قيل: وهما مسبوقان بالإجماع، وليس المراد بكونه مجتهداً أن يكون حافظاً لأقوال الفقهاء وكتبهم وترتيب أبوابها، مستحضراً لجميع المسائل، فإن مثل ذلك لا يكاد يتفق، ولكن لا بد من أن يتمكن من إيراد الأدلة وحمل المتشابه على المحكم، وترجيح بعض الأقوال الفقهية على بعض، ولا بد أن يكون مجوداً في علم الكلام حتى يتمكن من إرشاد الضال وحل الشبهة، ولن يتفق له ما تقدم إلا بأن يكون له علم بالأصول، فيكون عالماً بأنواع الخطاب التي هي الأمر والنهي والخبر ونحو ذلك؛ لأنها هي الأدلة، وكيفية دلالتها وكيفية الاستدلال بحقائقها، ومجازاتها وصريحاتها ومفهوماتها ومفرداتها ومشتركاتها، ويعلم الخاص لئلا يلغيه، والناسخ لئلا يَعْمَل على المنسوخ، وكذا في سائر أبواب أصول الفقه، ولا بد أن يكون مجوداً في العلم بكتاب الله، فيعلم منه ما يتعلق بالشرعيات، قيل: وهي خمسمائة آية، وقيل: أكثر، وليس من شرطها أن يحفظها، ولكن يعلم مواضعها؛ ليطلبها عند الحاجة، وأن يكون مجوداً في العلم بالسُّنة، فيعلم أيضاً ما يتعلق بالاجتهاديات، وكذلك يعلم أحوال الرواة، وكيفية الرواية، ووجوه الترجيح، وقيل: لا يشترط.
قال في ديباجة البحر ما لفظه: فأما عِلْمُ أحوال الرواة تفصيلاً، وانتقاد أشخاصهم جرحاً وتعديلاً فقبول المراسيل أسقطه، وإنكاره سفسطة، فإنه لما كان غاية محصوله التظنين، ولم يستثمر به العلم اليقين حكم فحول علماء الأصول بقبول مراسيل العدول، وأن رواية العالم العدل تعديل حيث لا يرى قبول المجاهيل. انتهى.

قال الإمام عزالدين: قلت بالغ -عَلَيْهِ السَّلامُ- في تسهيل الأمر وتيسيره كما بالغ حي السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في تنكيده وتعسيره، وخير الأمور أوسطها، ولا أقل للمجتهد أن يطلع على نبذة وافية من علم الحديث وأحوال الرجال، وما يفتقر إليه الإسناد، ولا بد أن يكون مجوداً في علم العربية، فيعلم ما يحتاج إليه، كمختصر في النحو، وطرف من اللغة، والعلم بطرق المعاني والبيان، فقد عرفت بذلك بيان ما يحتاج إليه، وهو علم الأصوليين على خلاف في أصول الدين، لكن ينبغي التحقيق في أصول الدين فإنه أساس الاجتهاد، وعلم شيء من أحكام القرآن ومن السنة، ككتاب الشفاء، أو سنن أبي داود، وعلم العربية فهذه خمسة علوم.
وأما المنطق فمنهم من اعتبره، والأصح أنه غير محتاج إليه.
وأما الفقه فقيل: لا يحتاج أن يعلم منه إلا مسائل الإجماع القطعية لئلا يخالفها باجتهاده، وأما المسائل غير المجمع عليها فليس العلم بها من علوم الاجتهاد، وإنما هي تستنج بعلوم الاجتهاد، فإنه إذا علم مسائل الإجماع وآيات الأحكام، وجملة صالحة من الأخبار مع ما تقدم أرشده ذلك إليها.
وأما الفقيه حميد فإن في كلامه ما يقضي بأنه لا بد أن يكون له معرفة في الفقه في مسائل الإجماع وغيرها، وقد ذكره غيره.
قال الإمام يحيى: ولا يلزم الإحاطة بجميع الإجماعات، بل يكفيه أن لا يفتي بحكم قد وقع الإجماع على خلافه.
قال الإمام عزالدين عادت بركاته: تنبيه: اعلم أن أقوال العلماء مختلفة في تبعيد الاجتهاد وتقريبه، وتيسيره وتعسيره، وكثيراً ما يذكر الأصحاب أنه يكفي في الاجتهاد قراءة كتاب من كل فن، وإن كان مختصراً، كالخلاصة في الكلام، والمجزي أو الفائق في الأصول، ومعرفة آيات الأحكام، ومعرفة كتاب من كتب الحديث كالسنن لأبي داود أو شفاء الآوام ومقدمة طاهر أو ابن الحاجب، وكتاب المجمل لابن فارس في اللغة ونحو ذلك.

