قالوا: قال ً: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، ونحوه كما رواه أبو هريرة أن النبي ً قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأنا اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة من مات إن شاء الله من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) أخرجة البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي.
والجواب: أن هذه الأحاديث لو صحت لم تخرج عن رتبة الآحاد، فإن التواتر من حقه كثرة الرواة، واستواء الطرفين والأوساط في ذلك، والمسألة قطعية على أن الحديث التالي للحديث الأول وما يشابهه ممكن التأويل بتخفيف جزء من العقاب لا يفضي إلى خلاف ما قضى به رب الأرباب، هذا مع الصحة التي بها تعارض القاطع، والذي يحسم المادة أن شفاعة النبي ً للفاسق كيف تليق بخلائقه الشريفة الفائقة أن يقول لرب العزة يوم القيامة: يا رب قد كُنتَ أنزلت عليَّ كتاباً في الدنيا وبعثتني رسولاً إلى الجن والإنس؛ لأعلِّمهم ما شرعت لهم، وآمرهم بطاعتك وأعدهم عليها ثوابك، وأنهاهم عن معصيتك، وأتوعدهم عليها بعقابك، وأنا الآن أسألك ألاَّ تفي بذلك، وأن تُصيِّر المسيء مع المحسن والمجرم مع المسلم مع قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35] هذا ممالا يستحسنه عاقل، فكيف به ً وهو الأعظم حلماً وعقلاً.

(المسألة السادسة والعشرون): في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد استشكل الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ- جعلها من أصول الدين قال: وأقرب ما يمكن تَمحُلُه أن يقال: لما كان باب الوعد والوعيد ينطوي على ذكر الطاعات والمعاصي، وما يقتضيه وما يجب من التوبة عن ترك الطاعة، وفعل المعصية، وذكر أسماء فاعليها وأحكامهم، حَسُنَ وناسب أن يردف بذكر الأمر بوجوب الطاعة والحث عليها، والنهي عن المعصية، وأن لا يترك لمريدها سبيلاً إليها، فكما أن في ذلك الباب ذكر أحكام فاعلي الطاعة والمعصية وما ينبغي من حسن المعاملة، فهذا كلام في بعض ما ينبغي أن يعاملهما به غيرهما من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي، ولو إلى حد القتال بعد تحسين المقال.
واعلم: أنه لا خلاف (أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) على كل مكلف وجوب كفاية، سواء كان ثم إمام أولا، ولا اعتداد بما يعزى إلى الحشوية من الخلاف في وجوبه قولاً وفعلاً، وأما الإمامية فلم يخالفوا إلا في كيفية وجوبه، وإلا فقد قالوا بوجوبه قولاً لكنهم قالوا: لا يجب فعلاً إلا في زمن الإمام.
وقال الأصم: لا يجبان إلا إذا كان ثم إمام مجمع عليه، وإنما يجبان على قدر الطاقة والإمكان، فإن لم يقدر ولم يستطع فلا وجوب عليه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:61] وعلى مراتبه، فيبدأ بالقول اللين، فإن حصل به المقصود من الامتثال وإلا تعداه إلى القول الخشن والوعيد، فإن نفع وإلا فالعصا ثم السيف، والوجه في هذا الترتيب أن الغرض بالأمر والنهي هو أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر، فإذا تم الغرض بالأمر فلا وجه للتعدي إلى الوجه الصعب، ولقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[فصلت:34] ونحوها.

والذي يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79] ونحن متعبدون بشرائع من قبلنا مالم تنسخ على الأصح.
وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران:104] فأمر الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فأوجبه على الكفاية؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الراجح، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم، فمفهومه من لم يكن كذلك فليس بمؤمن، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤتِ الزكاة فليس بمؤمن. وقوله ً: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) قيل: عن البلد، وقيل: عن المكان، والمراد أن تنتقل إن لم يمكن التغيير.
وفي الترمذي عن حذيفة عنه ً: ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) إلى غير ذلك مما يدل على الوجوب قطعاً.

