقل لما استحسنه.
وأما الآلام والنقائص (النازلة بالأطفال والمجانين، وسائر الممتحنين اللاتي من الله تعالى)، وكذلك المضار اللاتي لا تتوقف على اختيارنا كفساد الثمار واجتياحها بالبَرْد والبَرَد، فالذي عليه أهل الإسلام وكثير من الخارجين عنه أن ذلك فعل الله تعالى (ولا بُدّ فيها) من أحد وجهين: إما الاستحقاق، ولا شبهة في ذلك كعقاب أهل النار ونحوه، وإما لمجموع (العوض) للمؤلم (والاعتبار)، ولا يكفي في حسن الألم أحد الأمرين: إما العوض، أو الاعتبار.
وقد ذهب عَبَّاد إلى أن الاعتبار كاف في حسن الألم، فإن كان كلامه على عمومه بحيث أنه يقول: يحسن منه تعالى إيلام الأطفال ونحوهم؛ لمجرد أن يحصل بذلك اعتبار للمكلفين، أو بعضهم، أو إيلام مكلف لمجرد إعتبار يحصل لغيره فقد أبعد في مقالته (والدليل على) بطلان (ذلك) أنها (لو خلت عن العوض) وكانت كما قال (لكانت ظلماً؛ لأنه يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع للمؤلم، أو دفع ضرر عنه أو استحقاق، وهذه هي صفة الظلم، والظلم قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح).

وأيضاً فلو أجزنا ذلك لأجزنا جميع أنواع الظلم، فإنه لا يكاد يخلو شيء منها عن نفع لغير المظلوم، وإن أراد أن الألم يحسن لمجرد اعتبار يحصل للمؤلم.
قال الإمام عزالدين بن الحسن -عادت بركاته-: وهو اللائق بعلمه وفهمه، فمذهبه في غاية القوة، وأي نفع للمكلف أعظم من تأدية الألم هذا إلى كونه من أهل الجنة والسعادة الأبدية، انتهى.
(و) قال أبو علي في القديم: إن العوض كاف في حسن الآلام، قلنا له: (لو خلت الآلام من الاعتبار لكانت عبثاً؛ لأن العبث هو الفعل الواقع من العالم به عارياً عن عوض مثله)، وهذا المعنى حاصل في الألم لو خلى من الاعتبار؛ لأنه كان يمكن ويحسن إيصال نفع العوض إلى المؤلم من دون الألم، وله أن يجيب بأن فائدته أن يصير العوض مستحقاً وليس المستحق كالمتفضل به، (و) إذا كان عبثاً فلا شك أن (العبث قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح).
والذي يدل من السمع أنه لا بد في الآلام من العوض قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5] ولا وجه لحشرها إلا للعوض، والذي يدل على أنه لا بد من الاعتبار قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ} فلو لم يكن مراداً لله تعالى لما أمر به، والله أعلم.
(فثبت بهذه الجملة أن جميع الآلام والنقائص لا بد فيها من العوض والاعتبار).
(المسألة الثامنة عشرة: في القرآن الكريم)
قال الإمام عزالدين بن الحسن -عادت بركاته-: وجه الصحة في ذكر الكلام في القرآن في باب العدل، أن العدل لما كان كلاماً في أن الله لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب، والقرآن لطف لنا وبيان لما كلفناه، واللطف والبيان واجبان على الله تعالى ذُكِر في باب العدل؛ لأنه من قبيل الواجب على الله تعالى.
قال الإمام يحيى -عَلَيْهِ السَّلامُ- في حد القرآن الكريم: هو الكلام الذي نزل به جبريل على النبي ً تعبدنا بتلاوته المنقول نقلاً متواتراً.