والتحقيق: أن مثل هذا لا يقف على تحديد، فإن أحوال القراءة وطلب العلم يختلف، فمنهم من يستثمر ويستفيد بأيسر علاج، ومنهم من لا يتم له ذلك إلا بعد التعب والنصب، وكثرة مدارسة الكتب، وذلك لأن العلوم منح إلهية ومواهب اختصاصية.
(و) الثاني من الستة (الورع) ومعنى الورع: الكَف عن المحرمات، والقيام بالفرائض الواجبات، واشتراطه مذهب الزيدية وجماهير العدلية وغيرهم.
قال الإمام يحيى: ولا يشترط حصول أعلى مراتب الكمال والورع والزهد، ولكنَّ مقدار الغرض يحصل بمجانبة الكبائر، والتنزه عن الأمور المستسخفة، انتهى.
وقالت الحشوية: لا يشترط ذلك؛ لأنهم لا يشترطون إلا التغلب على الأمر، لنا قوله تعالى: {وَلا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124] فإن المراد بالعهد الإمامة على ما يقضي به سياق الآية. قال جار الله عند تفسير قوله تعالى: {وَلا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]: أن من كان ظالماً في ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم...إلخ ما قاله، وقد استدل على ذلك بالإجماع أيضاً من الصحابة.
(و) الثالث (الفضل) ولا خلاف فيه، فإن الصحابة فزعوا يوم السقيفة إلى ذكر المناقب والمفاخر، فعد الأنصار فضائلهم، وحَاجَّهم أبو بكر بتقرير امتياز المهاجرين بالفضل، واختلف ماذا أريد بالفضل، فقال (ص) بالله: ليس بشرط زائد، بل المرجع به إلى جمع الشرائط التي للإمام التي هي العلم والورع، والسخاء والشجاعة، والقوة على تدبير الأمور وسياسة الجمهور، وهو اختيار غيره أيضاً -عَلَيْهِ السَّلامُ- فلا ينبغي أن يعد شرطاً مستقلاً، وقيل: المرجع به إلى الصلاح في الدين والعفة، فيكون معناه معنى الورع.

قال بعضهم: الأصح أن المراد به أن يكون له من المحافظات على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعتاد كثير من الصالحين، ويكون بينه وبين القبيح حاجز كما هو شيمة كثير من الصالحين من اعتياد كثير من الطاعات غير الواجبة، وتجنب كثير مما لا يُقطع بقبحه، كما قيل: إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وليس المراد بالأفضل أن يكون أكثر ثواباً قطعاً، واختلف في هل يجب أن يكون أفضل أهل زمانه أولا؟
فقالت الإمامية: يوجب ذلك وقت الصحابة وبعدهم، وقال أكثر المعتزلة والصالحية من الزيدية رواه عنهم ابن الملاحمي في الفائق: يكفي أن يكون من جملة أفاضلهم وقت الصحابة وبعدهم، واستدلوا على ذلك بأن المرجع بالفضل إلى كثرة الثواب، وذلك مجهول. وأيضاً فمعرفة الأفضل متعذرة بعد وقت الصحابة؛ لكثرة الفضلاء وخفائهم، وأيضاً فقد جعل عمر الشورى في ستة متفاوتين في الفضل ولم ينكر عليه. ومنهم من قال: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في وقت الصحابة وبعدهم، وقد نسبه كثير من أصحابنا إلى الزيدية.
قيل: وممن نص على ذلك الهادي -عَلَيْهِ السَّلامُ- والقاسم والناصر والمؤيد، وحجة أهل هذا القول: أن الإجماع منعقد على جواز إمامة الأفضل، ولا دليل يدل على جواز إمامة المفضول، من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب قصرها على الأفضل، وما سبق من الصحابة من عد الفضائل وتقرير الامتياز فيها، ويمكن أن يقال: ليس عدم الإجماع على جواز إمامة المفضول يقدح في ذلك؛ لأن الأدلة قد دلت على وجوب الإمامة وعلى أن الإمام لا بدَّ له من شرائط، وقد حصلت في حق المفضول وافية، فعلى المانع من صحة إمامته الدليل، وأما فزع الصحابة، فإنما يؤخذ منه أنَّ الأفضل أولى ونحن لا ننكر ذلك.
(و) الرابع (الشجاعة): والمراد أن يكون له من رباط الجأش ما يتمكن معه من تجييش الجيوش، والوقوف في الصفوف، وتعبئة العساكر وحثهم على القتال.

