وأقول: إن الآية تحتمل وجهاً يبين ما ذكر، وهو أنه تعالى توعد أهل الكتاب في الآية التي قبلها بتعجيل العقوبة إن لم يؤمنوا، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم قردة وخنازير {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}[النساء:47] ثم حذرهم سبحانه وتعالى بأنه لايقع منه غفران للشرك في حالة من الحالات، بل يستحق من أشرك تعجيل العقوبة أيضاً كما استحقها من تقدم ذكره، فأتى بالنفي الداخل على المضارع الذي هو في معنى النكرة، فلو لم يعجل عقوبة الشرك لكان غفراناً، كما قال تعالى حاكياً: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[هود:3] فجعل المتاع الحسن إلى الموت من موجبات المغفرة، ثم قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:116] فلا يعاجل بعض المرتكبين للكبائر بالعقوبة بل يغفرها بتأخير العقوبة في الدنيا كما قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}[الرعد:6] وبهذا يندفع الإشكال ولله الحمد.
ومما احتجوا به قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53].
والجواب: أنه إنما نهى تعالى عن القنوط الذي هو الإياس من رحمة الله تعالى بإهمال التوبة واعتقاد أن الذنب لا تمحوه التوبة، ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالتوبة عقيبها تحقيقاً لغفران الذنوب بها، وأنها باب مفتوح لا يُغلق عن المذنب فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[الزمر:54].
وأيضاً فالظاهر يقتضي غفران الشرك فما خصصوا به غفران الشرك خصصنا بمثله غفران الفسق، والمعنى: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} بالتوبة؛ لأنه قد تكرر ذكر هذا القيد في القرآن فكان ذكره فيما ذُكِرَ فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد لا يجوز فيه التناقض، وقد ذَكَرَ مثل ذلك جار الله في كشافه، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا وبغيره من الأدلة الواضحة (خلود كل فاسق وفاجر في النار).
(المسألة الرابعة والعشرون): في المنزلة بين المنزلتين
وهذه مسألة الأسماء والأحكام، وإنما سميت المنزلة بين المنزلتين؛ لأن معنى ذلك لغةً الشيء بين الشيئين في العلو والانحطاط، وقيل: الشيء بين الشيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه.
وأما اصطلاحاً: فكون صاحب الكبيرة ممن ليس بكافر له أسماءٌ وأحكامٌ بين أسماء المؤمن والكافر وأحكامهما، ووجه تسمية هذه بالمنزلة بين المنزلتين: كونها كلاماً في إثبات منزلة للفاسق في أسمائه وأحكامه بين منزلتي المؤمن والكافر في أسمائهما وأحكامهما، ووجه تسميتها بمسألة الأسماء والأحكام أنها كلام في أسماء المكلفين وأحكامهم، ووجه الحاجة إليها أن المكلفين لما كانوا على ضربين، ضرب يستحق العذاب، وهو فريقان: فريق يستحق العقاب العظيم، وفريق يستحق عقاباَ دون ذلك، ومنهم من يستحق الثواب، وهم فريقان: فريق يستحق الثواب العظيم، وفريق يستحق ثواباً دون ذلك فاحتجنا إلى معرفة كل فريق وحكمه لنجري عليه اسمه ونعامله معاملته.
وقد ذهب أهل الحق إلى (أن أصحاب الكبائر من هذه الأمة، كشارب الخمر والزاني ومن يجري مُجراهم يُسَمّون فُسّاقاً وفجاراً)، وهذا مما لا خلاف فيه، وهل يسمون مع ذلك مؤمنين أو كفاراً أو منافقين؟
فذهب المرجئة إلى الأول، ومنهم من قال: إن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل لاعتقادهم أن الإيمان هو التصديق فقط.
وذهب الخوراج إلى الثاني، واتفقت على وصفهم بأنهم كفار، واختلفت في أنهم هل يوصفون بأنهم مشركون؟ فمنعه الإباضية، وأجازه سائرهم.