ثم إن المُصَنٍّفَ أطلق القول بالوجوب، وهو تابع للمتقدمين من المعتزلة فإنهم أطلقوا، وأما المتأخرين كأبي علي وأبي هاشم وطبقتهم فإنهم فصلوا، فجعلوا الأمر بالواجب واجباً، والأمر بالمندوب مندوباً، قالوا: لأنه لا يزيد حال الأمر على حال المأمور به، فإذا جاز للمأمور أن يترك المندوب جاز للآمر أن يترك الأمر به، فأما المنكر فلا ينقسم؛ لأنه قسم واحد، وهو ما يستحق عليه العقاب فيجب فيه النهي إذا تكاملت الشروط الآتية، وإنما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من قال بالوجوب (إذا تكاملت شروطهما)، وشروطهما خمسة:
الأول: أن يعلم الذي يأمر بمعروف وينهى عن منكر أنَّ الذي يأمر به معروف والذي ينهى عنه منكر، وإلا لم يأمن أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ولأن الآمر لزيدٍ مثلاً بأن يفعل كذا لوجوبه يتضمن الإخبار بالوجوب إذ لو لم يكن حاكماً بوجوبه لما أمر به، وكذلك في النهي فإذا كان الخبر لا يحسن إلا مع العلم فكذلك ما يتضمنه وينبي عنه.
فإن قيل: أليس مما يجب علينا فيه الأمر والنهي المسائل الاجتهادية التي طريقها الظن، بحيث أنا نظن وجوبها أوقبحها ولا نعلم ذلك، ومقتضى ما ذكرتم وشرطتم أن يرتفع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها لكونها غير معلومة؟
والجواب: أنَّ الظن إنما هو في مسائلها فمتى دلت عليها الأدلة الظنية بعد توفية الاجتهاد حقه صار الوجوب والقبح فيها معلومين؛ لأن دليل وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد قطعي، ونظيره ما إذا حصلت قرينة تقتضي الظن بأن الطعام مسموم، وأن في سلوك هذه الطريق لحوق ضرر، فإنه حينئذٍ يعلم بالعقل علماً يقيناً وجوب تجنب الطعام.

والطريق الثاني: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن لأمره أو نهيه تأثيراً، فإن علم أو غلب على ظنه العكس فاتفقوا على أنه لا يجب، واختلفوا في الحسن، فقيل: يحسن ويُنَزِّلُ منزلة استدعاء الغير إلى الدين وإقامة الحجة عليه وإزالة علته، وقيل: يصير عبثاً فيقبح، وفرق هؤلاء بينه وبين الاستدعاء إلى الدين وأمر الله ونهيه من عُلِمَ أنه لا يأتمر ولا ينتهي، أن الغرض بهذا الاستدعاء وأمر الله ونهيه يعود إلى التمكن والإعلام وإزاحة العلة، وذلك حاصل، وإن علم أنه لا يقبل والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر، فإذا علم أو غلب في ظنه زوال الغرض صار الأمر والنهي عبثاً، فيزول الحسن مع زوال الوجوب، وأما إذا لم يعلم ولم يغلب على ظنه أحد الأمرين بل جوَّز أن يكون لأمره تأثير وألاَّ يكون فههنا يجب، وقيل: يحسن فقط، وفي كلام الإمام القاسم -رحمه الله- ما يقضي بعدم اشتراط هذا الشرط؛ لأنه قال ما معناه: إن كان المأمور والمنهي جاهلين بأن المأمور به معروف، والمنهي عنه منكر وجب، وإن لم يظن التأثير، لإن إبلاغ الشرائع واجب إجماعاً، وإن كانا عارفين أيضاً وجب لمثل قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164] والمعذرة لا تكون إلا عما لا يجب.

