ومما استُدِلّ به على الوجوب، قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38] ونحوه، وقد أجمعت الأمة على أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو من ناب من قبله؛ لقوله ً: ((أربعة إلى الولاة: الحدود والجمعات والفيء والصدقات)) فيجب نصب الإمام؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به ولم يرد الأمر مشروطاً به فإنه يجب تحصيله، وهذا الدليل هو الذي اعتمده القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- وأبو علي وأبو هاشم في بعض كتبهما، ولسنا بصدد تصحيح المقالة في ذلك حتى نورد ما ورد عليه من الإشكالات وحلها، إذ ليس ذلك إلا كالمقدمة لما قال المصنف من أن (الإمام بعد رسول الله ً بلا فصل علي بن أبي طالب)، وهذا كلام أهل البيت -عليهم السلام- وأكثر الزيدية ما عدا الصالحية منهم، فذهبت هي والمعتزلة وسائر الفرق إلى أنه أبو بكر، وتتفق الزيدية جميعاً على أن علياً هو الأفضل والأولى بالإمامة، (والدليل) لنا (على ذلك) النص والوصاية، والتفضيل والعصمة، وإجماع أهل البيت -عليهم السلام-، وكفى به دليلاً، أما النص فـ(قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ})[المائدة: 55] ووجه الاستدلال بهذه الآية أنها نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فقط، فقد أثبت الله له فيها الولاية كما أثبتها لنفسه ولرسوله، والولاية هنا هي ملك التصرف، وذلك معنى الإمامة.
وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول: أحدها: أنها نزلت في علي، والثاني: أن المراد بها الرئيس الذي يلي التصرف، والثالث: أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول: وهو أن الآية نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وصفة ذلك ما روي أن سائلاً كان يسأل في مسجد الرسول ً والناس بين قائم وراكع فلم يعطه أحد شيئاً، فقال: اللهم إني أشهدك أني سألت في مسجد رسول الله ً فلم أُعطَ شيئاً، وعليٌ في حال الركوع فأشار إليه بخاتمه فنزعه وأخذه السائل، ونزلت الآية على النبي ً فخرج والناس بين قائم وراكع، فبصر بالسائل فقال: ((هل أعطاك أحد شيئاً؟)) قال: نعم، وأشار إلى علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فتلى ً الآية.
وعن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} الآية...، رواه ابن أبي حاتم، وروى نحوه ابن جرير عن مجاهد وعن الضحاك عن ابن عباس قال: كان علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- قائماً يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية...، رواه ابن مردويه، والضحاك لم يلقَ ابن عباس، وأخرج نحو الرواية الأولى وفيها قال: فكبر رسول الله ً عند ذلك وهو يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56] إلى غير ذلك من الروايات، ومما يدل على نزولها إجماع أهل البيت، رواه القرشي.
وفي الأساس: لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة وشيعتهم على ذلك، انتهى.
وما يدل على ذلك، أن الله تعالى وصفه بصفة لم توجد في غيره، وهو إيتاء الزكاة حال الركوع.
قال الإمام المنصور بالله: وبالاتفاق أن أحداً من لدن آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ- لم يؤت الزكاة حال الركوع إلا علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وقد ثبت بالنقل الظاهر المشهور في كتب أكثر المفسرين وأهل التواريخ، ومن طرق أهل البيت -عليهم السلام- ورواياتهم أنها نزلت في علي، وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع، انتهى كلام المنصور.
قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب -عَلَيْهِ السَّلامُ- في كتاب زيادات شرح الأصول ما هذا لفظه: ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وقال في محاسن الأزهار للفقيه حميد -رحمه الله تعالى- بإسناده، قال: قال عمر بن الخطاب: أخرجت مالي صدقة فتُصُدِقت بها عني وأنا راكع أربع وعشرون مرة على أن ينزل فيَّ مثل ما نزل في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فما نزل، وإذا ثبت أنها نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لما ذكر من الإجماع ومن النقل المتواتر لم يكن لما أورد من التشكيك ثمرة فلا حاجة لنا إليه.
وأما الأصل الثاني: وهو أن المراد بالولي في الآية الرئيس الذي يلي التصرف، فالذي يدل على ذلك أن هذه اللفظة وإن كانت مشتركة بين المود والناصر والأولى والرئيس الذي يلي التصرف، فقد صار الغالب عليها بعرف الاستعمال الرئيس؛ لأنها متى أطلقت فقيل: فلان ولي القوم سبق إلى الفهم أنه رئيسهم الذي يلي التصرف، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}[الأنفال:34].