وذهب الحسن إلى الثالث، (و) إذا عرفت ذلك، وأنهم (لا يسمون مؤمنين) فليس حكمهم حكم المؤمنين على الإطلاق، (ولا) حكم الـ (منافقين)، (و) ليسوا (كفاراً) على الإطلاق، بل لهم اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، وهو معنى قولهم المنزلة بين المنزلتين.
وقد حُكيَ عن الناصر -عَلَيْهِ السَّلامُ- تسميتهم كفار نعمة. قال الوالد العلامة محمد بن عزالدين: وهو قياس قول من جعل نحو العبادات شكراً، وقد صرَّح بهذا المرتضى والإمام أحمد بن سليمان مع تسميته فاسقاً أيضاً.
(و) أما (الدليل على أن الفاسق لا يسمى كافراً) كما زعمت الخوارج: فهو (أن الكافر) المتصف بالكفر، والكفْرُ كان في الأصل التغطية، والكافر المُغَطّي، ومنه سمي البحر كافراً؛ لأنه يستر ويغطي ما فيه، وصار الكافر في الشرع (له أحكام مخصوصة وأسماء معلومة لا تجوز على الفاسق، أما أحكامه: فنحو حرمة المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين) ونحو ذلك مما لا تجري على الفاسق بالإجماع، وأراد بنحو ذلك سبي النساء والأولاد والقتل في حق بعض الكفار أو ضرب الجزية في حق البعض، وهذا هو المعلوم من حال الصحابة بل ربما نصوا على فساد هذه المقالة، كما روي أن أمير المؤمنين سئل عن الخوارج أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، قيل: فمسلمون؟ قال: لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم، كانوا إخواننا بالأمس فبغوا علينا، فمنع من تسميتهم كفاراً أو مؤمنين، ولم يُنكَر عليه فكان إجماعاً هذا إن لم يكن قوله حجة.
ولنا أيضاً أن الله قد شرع اللعان بين الزوجين، ومعلوم أن أحدهما فاسق إما المرأة بالزنا، أو الزوج بالقذف، فلو كان الفسق كفراً لوقعت البينونة بنفس الفسق فلا يصح اللعان إذ لا لعان بين أجنبيين وكان أيضاً لا يحتاج إلى حكم.
وأيضاً كان يلزم إذا شرب الزوج أو زنى أن يُفَرَّق بينه وبين امرأته، وأن يستتاب وإلا قتل كالمرتد، وهم يلتزمون هذا، ولولم يلتزموه أيضاً فهم محجوجون بالإجماع، فإن المعلوم من حال الصحابة أنهم لم يحكموا بانفساخ نكاح شارب الخمر والقاذف ونحو ذلك، ولا يسمع عن أحد منهم، ولهم شبهٌ عقلية لا يُلتفت إليها لضعفها ولظهور بطلانها.
وأما الشبهه السمعية فمنها: قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:14،15،16] قالوا: الفاسق ممن يصلى النار فيجب أن يكون كافراً.
والجواب: أنَّا نقول مُسلَّمٌ أنه ممن يصلى النار، فمن أين يصلى هذه النار المخصوصة التي وصفها الله تعالى، وإنما هي نار مُنَكرَّة غير مُعيَّنة.
وأيضاً فلسنا نحكم بدخوله النار لأجل هذه الآية، بل لمثل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ}[هود:106] والفاسق شقي وليس بأشقى.
قالوا: قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] والفاسق قد يكون فسقه بالحكم بغير ما أنزل الله.
قلنا: هي واردة في اليهود، وإنما قُصِرَت على السبب لمانع من العموم، وهو ما قدمنا من الأدلة على أن الفاسق ليس بكافر، ولما روي عن ابن عباس من أن الفاسقين والكافرين والظالمين أهل الكتاب.
هذا وأما قول المصنف: (وأما الأسماء فيقال: كافر وملحد؛ لأنه جاحدٌ لله تعالى ولرسوله ولجنته وناره، ولا شك أن الفاسق لا يفعل شيئاً من ذلك) فقد قال الشارح المحقق: ما كان ينبغي؛ لأن إطلاق الكافر على الفاسق هو عين محل النزاع، وأما ملحد فهو اسم لكافر مخصوص، وهو الجاحد للصانع، فعدم إطلاقه على الفاسق كعدم إطلاقه على من كفر بغير ذلك.