قال الإمام يحيى: ولا يلزم أن يكون حاصلاً في الرتبة العلياء من الشجاعة.
قال الفقيه حميد: الواجب أن يُعَدْ واحداً من الشجعان سواءً حصل ذلك بالقتل والقتال، أو بما يقوم مقامه من المواقف التي يعلم بها ثبات القلب كما روي في مواقف زيد بن علي مع هشام بن عبد الملك، والذي يدل على وجوب اعتبار الشجاعة أن الأمة أجمعت على ذلك، وإجماعها حجة واجبة الاتباع.
(و) الخامس (السخاء) فلا بد أن يكون سخياً سخاءً متوسطاً، فلا يكون معه من الشح ما يمنعه من وضع الحقوق في مواضعها ويؤدِّي إلى البخل المؤدي إلى التقتير الذي نهى الله عنه، ولا يكون معه من الكرم ما يُضيِّع به أموال المسلمين فيتضرر أهل الحقوق بفواتها، ويتطلب هو الشيء وقت الحاجة فلا يجده، وإنما اشترط السخاء؛ لأنه لو لم يكن سخياً لانتقض الغرض بإمامته؛ لأن من جملة ما تُراد له الإمامة أخذ الحقوق ووضعها في مستحقها، ومهما لم يكن كذلك بطل الورع، والدليل قد دل على وجوبه، قيل: ولدخوله في الورع لم يعده بعضهم شرطاً مستقلاً.
(و) السادس القوة على (تدبير الأمر) وقد فُسِّر ذلك بأمرين: أحدهما: السلامة من الآفات، فلا يكون أعمى ولا أصم ولا أبكم؛ لأنه إذا كان كذلك انتقض الغرض بإمامته، إذ لا يتمكن مع ذلك من ضبط الجنود وتقويم أود العساكر، والاهتداء إلى مصالحهم ونظم أمورهم وغير ذلك من مباشرة الأمور المتعلقة به، والإجماع على اعتبار ذلك فيه.
وقيل: أن يكون ذا رأي سديد وتدبير مفيد، فإنَّ فُقِدَ الرأي الصائب، يجلب المصائب، فلا بد أن يكون معروفاً بحسن السياسة.
قال الإمام يحيى: وحاصله أن يكون ذا رأي ومكانة بتدبير الحرب والسلم ويشتد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين، ولا يلزم أن يكون بالغاً في العلم والأناة كل الغاية، فإن هذا متعذر، ولكن يكون بحيث لا يستفزه الطيش ولا يزعجه الفشل.

ومما أهمله المصنف من الشروط أن لا يكون ذلك الخليفة مسبوقاً، بأن يكون قد دعا قبله صالحٌ للإمامة، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من الزيدية والمعتزلة وغيرهم من أنه لا يصلح قيام إمامين معاً في عصر واحد، ولا قيام المتأخر منهما، وقد خالف في ذلك عباد بن سليمان ومحمد بن سلام الكوفي، وعزاه في الإبانة إلى كثير من السادة والعلماء، والحجة على منع ذلك إجماع الصحابة؛ لأنهم رجعوا إلى ذلك بعد الاختلاف وقرروا ما قاله عمر: سيفان في غمد لا يصلحان، سمعه بعضهم ولم ينكره الآخرون فكان إجماعاً، واحتُج على ذلك بإجماع أهل البيت عليهم السلام، فإن الظاهر منهم أنهم كانوا ينقادون لقائمهم عند قيامه ولا يظهر عنهم جواز إمامة غيره.
وأما ما ذهب إليه الناصر -عَلَيْهِ السَّلامُ- وهو أحد قولي (م بالله) وهو مذهب الجاحظ وعباد، فكلهم يشترطون تباعد الديار وقطع سلاطين الظلم بينهما، فقد قال الفقيه حميد في رده: لو جاز ثبوت الإمامة لإمامين إذا تباعدت الديار وجب مثله إذا تقاربت، كما في القضاة والأمراء، بل تجوز إمامة كثير في عصر واحد، وذلك فاسد، وكان يجب إذا التقيا أن لا تنفسخ إمامة أحدهما؛ لأن في الإمكان رجوعه إلى مُستَقَرّه، ولا خلاف أن إمامة أحدهما تنفسخ عند ذلك، انتهى قول الفقيه.
قلت: ولا يخفى أن قياس البعد على القرب بعيد جدَّاً، وكيف يقاس ما الغالب معه عدم التناقض الذي هو موجب لبطلان القول بإمامين على ما الغالب معه التناقض في الأحكام، وأيضاً فإنه قد أشار إلى ذلك عمر بقوله: في غِمدٍ، إذ مع التباعد لا يكونان في غمد، وأيضاً فلا يبعد إجماع الصدر المتأخر على القول بذلك كما لا يخفى، فإن مَن ببلاد الجيل والديلم ونحوهما لا يتفوه بخطأه في قيامه على من باليمن وكذلك العكس، والمانع الذي منع منه في الجهات المتقاربة منتفٍ مع التباعد.
وأما الشرط الثاني عشر: وهو أن الإمامة في أولاد الحسنين.

