مدخل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
وبعد: فيقول المفتقر إلى رحمة الله وعفوه عبدالرحمن بن حسين شايم المؤيدي أيده الله وثبته في الدارين: إن الله وله الحمد يسر لنا الاطلاع على عِلْق نفيس يتنافس فيه المتنافسون، ويرغب في اقتنائه وتحصيله المحصلون، ألا وهو (شرح مصباح العلوم) المعروف بالثلاثين المسألة للرصاص، ذلك الشرح الذي تنشرح به الصدور، لمؤلفه الإمام علم الأعلام حجة الله على الأنام الناصر لدين الله: إبراهيم بن محمد المؤيدي اليحيوي، بل الله بوابل الرحمة ثراه، وجعل الجنة مقره ومثواه، فوجدته شرحاً قد حوى من مسائل علم الكلام وأدلتها ما يشفي الآوام، ومِنْ حَلِ شِبَهِ الخُصُوم ورَدِّ أقاويلهم الباطلة فوق ما يُرام، مع إيفاء المطالب في إيجاز، وبلاغة تكاد أن تقارب حد الإعجاز.
ولما كانت النسخة التي عثرت عليها هي مسودة التأليف -أعني نسخة الإمام بخط يده- رأيت أن من الصواب إخراجها ونسخها، ثم رسمها ونشرها لتخرج إلى رواد علم الكلام؛ لأن ذلك من المعاونة على البر.
ولكون النسخة المشار إليها قد اخترم من أولها خطبة الكتاب وسقط من أصل المسائل بعض صفحات، من المسألة الأولى بعض الرد على أهل النجوم، والمسألة الثانية (مسألة قادر بكمالها) وبعض (مسألة عالم) فقمت بإكمال ذلك النقص لتمام الفائدة، فإن سهل الله تعالى بنسخة كاملة، وصلنا كلام المؤلف بعضه ببعض، وإلا فليس لي من قصد إلا إفادة الطالب والأجر من الله تعالى.
وأول كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلامُ دعاءه للشارح المحقق بقوله عَلَيْهِ السَّلامُ:
عمر الله به ربوع المدارس وقوَّم به أركان العلم الدارس، فشفى بشرحه عليل مهج الصدور، وأزرى بمقاله حسن كل مصدور، وجمع من علوم الآل شتاتاً، وزخر بحره أبلج عذباً فراتاً، لكن لما تقاصرت الهمم كادت أن تغرق الأفهام في تلك الأمواج، ولتشعب الأقوال عليهم لم يؤمن عدم اهتدائهم إلى المنهاج، فدعتني الهمة القاصرة إلى تعليق مختصر يكون وافياً، وندبتني الخواطر الفاترة إلى تبيين مقاصد المختصر تبييناً شافياً من غير تطويل ممل، ولا اختصار مخل، ولا انتحال شيء من الأنظار، بل أخذته من أقوال النظار، فإن جاء حسناً فلفضل المتقدمين، وإن غير ذلك فلقصوري الواضح المبين، ومن الله أستمد الهداية وأستعينه في البداية والنهاية، إنه ولي ذلك والقادر على ما هنالك:
قال المصنف مبتدئاً: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي بسم الله أبتدئ تأليف هذا الكتاب، ومعناه أستعين على ذلك بالتسمية؛ ليمنها وبركتها، فالباء للاستعانة، ويقدر الفعل متأخراً عنها لإفادة الاختصاص، والبداية بالبسملة لدليلين: عقلي، وسمعي:
أما العقلي: فلما تقرر في العقول من وجوب شكر المنعم والاهتمام به ضرورة، والثناء باللسان هو أحد شعب الشكر، فلا يظهر الاهتمام إلا بالتقديم.
وأما السمع: فلما ورد في الكتاب العزيز نحو:{بِسْمِ الله مِجْرَاهَا} [هود:41] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30] وقال ً: ((كل أمرٍ ذي بال لم يذكر اسم الله عليه فهو أجذم)) وقيل: أبتر، وقيل: خداج، روته عائشة، وقد حسنه بعض الحفاظ، والمعنى بذلك منزوع البركة.