إذا عرفت ذلك، وأن القرآن جنس من الكلام، فلنتكلم على ذكر حقيقة الكلام وفاعله وهو المتكلم.
أما الكلام: فهو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة، قلنا: ما انتظم تشبيهاً بالنظام الحقيقي لتواليه على السمع، وقلنا: من الحروف؛ لأن الحرف الواحد لا يكون كلاماً، وقلنا: المتميزة احترازاً من صرير الباب وأصوات البهائم، وقلنا: المسموعة احترازاً من الكتابة، ولا يعتبر فيه الإفادة؛ لأنها إنما تعتبر في الكلام الاصطلاحي لا اللغوي، وذلك متفق عليه.
وأما المتكلم: فهو عندنا فاعل الكلام بدليل أن من علمه فاعلاً للكلام علمه متكلماً ومن لم يعلمه فاعلاً له لم يعلمه متكلماً.
والخلاف في ذلك مع أبي الحسين وابن الملاحمي فقالا: المرجع بالكلام إلى صفة للجسم، وقال أبو علي: الكلام معنى زائد على الحروف والأصوات يسمع معها تقارن الملفوظ والمكتوب والمحفوظ، وقال بعض الأشعرية: بل الكلام معنى في نفس المتكلم، وتسمية هذا المسموع كلاماً مجاز وهذه مباهتة.
وقال بعضهم: بأنَّ هذا المسموع كلام، ويدعون إثبات كلام آخر قائم بالنفس ويجعلون هذا الاسم مشتركاً بينهما، قال القرشي: وهذا بعيد عن التحصيل؛ لأن من ينفي الكلام النفسي كيف يسلم أن الاسم موضوع عليه بالاشتراك، وأيضاً فالعرب لا يعقلون الكلام النفسي فضلاً عن أن يضعوا له عبارةً أو يشركوا بينه وبين غيره فيها، يوضحه أنه إذا أطلق لفظ الكلام فإنما يسبق أفهامهم إلى هذا المسموع.
واعلم: أنه لا خلاف في (أنَّ هذا القرآن المتلو في المحاريب، الموجود بين المسلمين) هو القرآن، ومحل الخلاف هل هو (كلام الله تعالى دون أن يكون كلاماً لغيره) أولا؟

فالذي عليه أهل العدل بل جميع الفرق المقرة بنبوة محمد ً: أنه كلام الله ووحيه، وتنزيله، أي: كلامه عرفاً لا لغة؛ لأن المتكلم لغة: المحدث للكلام والمتفوه، به ومُخرجه من العدم إلى الوجود، والمتلو ليس كذلك بل المحدث له والمتكلم هو المتفوه به، وهو الذي يُمدح على قراءته ويذم ويثاب ويعاقب بحسب اختلاف الأحوال.
والمتكلم في العرف: من كان أنشأ ذلك الكلام ونظم ألفاظه، وإن احتذى غيره على ذلك ونطق به كما نطق به المبتدئ وذلك ظاهر، وخالف في ذلك الأشعرية والكلابية والمطرفية والباطنية، فهؤلاء جميعاً قالوا: إن هذا القرآن ليس بكلام الله لا لغةً ولا عرفاً، ثم افترقوا فقالت الأشعرية: كلام الله معنى قديم قائم بذاته والمتلو عبارة عنه، ومثله قالت الكلابية إلا أنهم بدلوا لفظة قديم بأزلي، ولفظ العبارة بالحكاية، وقالت المطرفية: بل كلام الله صفة قائمة بقَلْبِ ملك يقال له: ميخائيل، وبعضهم قال: إن الله أجبر الملك عليه، وبعضهم قال: إن الملك صفتْ طبيعته وخلصت جوهريته، فاستنبط القرآن، والذي بيننا حكاية ذلك، وقالت الباطنية: هو كلام الرسول حصلت معانيه بالفيض في النفس الكلية إلى نفسه الجزئية فصاغ هذا القرآن وهو لفظه، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل: أن المعقول هو هذه الحروف والأصوات، بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام، وإن علم المعني النفسي.
وأيضاً فإن كلامه تعالى لا يخلو إما أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف أو مخالفاً لذلك.
فإن كان من جنس الأصوات والحروف فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفاً لذلك لم يصح أن يكون كلاماً وأن يفهم منه شيء، فالمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا، فإنه في حكم من يثبت جسماً مخالفاً للأجسام المخالفة للمعقول فيما بيننا، ويثبت مع الله تعالى جسماً قديماً مخالفاً لسائر الأجسام.

8 / 16
ع
En
A+
A-