وأيضاً فلا معنى لقول من قال: بأنه إذا لم يعلم أو يظن التأثير يصير عبثاً إذ أقل درجاته أن يكون من الذكر الحسن، وقد صدر ذلك من الأنبياء -عليهم السلام-، وذلك معروف لمن نظر بعين البصيرة فأين العبث؟ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158] فإنه أمر الناس جميعاً بالإيمان به والاتباع له، وقد قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103] فقد دعا إلى الإيمان من علم أنه لا يؤمن، والله أعلم.
والثالث: أن يعلم أو يغلب في ظنه أنه إن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر أدى إلى تضييعهما، نحو أن يرى آلات الملاهي المعتادة موضوعة والخمر حاضر، أو من يريد الشرب واقفاً أو يشاهد الغير يصلي مع أن وقت الصلاة قد آذن بالزوال؛ لأن الغرض وقوع المعروف وألا يقع المنكر، فمتى علم أو غلب في ظنه زوال هذا الغرض لم يجب ولم يحسن إلا لغرض الوعظ والتذكير والزجر عن مثله، والأمر بالتوبة عنه ونحو ذلك.
الرابع: أن لا يخاف تلفاً ينزل به أو بأطرافه أو بماله المجحف أو الضرر به أو حبسه الطويل الذي يختار الضرر عنده والضرر حدوث علة أو زيادتها أو استمرارها، قيل: أو بطء برئها، فإن خاف ذلك لم يجب عليه اتفاقاً؛ لأن عند خوف التلف نحو قد أباح له الشرع ما هو منكر، كأكل الميتة وشرب الخمر، والأخذ من مال الغير مالا يضر به، والتلفظ بكلمة الكفر ونحو ذلك، فبالأولى أن يباح له ترك الأمر والنهي عند مثل هذا الخوف.

واختلفوا في الحسن إذا زال الوجوب فقيل: لا يحسن، وقيل: يحسن مطلقاً؛ لأن فيه إعزازاً للدين، وقيل: يحسن إن صدر ممن يقتدى به وله رتبة عالية، وإن أدى إلى هلاكه وعلى ذلك جرت أحوال كثير من أئمتنا عليهم السلام نحو الحسين وزيد ومن حذا حذوهم، فإنهم قاتلوا في قلة من الأنصار حتى أدّى إلى الاستئصال، فصاروا قدوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعدهم، وليس صدوره ممن هو كذلك كصدوره ممن لا يُنظر إليه ولا يُلتفت عليه.
الخامس: ألا يعلم أو يغلب في ظنه أن أمره ونهيه يؤدي إلى تضييع واجب آخر أو فعل منكر آخر، فإن علم أو غلب في ظنه ذلك فقيل: لا يجب ولا يحسن؛ لأن في ذلك مفسدة، ولأنه يكون في حكم المعين على المنكر الآخر، وقيل: لا يسقط بل يحسن؛ لأنه يكون بذلك مقيماً للحجة مُعِزاً للدين، ومتى فعل المأمور أو المنهي منكراً آخر أو ضَيَّع معروفاً فإنما أُتيَ من قبل نفسه، ولا يوصف الآمر الناهي بأنه معين له؛ لأن الإعانة تحتاج إلى الإرادة.
وفي الأساس: أنها إذا حصلت القدرة والتأثير للآمر الناهي، وظن الانتقال إلى منكر غيره لا يرخص في الترك؛ لأن هذا منكر معلوم، وذلك مُجوّز مظنون ، وهو كلام جيد.
وقيل: إن كان ما يقع من المنكر أو يضيع من الواجب أعظم مما نهى عنه أو أمر به لم يحسن؛ لأن الغرض بالأمر والنهي تقليل المنكر وتكثير المعروف وإلا حسن ووجب.
وقيل: إن كان المنكر الذي يحصل عند الأمر والنهي ضرراً يرجع إلى الآمر الناهي لم يزل الحسن، وإن زال الوجوب، لقوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}[لقمان:17] ومعلوم أن الذي يصيبه منكر آخر، وأيضاً فمعلوم من حال الأنبياء أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، مع علمهم بأنه يلحقهم من المضار في ذلك ما يقضي بكفر فاعله أو فسقه.

وذهب القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- إلى أن ما يلحق الآمر الناهي من نحو تشريد وانتهاب مالً غير مُرخِّصٍ في الترك لما ذكر من الآية، ولقوله: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) .
وكالجهاد (والذي يدل على ذلك) المذهب الذي هو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها، (قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ})[آل عمرن:104] فأمَرَ الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فأوجبه على الكافة؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الأرجح، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ،كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79] ونحن متعبدون بشرع من قبلنا مالم ينسخ على الأصح، وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم، فمفهومه أن من لم يكن كذلك فليس بمؤمن، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤتِ الزكاة فليس بمؤمن، (وقوله ً: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليسلطنَّ الله عليكم سلطاناً جائراً لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)))، وفي الترمذي عن حذيفة عنه ً: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على الوجوب قطعاً، (فثبت بذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واجبان).