وفائدة إقحام لفظ اسم ما في ذلك من التعظيم لله عز وجل حيث كان من التيمن باسم الذات، فكيف بالذات؟ و(الله) اسم للواجب الوجود جل وعلا الحقيق بجميع المحامد، و(الرحمن) إسم لذلك الجلال شرعاً، و(الرحيم) كذلك، فهما حقيقتان دينيتان عرفيتان منقولتان من وصف للمبالغة.
اعلم: أن من ألَّف مُؤلفاً ينبغي له أن يقدم مقدمة تُعين الطالب، ويكون بها على بصيرة، وبعضهم يذكر فيها تعريف العلم وموضوعه وغايته واستمداده وحكمه، وبعضهم يقتصر على الحد، ونحن نذكر تعريفه واستمداده والغرض منه وفائدته.
أما تعريفه: فهو علمٌ يعرف به كيفية الاستدلال على واجب الذات وما له من الصفات.
واستمداده من العقل بواسطة النظر في الآثار من أدلة الأنفس والآفاق، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[فصلت:53] وكذلك النظر في كتاب الله عزوجل، وما صح عن رسوله كما جاء في الحديث المرفوع: ((مَنْ أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال مال به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)) والغرض منه الفوز بالسعادات الباقيات الدائمات.
وفائدته: التمسك بأصل عُرى الإيمان لمعرفة الملك الديان، وهو العلم به، وما يجب له ويجوز عليه، وما يتوسط في أثناء ذلك من الزيادات لرابطة مَّا.
ثم اعلم: أن كل علمٍ يشرف بشرف معلومه، ويعظم نفعه بحسب الحاجة إلى مفهومه، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، ولأنَّ به يتميز الكفر من الإيمان، وعليه يدور رحى الحق في كل زمان، وقد حكم بوجوبه وجلالته العقل، وجاء بتأكيد ذلك القول الفصل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد:19] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}[آل عمران:81] وإنما تكون الشهادة عن يقين، وأهل الأصول هم المعنيون بهذه الآية المخصوصون بشرفها، وردَ عنه ً : ((ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة)) رواه الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
ومن هنا (اعلم أن أول ما يجب على المكلف) قيل المكلف: هو من أُعلم بوجوب بعض المقدورات عليه، وقبح بعضها منه مع مشقة تلحقه في الفعل أو الترك، أو أحدهما، أو في سبب ذلك، أو ما يتصل بذلك مالم يبلغ الحال حد الإلجاء.
فقوله:( أُعْلِمَ): ليدخل الكفار، فإنهم أُعلِموا، وإن لم يعلموا أنهم مكلفون، وقوله: (مع مشقة في الفعل) للاحتراز عن أهل الجنة، ومن عَلِمَ ذلك ممن لا تكليف عليه كالصبيان، وقوله: (أو في سبب ذلك) كالعلم بالله فالمشقة في سببه، وهو النظر، وقوله: (وما يتصل بذلك) نحو حراسة الفعل من نحو الرياء، وإن كان الفعل لا مشقة فيه، وقوله: (مالم يبلغ حد الإلجاء) احتراز عن المحتظر وأهل الآخرة، وهذا على القول بأن الإلجاء يُجَامِعُ الوجوب، وإلا فلا حاجة إلى القيد عند من قال: بأنه لا يُجَامِعُه إذ قد خرج من قوله: (مع مشقة تلحقه في الفعل) فمن جمع هذه الشروط فالواجب عليه (هو النظر) وهو النظر الفكري. وحقيقته: المعنى الذي يولد العلم عند تكامل شروطه، إذ لفظ النظر مشترك بين معانٍ هذا أحدها.
والثاني: نظر العين نحو: نظرت إلى الهلال فلم أَرَه، وقد قيل في تحقيقه: فتح الجفن الصحيح الحدقة إلى حيث تقع الرؤية للمرئي، أو القصد لرؤيته إذا لم يُر.