وعلى الجملة فذكر الولاية بمعنى الرئاسة في اللغة أكثر من أن يحصر، وكلمة ولي وإن كانت مشتركة كما ذكرتم ولم تسلموا، سبق الرئاسة إلى الأفهام، فإنه يجب حملها على كل معانيها الغير الممتنعة على قاعدة أئمتنا والجمهور بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب:56] وهي من الله معظم الرحمة، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار.
ومما يوضح أن المراد بالولي الوالي للتصرف في أمورهم: أنَّ الله تعالى أخبر أنه ولينا، وإنما أراد بذلك أنه المالك للتصرف علينا، ثم عطف رسوله فأثبت له من ذلك ما أثبت لنفسه من ملك التصرف على المؤمنين، ثم ثلث بأمير المؤمنين، فوجب أن يثبت له مثل ذلك ليصح معنى العطف في الكلام، كما أن القائل إذا قال: رأيت زيداً وعمراً أفاد رؤية عمرو كما يقضي أول الكلام برؤية زيد.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: هكذا قرره الفقيه حميد، وهو كلام جَيِّد.
وأما الأصل الثالث: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنا لانعني بالإمامة إلا الرئاسة في أمور مخصوصة، وهذا واضح والذي يمكن الخصم أن يقول هاهنا أن الآية وإن اقتضت ثبوت ولاية له -عَلَيْهِ السَّلامُ-، فإنها اقتضت ولاية مطلقة وتصرفاً مطلقاً، وليس تقتضي الولاية في الأمور المخصوصة، وليس يلزم من ثبوت الولاية المطلقة ثبوت الولاية المقيدة كما لا يلزم من ثبوت الولاية في النكاح ثبوت الولاية التي هي الإمامة، ويمكن الجواب: أنها إذا اقتضت ثبوت الولاية المطلقة لشخص معين اقتضى ذلك عموم الولاية في كل شيء، إلا ما خصه الدليل والإجماع، وقد أُخرج ما عدا هذه الأمور المخصوصة بالإمامة، حتى لولا الإجماع لثبتت له الولاية في أمور المسلمين كلها دينها ودنيويها.
(و)أما الدليل الثاني مما يدل على إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (ما روي عن النبي ً أنه قال لعلي يوم غدير خم) لما قفل من حجة الوداع ونزل بواد يقال له: خم فيه غدير ماء ينسب إليه، فنزل ً على ذلك الغدير وكُسِحَ له ً تحت دوحات حوله وأمر منادياً فنادى: الصلاة جامعةً، ثم أخذ بيدي علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وقال: (((ألستم تعلمون أني أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) وفي رواية: ((وانصر من نصره واخذل من خذله)).
ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه ً أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- كونه مولىً لجميع المؤمنين كما أنَّ الله تعالى مولاهم ورسوله، والمولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف، وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول: أحدها: في بيان صحة الخبر، وثانيها: في أن المولى هاهنا هو الرئيس الذي يلي التصرف، وثالثها: أنَّ ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول، وهو الذي يدل على صحته: فالذي يدل على ذلك وجهان: أحدهما: إجماع العترة الطاهرة، وحكم المجمع على صحته، وأن النبي ً قاله، حكم المتواتر في نقله.
والثاني: النقل الظاهر المشتهر المتلقى بالقبول المُخرَّج في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، عن بعضهم أن طرق هذا الحديث خمس وسبعون طريقاً.
وذكر الإمام المنصور بالله أنه مأثور عن مائة رجل منهم العشرة، وأن بعض أهل العلم أفرد له كتاباً جعل طرقه مائة طريق وخمس طرق، قال ولا يوجد خبر قط نقل بطُرقٍ مثل هذه الطرق.
وقد ذكره الترمذي في جامعه من رواته زيد بن أرقم وأحمد بن حنبل عن رواية البراء بدون الزيادة: ((وانصر من نصره))، وفيه فلقيه عمر وقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
قال أصحابنا: هذا الخبر متواتر، وقال المنصور بالله في الشافي: وقد تجاوز هذا حد التواتر.