(وأما الدليل على أنَّ الفاسق لا يسمى منافقاًأن المنافق) كما يقوله الحسن البصري فهو وإن كان في الأصل اسماً لمن يُظهِر أمراً ويُبطِنُ خلافه، مأخوذ من النافقا أحد جُحرَة اليربوع حيث كان يخفي أحد جانبيه ويظهر الآخر، فقد صار في الشرع يسمى به (من أبطن الكفر وأظهر الإسلام) و معلوم أن الفاسق لا يكون كذلك، فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه يقدم على المعصية مع إقراره بالله تعالى ووعيده، ومع الخوف الشديد، لكن يؤثر الشهوة ويؤمل العفو إن كان من أهل الإرجاء، ويسوف التوبة إن كان من أهل الوعيد.
وأيضاً فلا خلاف في أن كل منافق كافر فكان يلزم أن يكون الفاسق كافراً بل كما نص الله على أن المنافق كافر، فقد نص الله على أنه من أشد الناس عقاباً فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء:145].
[شبهة]: قال: لو لم يكن في اعتقاده خلل، وكان مؤمناً بالله وبوعده ووعيده لما ارتكب الكبيرة، كما لو كان بين يديه نار مؤججة، وقال له من يقدر عليه إذا واقعت الكبيرة أوْقَعْتُكَ في هذه النار، وكذلك إذا علم في الجحر صُرة دراهم وحية تُهلِكُ لسعتها فإنه لا يُدخِلُ يده للصرة والحال هذه.
والجواب: ما تقدم من أنا نعلم من حال الفاسق أنه لا خلل في اعتقاده حال إقدامه على المعصية وما ذكره من المثال ليس نظيراً للمسألة؛ لأن من وصف حاله يكون ملجئاً إلى ترك المعصية والحال هذه، وليس هذا حال المكلف فإنه يجوّز العفو والتوبة، ووزِان مسألة الحية أن يكون معه ترياق يعلم أنه ينفع من اللسعة، أو يجوز أن الحية لا تلسعه، فإنه والحال هذه يدخل يده للصرة.
(وأما الدليل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً) كما تزعمه المرجئة، (فهو أن المؤمن) وإن كان في أصل اللغة المُصدِّق فقد صار منقولاً في الشرع إلى (من يستحق الثواب والمدح والتعظيم)، فالإيمان كان في الأصل التصديق، ثم صار موضوعاً في الشرع للعمل بالأركان والتصديق بالقلب والإقرار باللسان، وأن اسم المؤمن في الشرع مشتق من الأمان بهذا المعنى، ونَقْلُ الإيمان إلى ما ذكر هو مذهب أئمة الزيدية ومن تابعهم وقول الجُلة من المعتزلة.
قال الإمام يحيى: وهو مذهب السلف وهو المختار، والذي يدل على أنه يستحق عليه المدح الإجماع، فلا نعلم في ذلك مخالفاً وصحة توسطه بين أوصاف المدح، ولأن الله تعالى ما ذكر المؤمن والإيمان في القرآن إلا مدحه، وكل ذلك لا يصح في الفاسق، وقد دل الدليل السمعي على نقل اسم المؤمن إلى من يستحق الثواب، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[الأنفال: 2،3] وإنما للحصر، ثم أكد ذلك في أخر الآية بالحصر أيضاً بما يقتضيه بلا مِرْية عند جهابذة الأصوليين، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2] الآيات، وقد يقال: أن الوصف في هذه الآيات للتقييد لا للتوضيح، وإن سُلِّم أنه للتوضيح فهو محتمل، والمحتمل لا يصح حجة، وقال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}[الحجرات:11] وذلك يدل على التنافي بين الاسمين، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43]، وقال في حق الزاني والزانية: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}[النور:2]، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[الحجرات:14،15] فإنه لو كان الإيمان هو التصديق
لما جُعِلَ فيه ما هو عمل قطعاً وهو الجهاد في سبيل الله، فلا يكون مؤمناً إلا من كان كذلك، وذلك ظاهر ولله الحمد.