وثالثها: نظر الرحمة، وحقيقته: إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه نحو: {وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:77].
ورابعها: نظر المقابلة وهو تحاذي المتحيزين نحو: داري تنظر إلى دار فلان.
وخامسها: نظر الانتظار، وحقيقته: التوقع لحصول أمر في المستقبل خيراً كان أو شراً نحو قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35] والنظر الفكري المراد هنا نحو: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ}..الآية [يونس:101] ومحله القلب.
قال المهدي: بلا خلاف بين من أثبته معنى، والقول بوجوب النظر وأنه فرض عين على كل مكلف هو قول القاسم والهادي وغيرهما من عامة الآل.
وقال (م بالله) والإمام عزالدين وغيرهما من الآل: يجوز حصول العلم ضرورة لبعض الأنبياء ونحوهم، ولعل من ذلك ما وقع لعيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ- حيث قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ}[مريم:30] وهو في تلك الحال ليس من أهل النظر قطعاً، وبهذا جزم الإمام (ي) -عَلَيْهِ السَّلامُ- فلا يجب النظر على هؤلاء، وكذا لا يجب النظر عند من قال بجواز التقليد في الأصول كأبي القاسم وأبي إسحاق بن عياش وغيرهما، ولا يجوز عند من قال إن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة، وكذا لا يجب عند أهل التكافؤ القائلين بأن الأدلة متكافئة، وعند أهل السمع القائلين بأنه لا طريق إلى العلوم الدينية إلا السمع، وأهل الظن وأهل البدعة القائلين بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف وأن النظر بدعة.
وإنما قال: من سبق بوجوبه عقلاً لأمرين: أحدهما: أنه (المؤدي) أي الموصل (إلى معرفة الله وهي) أي معرفة الله الإجمالية (واجبة) عقلاً على كل مكلف من غير شرط، وذلك لأجل القيام بواجب شكره تعالى على ما أنعم، وشكره واجب عقلاً، إذ شكر المنعم مركوز في العقول حُسْنُ القيام به ووجوبه، وجهل المنعم بكل وجه يستلزم الإخلال بشكره على المنافع الواصلة إلينا (ولا طريق للمكلفين إليها سواه) أي النظر، لامتناع أن يُعَرفْ الله بالبديهة، وإلا لما اختلف العقلاء فيه (ولا [ظ]) بالمشاهدة، وإلا لشاهدناه الآن، ومعلوم أنا لا نشاهده و (لا[ظ]) بالأخبار المتواترة، إذ من شروطها الاستناد إلى محسوس، وقد استحال، فلم يبق سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر، (ومالا يتم الواجب) الذي هو مشروط كالمعرفة (إلا به يكون واجباً كوجوبه) وإلا وقع الإخلال بالواجب، وقد قضى العقل بقبحه، وذهب كثيرٌ من المعتزلة وجماعة من الأئمة إلى أن الوجه لوجوب المعرفة كونها لطفاً في واجبات عقلية، قيل: عملية من رَدِ وديعة وشكر منعم ونحو ذلك.
فإنَّ مَنْ عرف أنَّ له صانعاً إن عصاه عذبه، وإن أطاعه أثابه كان أقرب إلى فعل الطاعة، وترك المعصية فتجب؛ لأنها جرت مجرى دفع الضرر عن النفس، ودفعه واجب، وإنما جرت مُجراه؛ لأنها تدعو إلى فعل الواجب وترك القبيح، وبهما يندفع الضرر فقد قَربَّت إلى ذلك.