(المسألة السابعة والعشرون: في إمامة علي عَلَيْهِ السَّلامُ)
وينبغي أن نذكر طرفاً صالحاً يشتمل على ماهية الإمامة ووجوبها، وقد قدمنا في جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فن علم الكلام وعدهما من أبوابه ما ينبغي أن يؤتى بمثله في مسألة الإمامة، وقيل: إنما جُعلتْ باباً من أبوابه؛ لأن الإمامة خالِفَةٌ النبوة، وعليها مدار كثير من أحكام الإسلام، ولهذا ذكر أصحابنا أن العلم بها جملة من فروض الأعيان وتفصيلاً من فروض الكفايات.
والإمام في اللغة: المتقدم في أمر من الأمور على وجه يُقتدى به.
وفي الاصطلاح: رئاسة عامة لشخص واحد في أمور مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد أخرى.
قلنا: رئاسة عامة احترازاً من الخاصة، كرئاسة الرجل على أهل بيته، والمراد بعمومها أنَّها تعم الأمة كافة، ولا تتعلق ببعضهم دون بعض، ولا جهة دون جهة، ولا بوقت دون وقت، وقولنا: لشخص واحد احترازاً من النبوة، فإنها قد تثبت لاثنين فأكثر، والفارق بينهما هو الإجماع، قيل: ووجهه أن مع كثرة الأئمة يحصل التشاجر والمنازعة، ولهذا قال عمر يوم السقيفة جواباً للأنصار وقد قال قائلهم: منا أمير ومنكم أمير: سيفان في غمد إذاً لا يصلحان، بخلاف النبوة فلا يحصل فيها شيء من ذلك للعصمة، قيل: ولأنَّ النبوة لطف، والألطاف تختلف، فمن الجائز أن يكون اللطف في بعثة نبي واحد، وأن يكون في بعثة نبيين أو ثلاثة، وقلنا: في أمور مخصوصة نحو أخذ الزكوات طوعاً وكرهاً، وتجييش الجيوش، وإقامة الجمعات، وحفظ بيضة الإسلام، وإقامة الحدود ونحو ذلك، وقلنا: على وجه لا يكون فوق يده يد، احترازاً ممن يتولى من جهة الإمام، فإنه يُنفِّذُ هذه الأحكام، لكن يد الإمام فوق يده.

وقد اختُلِفَ في وجوب الإمامة، والظاهر من كلام أكثر العلماء أنها واجبة، ويحتجون لذلك بإجماع الصحابة، حيث فزعوا إلى نصب إمام بعد رسول الله ً وما ظهر من اهتمامهم بتأدية هذا الأمر الواجب حتى اشتغلوا به عن تجهيز رسول الله ً وقدَّموه عليه وآثروه بالنظر، ثم لما دنت الوفاة من أبي بكر اشتغل بذلك في مرضه وأمعن النظر فيه، وعقد الولاية لمن يقوم بالأمر بعده، ثم لمَّا اتفقت قضية عمر جعل المهم له النظر في ذلك، مع معاناته لأسباب الموت وصير الأمر شورى، ولما اتفق مهلك عثمان انثال الناس إلى علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وبادروا إلى بيعته من غير تراخٍ ولا مهلة، وفي جميع هذه الأحوال لم يسمع من دان ولا عال أن قال: لا حاجة بنا إلى هذا ونحن في غنية عنه، أو قال: ليس هذا بلازم لنا ولا واجب علينا، ولا أنكر أحد قول أبي بكر : لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به، ولا قول غيره في هذا المعنى، وهذا الدليل هو أقوى ما يعتمد عليه في وجوب الإمامة، واستقواه كثير من العلماء، وبنوا على أنه دليل قطعي برهاني، وقد أورد عليه إشكالات، وأُجِيب بجوابات نتركها الجميع اختصاراً.

12 / 16
ع
En
A+
A-