وأما الأصل الثاني: وهو أن المولى هنا السيد والرئيس، فإنه أقرب إلى معنى ذلك من الولي، وقد تقدم ما قلنا فيه، ولو سلمنا أنه غير غالب فيما ذكر فقد حصل في الحال وللفظ قرائن تدل على أن المراد ما ذكرنا، أما القرائن الحالية فهو أنه ً نزل يوم الغدير نزولٌ مُهمٌ بأمر عظيم، وليس إلا للإخبار بأنَّ علياً -عَلَيْهِ السَّلامُ- مولى لمن هو ً مولاه، وذلك إنما يكون إذا أراد الرئاسة وولاية التصرف؛ لأن ما عدا هذا من المعاني مما يعلم بطلانه، نحو كونه مُعتِقاً لمن أعتق، وكونه ابن عم للناس، ومنه ما هو داخل تحت ما ذكرنا من كونه ناصراً لهم ومُوِداً؛ لأن الأخبار بمثل ذلك لا تحتمل تعظيم الموقف والنزول في غير وقته وموضعه إن احتمل أن يدخل تحت كونه رئيساً لهم يلي التصرف؛ لأن رئيس القوم أشد الناس عناية في نصرتهم ومودتهم، وجلب النفع إليهم معروف عند أهل كل زمان.
وأما القرينة اللفظية: فإنه ً لما قرر ثبوت ولايته بقوله: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) والمراد وجوب طاعته على الأمة مطابقة لما أثبته الله من الولاية بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] عقب ذلك بقوله: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) أي من كنت أولى به فعلي أولى به، ليتطابق الكلام وينخرط في سلك الانتظام، (وإذا ثبت ذلك فهو صريح) على إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ- بما ذكرنا.
وأما الأصل الثالث: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنا لا نعني بالإمامة إلا الرئاسة في هذه الأمور المخصوصة، وهذا ظاهر.
(ومما يدل على ذلك) من السنة أيضاً (ما روي عن النبي ً أنه قال له: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))) ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة، (ولا شك أن منازل هارون أنه خليفته على قومه) كما قال الله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}[الأعراف:142] وهذه الدلالة تنبني على أربعة أصول: أحدها: أن الخبر صحيح، وثانيها: في أنه ً أثبت لعلي جميع المنازل إلا النبوة، وثالثها: أن من جملة المنازل الخلافة، ورابعها: أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول في صحته: فعليها دليلان: أحدهما: إجماع العترة الطاهرة، والثاني: النقل الظاهر المشهور.
قال المنصور بالله: فيه من الكتب المشهورة الصحيحة عند المخالفين أربعون إسناداً من غير رواية أهل البيت وغيرهم من الشيعة، ثم قال بعد ذلك: والخبر مما علم ضرورة، قال في العمدة: واختلف علماؤنا -رحمهم الله- في العلم به، فمنهم من ادعى كونه معلوماً بالاضطرار، وأجراه مجرى الخبر الأول في كونه متواتراً، ومنهم من قضى بصحته، ولم يقض بكونه متواتراً، بل سلك في صحته طريقة الإجماع، وهذا بعد الاتفاق على كونه معلوم الصحة، قال في تعليق الشرح: والإجماع على صحته يقع به العلم بأنه ً قاله، وإن لم يحصل من طريق التواتر.
قال الإمام عزالدين: قلت: وممن صرح بتواتره العلامة المحدث يوسف بن عبد البر، فإنه ذكر الحديث في مختصره لسيرة ابن هشام، قال: والآثار بذلك متواترة صحاح، انتهى.
قلت: وممن صرح بتواتره، والإجماع على صحته. الإمام الأعظم القاسم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وأما الأصل الثاني: وهو أن النبي ً أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة: فذلك ينبني على أن لفظ المنزلة تقتضي الاستغراق؛ إذ الاستثناء معيار العموم بدليل أنه لو قال: لا نبي بعدي ولا أحد يلي من الأمر ما وليت، ولا يخلفني على أمتي لصح.
وأما الأصل الثالث: وهو أن من منازل هارون من موسى الخلافة: فإن منازل هارون من موسى كثيرة، وهي موجودة في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- منها الأخوة، ومنها المؤازرة وشد الأزر، ومنها أن هارون كان أحب الناس إلى موسى.
أما الأخوة: فدليلها ما هو معلوم مشهور من مؤاخاة النبي ً بين كل اثنين من الصحابة وجعل علياً أخاه.
وأما المؤازارة وشد الأزر: فلأنه كان أحسن الناس بلاءً في الإسلام، وهذا مما لا شك فيه.
وأما المحبة: فلحديث الطير وغيره، ولما بينهما من حصول أسباب المحبة من المؤازرة والأخوة والنسب والمصاهرة، ومن جملة منازل هارون من موسى الخلافة كما قال تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}[الأعراف:142] فيجب ثبوت جميع هذه المنازل إلا النبوة، ومن جملتها الخلافة.