فقد اختلف الناس في ذلك، فقال به أهل البيت -عليهم السلام -إلا من ذهب مذهب الإمامية منهم والجارودية، ومنعه أكثر الناس المعتزلة والصالحية من الزيدية والخوارج والمجبرة وسائر الفرق الإسلامية.
(والدليل على ذلك) وهو القول بأن الإمامة محصورة في أولاد البطنين دليلان شرعيان: أحدهما: إجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة، وإنما قلنا: إنهم أجمعوا على ذلك؛ لأنه هو الظاهر من مذهبهم المشهور في كتبهم.
فإن قيل: كيف يصح إجماعهم مع أن فيهم إمامية يدّعون قصرها في أولاد الحسين؟
قلنا: إن مذهب الإمامية في العترة حادث، وقد سبق انعقاد الإجماع في الصدر الأول على جواز الإمامة في البطنين، فلا يُعتَد بخلاف من يخالف منهم، وذلك الإجماع ظاهر من حالهم، فإنهم كانوا يُطبِقُون على إمامة القائم منهم حسنياً أو حسينياً، ولذلك لم يخالف أحد منهم في إمامة النفس الزكية محمد بن عبدالله، ولا في إمامة أخيه إبراهيم ولا في إمامة الفخي وكلهم من أولاد الحسن.
قال في العمدة: وذلك معلوم ضرورة من حالهم لمن عرف الآثار وسمع الأخبار فلا معنى لمباهتة الإمامية في شيء منه، وأيضاً فإن خلاف الإمامية ليس في محل النزاع، وهو عدم جواز الإمامة في غير أولاد الحسنين، بل هم موافقون في ذلك، وإنما بالغوا فيه فقصروها على بعضهم، فإذاً لا خلل في دعوى الإجماع على محل النزاع.

الدليل الثاني: (أن الأمة قد أجمعت على جواز الإمامة في ولد البطنين بعد قيام الدليل) القاطع (على بطلان قول أصحاب النص من الإمامية) وذلك بما قدمناه من الإجماع من الصدر الأول على خلافه، وذلك لأنهم إنما عولوا على النص بأن الإمامة لا تجوز إلا في عدد مخصوص من أولاد الحسين، وإذا ثبت بطلانه بإجماع العترة السابق سقط ما بنوه عليه؛ لأن العترة وكذلك الأمة إذا افترقت في المسألة على قولين ثم ثبت بطلان أحدهما تعين الحق في القول الآخر؛ لأنه لو بطل مع بطلان الأول لأدَّى إلى خروج الحق عن أيدي الأمة بموجب أنهم قد صاروا كلهم قائلين بقولين باطلين في مسألة واحدة وخروج الحق عن أيديهم يبطل كون إجماعهم حجة واجبة الاتباع، وهذا التقرير كافٍ في بطلان قولهم.
وإنما قلنا: إن الأمة أجمعت على ذلك لأن من أجازها في جميع الناس فقد أجازها فيهم؛ لأنهم خير الناس، ومن أجازها في قريش فقد أجازها فيهم؛ لأنهم خير قريش، (ولا شك أنه قد اختُلِفَ فيمن عداهم) ولم يدل دليل على جوازها فيه، فإن الخلاف لمن قال بجوازها في سائر الناس ظاهر بل لا يبعد أن يقال: إنه مخالف لإجماع الصحابة، وأما الخلاف لمن قال: بجوازها في قريش دون من عداهم، فإنه للعترة عليهم السلام، فإنهم يقولون بجوازها فيهم، وعدم جوازها في غيرهم، (و) إذا كانت الأمة قد أجمعت على ذلك فإن (إجماعهم حجة واجبة الاتباع).