قالوا: لأن شكر المنعم لا يجب إلا بعد معرفته، ومعرفة إحسانه وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب؟
والجواب: أنا لا نسلم عدم وجوب تحصيل شرط الواجب، بل يجب إن لم يرد الأمر مشروطاً به، والأمر الآخر الدال على وجوب النظر عقلاً إفحام الرسل لو لم يجب إلا سمعاً كما ذلك مذهب البعض، بيانه أن الرسول إذا قال لمن يخاطبه: انظر في معجزتي كي تعلم صدقي، فله أن يقول: لا أنظر حتى يجب النظر، ويكون هذا القول حقاً لا سبيل للرسول إلى دفعه، وهذا حجة عليه وهو معنى الإفحام، وللمخالف معارضة وتحقيق، وقد كفى في الرد عليهم علماء العدل، والغرض الإشارة لا التطويل.
فائدة: معنى قولهم: النظر أول واجب أنه لا يَعْرَى المكلف عن وجوبه عند ابتداء تكليفه بخلاف سائر الواجبات، فإنه قد يعرى عنها نحو قضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم؛ لأنه قد يخلو عن الدين، وعن الوديعة، وعن نعمة غير الله، وأما نعمة الله فهو وإن لم يَعْرَ عنها في حال لكنه لا يجب عليه شكرها حتى يعرفه، وهو في أول تكليفه غير عارف فلا يلزمه الشكر، فظهر لك أنه قد يعرى في أول تكليفه عن جميع الواجبات ما خلى النظر فإنه لا يعرى عنه، ولما كان كذلك وُصِفَ بأنه أول الواجبات وليس بأولها في كل حال بل عند عُرو المكلف عمَّا عداه من الواجبات، والذي حملهم على الإطلاق المبالغة في الحث عليه والاهتمام به.
(باب إثبات الصانع)
أي اعتقاد ثبوته، وقوله: (وذكر توحيده) من باب عَطْف العام على الخاص، وهو وارد مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ}[التحريم:4] ووجه ذلك هو التنبيه على أن إثبات الصانع هو أصل باب التوحيد.
وجعل ذكر التوحيد (وذكر عدله ووعده ووعيده) باباً واحداً تقريباً وتسهيلاً للمبتدئ، وإلا فالتوحيد باب، والعدل وما يلحق به كذلك، والوعد والوعيد باب.
(واعلم أن) ما يجب على المكلف من (المهمات) في صفة اعتقاده (من) فن (أصول الدين ثلاثون مسألة) في التوحيد عشر، وفي العدل وما يتبعه عشر، وفي الوعد والوعيد وما يتصل بذلك عشر، وإنما قدم التوحيد على العدل؛ لأن بعض مسائله دالة على بعض مسائل العدل، وباقي مسائله تابعة ودليل الشيء مقدم عليه.
وأيضاً: فإن التوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته، والعدل كلام في أفعاله، ومهما لم تُعلم ذاته وصفاته لم تُعلم أفعاله.
وقدّم العدل على الوعد والوعيد؛ لأن في بعض مسائله دلالة على مسائل الوعد والوعيد، ولأن من جملة مسائل العدل إثبات كون القرآن كلام الله، والوعد والوعيد كلام في أنه قد وعدنا فيه وتوعدنا، وأنه لا يُخلفُ الوعد والوعيد، ولا يمكن أن نتكلم في أنه وعد ووعيد، وأنه لا يخلفه حتى نعلم كون القرآن كلامه، وألحقت سائر مسائل العدل بمسألة القرآن اتباعاً؛ لأنهما من بابٍ واحد.
باب التوحيد
قال القرشي: هو في اللغة: عبارة عن فعل ما يصير به الشيء واحداً انتهى.
يقال: وَحَّد الشجرة إذا فعل فعلاً تبقى به واحدة كقطع أغصانها، وإبقاء أصلها، وفي عرفها: هو الخبر عن كون الشيء واحداً.
وفي اصطلاح المتكلمين: هو العلم بالله تعالى، وما يجب له من الصفات، وما يستحيل عليه منها، وأنه لا ثاني له يشاركه في ذلك الحد الذي يستحقه.