وأما ما يُعتَرَضُ به هذا الخبر من أنه إنما كان يثبت ذلك لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لو كان عاش هارون بعد موسى كما عاش علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- بعد محمد ً فلأنا نقول: لو عاش هارون بعد موسى لكان خليفة بالاتفاق، فكذلك علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-، ولا يشترط الاتفاق في العمر، كمالا يشترط الاتفاق في الطول والقصر ونحو ذلك.
وأيضاً قوله ً: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) إشارة إلى أنَّ علياً يفارق هارون في هذه الجملة التي هي كونه يعيش بعده ً.
وأما ما يقال: أنه كان يلزم أن يشارك علي النبي ً في مدة حياته في الأمور المذكورة ومن جملتها الخلافة.
فالجواب: أن تلك المشاركة في الولاية مخصوصة بالإجماع، على أنه ليس لأحد تصرف في حياته.
أما الأصل الرابع: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنه لا فرق في عرف الشرع بين الإمامة والخلافة.
(فثبت ذلك لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ-) أي كونه خليفة رسول الله ً (ودل على أنه الإمام بعد رسول الله ً بلا فصل).
تنبيه: اعلم: أن هذه النصوص الثلاثة هي التي يعتمدها أهل البيت -عليهم السلام- لظهورها ولتأديتها إلى العلم، فأما ما يوصل إلى الظن من النصوص فهي كثيرة، كحديث الطائر وهو ما رواه أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله ً طائر مشوي فقال: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فدق الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا علي، فقلت: إن النبي على حاجة، حتى فعل ذلك ثلاثاً، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل، فقال له النبيً: ما حبسك؟ فقال: قد جئت ثلاث مرات، فقال ً لأنس: ما حملك على ذلك؟ قال: كنت أحب أن يكون رجلاً من قومي)) وفي رواية أن النبي ً لما سمع صوت علي قال: ((وإلَيّ)) أي وكما أنه أحب خلق الله إليه فهو أحبهم إلي، وأنه لما اعتذر أنس بذلك قال: إن الرجل ليحب قومه. قال الإمام عزالدين: واعلم أن هذا الخبر من أجَلِّ الفضائل وأبلغها، وأدلها على فضل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وقال الفقيه حميد: لأنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- لا يكون أحبهم عند الله إلا وهو أكثرهم ثواباً وأكرمهم عنده تعالى، وهو عندهم خبر صحيح مشهور، وممن أخرجه الترمذي في جامعه، قال في كتاب (العواصم): ولقد صنَّف الحافظ العلامة محمد بن جرير الطبري كتاباً في طريق حديث الطير في فضائل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لما سمع رجلاً يقول: إنه ضعيف.
قال الذهبي: وقفت على هذا الكتاب فاندهشت لكثرة ما فيه من الطرق.
ومن ذلك خبر النجم، وهو ما روي عنه ً أنه لما انقض كوكب ذات ليلة فقال: ((انظروا إلى هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو الخليفة من بعدي)) فنظروا فإذا قد انقض في منزل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- رواه في أنوار اليقين وغيرها، وهو مما يُعزى إلى أنس.
وخبر الأتْرُجَّةِ: وهو ما رواه في الحدائق عن عبدالله قال: دخل علي يوم قَتَل عمرو بن عبدود على رسول الله ً وسيفه يقطر دماً، فقال ً: ((اللهم اتحف علياً بتحفة لم تتحف بها أحداً قبله، ولا تتحف بها أحداً بعده)) قال: فهبط جبريل -عَلَيْهِ السَّلامُ- على النبي ً بأترجة فإذا مكتوب فيها: ((هدية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب)).
وكذلك خبر المؤاخاة والأخبار الدالة على عصمته، والخبر المروي في قصة: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214] وهو ما رواه الحاكم في التهذيب عن البراء بن عازب لما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جمع بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلاً الرجل يأكل المسنة ويشرب العس، فأمر النبي ً علياً فأتى برجل شاة ثم قال: ((ادنوا بسم الله، فدنى القوم عشرة عشرة فأكلوا وشبعوا، ثم دعى بقعب من لبن فشرب منه ثم قال: اشربوا بسم الله، فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب، وقال: هذا ما سحركم به الرجل يومئذ ولم يتكلم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب، ثم أنذرهم ودعاهم إلى الإيمان، وقال: من يؤازرني ويؤاخيني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي؟ فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً والقوم سكوت، وعلي يقول كل مرة: أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت، فقاموا يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمَّرهُ عليك))