فإن قيل: إن إجماع من عدا أصحاب النص ليس إجماعاً على محل النزاع، وهو جوازها فيهم، وعدم جوازها في غيرهم، ولم يُجمِع الناس على ذلك؛ لأن المخالف يقول: بجوازها في غيرهم وفيهم، وليس لكم أن تأخذوا بعض القول وتدَّعوا الإجماع إذ التمسك بأقل ما قيل ليس بإجماعٍ، ولهذا لما ادعى بعض أصحاب الشافعي الإجماع في قوله: إن دية الذمي ثلث دية المسلم، واحتج لذلك بأن الأمة افترقت فقال بعضها: مثل دية المسلم، وقال البعض: مثل نصف ديته، فلا بد أن يكونوا قد اتفقوا على قول الشافعي، وهو وجوب الثلث، فقال العلماء: لا يصح دعوى الإجماع على قول الشافعي؛ لأن القولين الأولين قد اشتملا على وجوب الثلث وزيادة، وقول الشافعي قد انطوى على وجوب الثلث، ونفي الزيادة، فلم يقع إجماع على هذا، كذلك هذه المسألة؛ لأن قول بعض الأمة قد انطوى على جوازها فيهم عليهم السلام، وجوازها في غيرهم، وقول البعض الآخر قد انطوى على جوازها فيهم، ونفي جوازها في غيرهم، فلم يقع إجماع على هذا القول الأخير، وإنما وقع الإجماع على بعضه؟

فالجواب: أن ظاهر احتجاج أصحابنا يقضي بما ذكرته، ولكن نسلك في الاحتجاج بهذا الدليل إلى مسلك آخر لا يبقى فيه مطعن، فنقول: إنَّ جواز الإمامة فيهم عليهم السلام وفي غيرهم حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل قاطع، وقد ثبت لنا بالطريقة القاطعة جوازها فيهم -عليهم السلام- لأنه لما افترق الناس على قولين: أحدهما: قول أصحاب النص، والثاني: قول بقية الأمة، وقد ثبت بالدليل القاطع بطلان قول أصحاب النص وتعين الحق في قول الباقين، وصارت صحته قطعية وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة، فثبت لنا جوازها فيهم -عليهم السلام- بدليل قاطع، ولم يحصل دليل قاطع مثل هذا على جوازها في غيرهم، والأصل عدم الجواز فيبقى هذا الجواز في حق غيرهم منتفياً على الأصل، وعدم الدليل في الشرعيات دليل على العدم، وإلا لجوَّزنا تكاليف شرعية ولا دليل عليها، وفيه هدم الشرائع وبطلان التكاليف وأنه محال.
فإن قيل: لا نُسلِّم أن الأصل عدم الجواز، بل الأصل بعد ثبوت وجوب الإمامة، ولزوم نصب الإمام جوازها فيمن صلح لذلك وحصل بقيامه وانتصابه الغرض المقصود منها، فإذا كان المقصود من الإمامة حفظ بيضة الإسلام وحماية سرحه أن يضام، وسد الثغور، ونظم أمور الجمهور، وإقامة الجمع والحدود، ونصب الحُكَّام، وقبض أموال الله وصرفها في مصارفها، وأداء فريضة الجهاد، وإجراء جميع ما ذكر على القوانين الشرعية والقواعد النبوية المرضية، فمن المعلوم أن ذلك لا يتوقف على منصب مخصوص ولا يتعذر فيمن صلح له من غير أهل البيت، فيعلم جواز إمامة من صلح لذلك منهم ومن غيرهم، ويكون ذلك هو الأصل المرجوع إليه إلا لدليل ينقل عنه، وقد ادَّعى الإمام المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ- أن قيام الدليل الشرعي على وجوب الإمامة كما يدل عليه، فهو يدل على جواز نصب كل من صلح للقيام بالمقصود منها، ويحصل العلم بذلك، قرشياً كان أو غيره، هاشمياً كان أو غير هاشمي.

15 / 16
ع
En
A+
A-