وقال علي عَلَيْهِ السَّلامُ لما سُئِلَ عن حد التوحيد: (هو أن لا تتوهمه) ومعناه: أن كل ما خطر ببال ذوي الأفكار فبمعزل عن حقيقة ملكوته، وجميع ما تنعقد عليه ضمائر أولي الأبصار فعلى خلاف ما ذاته المقدسة عليه من نعوت جبروته، لا تدرك كنه عظمته الأفهام، ولا يبلغ شأو كبريائه الأوهام، جلَّ عما يجول به الوسواس، وعظم عما تُكَيِّفه الحواس، وكَبُر عما يحكم به القياس، إن قيل: أين؟ فهو سابق للمكان، أو قيل: متى؟ فهو سابق للزمان، أو قيل: كيف؟ فقد جاوز الأشباه والأمثال، وإن طُلِب الدليل عليه فقد غلب الخبر العيان، وإن طلب البيان فالكائنات بيان وبرهان؛ فهو تعالى بخلافها في الذات والصفات، وهو الوصف الذي به التمايز بينه وبين العوالم، وإن اختلفت العوالم في صفةٍ فإنها توافق في أخرى؛ فهو تعالى بخلاف الأشياء كما أشار إليه القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- ذكر ذلك بعض العارفين. ويشتمل هذا الباب على عشر مسائل:
(المسألة الأولى: في أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره)
ولا كلام في وجوب تقديم هذه المسألة على سائر مسائل الإثبات؛ إذ الكلام على كل واحدة منها لا يتأتى إلا بعد تحقيق هذه المسألة، فإنه قد تقرر وثبت أنه لا يمكن العلم بالحال إلا مع العلم بالذات.
والمراد بالعالم: المخلوقات من السموات والأرض والحيوانات وغيرها، قال الجوهري: العالم الخلق، والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق.
وقد اختلف أصحابنا هل من العقلاء من ينكر أن للعالم مؤثراً، ويزعم أنه حاصل لا عن تأثير مؤثر، ولا يوجد في ذلك مخالف على الجملة، وإنما الخلاف في التفصيل، والذي عليه الجمهور: أن الخلاف واقع في المؤثر جملة، كما أنه واقع فيه تفصيلاً، وأن من الناس من لم يثبت مؤثراً قط فقد رويَ نفي المؤثر عن الملحدة، والدهرية، والفلاسفة المتقدمين، والطبائعية، والذي عليه أهل الإسلام والكتابيون والبراهمة وبعض عُبّاد الأصنام، وهم فرقة أقرت بالله وبالبعث وبالرسول، وعبدوا الأصنام معتقدين أن عبادتهم تقربهم إلى الله تعالى أن لهذا العالم صانعاً مختاراً.
(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح الذي هو مذهب أهل الإسلام ومن تابعهم من وجوه كثيرة، اعتُمد منها على دلالة الأكوان وطريقة الدعاوي، وأول من حررها ولخصها قيل: أبو الهذيل وتابعه عليها مَن بعده من المعتزلة.
وذكر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص: أن أول من أشار إليها إبراهيم -صلى الله عليه- كما حكى الله عنه في آية الأفول، وهو (أن هذه الأجسام) على تنوعها من حيوان وجماد، ونام وغير نام (محدثة) والمحدث: هو الموجود الذي لوجوده أول (والمحدث لا بد له من محدث) وقالت الدهرية: بل هي قديمة لم يسبق وجودها عدم، ولا يخالفون في تراكيبها كالحوادث اليومية أنها محدثة (والذي يدل على) إبطال مذهبهم (أن هذه الأجسام محدثة أنها لم تخل من الأعراض المحدثة) ولم تتقدمها، وما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله، وهذه الدلالة مبنية على أربع دعاوٍ وهي: أن في الجسم أعراضاً غيره، وأنها محدثة، وأن الجسم لم يخل منها ولم يتقدمها، وأن مالم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث، فهذه أربع.
أما الأولى: وهي أن في الجسم عرضاً غيره، والعرض في اللغة: هو ما يعرض في الوجود ويقل لبثه.
وفي الاصطلاح: الحادث الذي لا يشغل الحيز، وهذا العرض هو غير الجسم عند مثبتي المعاني.