وكذلك قال النبي ً: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) إلى غير ذلك من الأدلة.
ولهم شبه منها: أنه لو كان الإيمان فعل الطاعات، واجتناب المقبحات لصح وصفه بالزيادة فيه والنقصان، وهو باطل.
والجواب: أنَّا لانُسلِّم بطلانه بل يصح دخول الزيادة فيه، فمن كانت طاعته أكثر كان إيمانه أكثر، وعلى هذا قال: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقال: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}.
قالوا: وردت آيات كثيرة تعطف الأعمال الصالحة على الإيمان نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} ونحوها، وحق العطف المغايرة؟
قلنا: إنَّا لم ندَّع أن كل لفظة اشتقت من الإيمان، فإنها لا تستعمل إلا في المعنى الذي قلناه، وأنه لا يجوز استعمالها في الذي وضعت له في الأصل، فلا مانع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها الله في هذه الآيات مبقَّاةٌ على أصل الوضع فلا يُقدَحُ في كلامنا، ويكون العطف قرينة المجازية، وغير ذلك من الآيات الواردة بلفظ الإيمان في حق من ليس بمؤمن شرعاً، مأول بما ذكر كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}[الصف:2] ونحو: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الحجرات:9] (فثبت بذلك) التقرير (أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً) وبطل ما قاله المخالفون.
(المسألة الخامسة والعشرون) في الشفاعة
ووجه اتصالها بالوعد والوعيد ظاهر، فإنها من تتمة الكلام في إيصال عقاب ذوي الكبائر إليهم وخلودهم في النار، ولا يصح ما تقدم إلا بتصحيح ما ذهب إليه الأصحاب فيها من أنها ليست للفساق ولا لمن يستحق النار، وأنها لا تقتضي عدم دخولهم النار، ولا خروجهم عنها بعد دخولها.
واختلف الناس في موضوعها، فقال أهل الإرجاء: إنما تستعمل في دفع الضرر فقط، وقال الجمهور: بل فيه وفي جلب النفع.
قال المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: ونعلم بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم يقولون: شفع فلان إلى فلان ليقضي دينه، أو ليغني فقره أو نحو ذلك، ولايخالف أحد في ذلك، بل هي في جلب المنافع أكثر، قال الشاعر:
فذاك فتى إن جئته لصنيعة ... إلى ماله لم تأته بشفيع
واعلم: أنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن لنبينا ً شفاعة مقبولة، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه يوم القيامة في قوله: {عَسَى رَبُّكَ أَن يَبْعَثَكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}[الإسراء: 79] وأنكرتها المطرفية وقد سبقهم الإجماع.
والمشهور عن الجمهور وهم الأكثر من الزيدية والمعتزلة: (أن شفاعة النبي ً لا تكون لمن يستحق النار من الكفار والفساق) أصلاً، (وإنما تكون للمؤمنين) سواء كانوا قد أتوا كبائر ثم تابوا عنها، أو لم يواقعوا كبيرة رأساً (حتى يزيدهم الله بها شرفاً) ونعيماً إلى نعيمهم وسروراً إلى سرورهم.
قال المصنف: (أو تكون لمن يستوى حسناته وسيئاته) على القول بصحة ذلك (فيشفع له النبي ً ليدخل الجنة)، وإلى هذا القول الأخير ذهب أبو القاسم البلخي، وهو باطل بالدليل الدال على المنع من الاستواء، ومن أجاز ذلك فبطلانه بأنه لا دليل على قصر الشفاعة على من كان له هذا الحكم دون غيرهم من أهل الجنة.
وقال أهل الإرجاء: بل الشفاعة للمصرين من أمته من أهل الكبائر، والمطلوب بالشفاعة أن يعفوَ عنهم ويدخلوا الجنة تفضلاً.
(والدليل على أن شفاعة النبي) ً (لا تكون لأحد من الظالمين) أنها لو كانت لكانت إما أن تقبل وهو باطل؛ لما تقدم من أن الفساق في النار على جهة الدوام، وإما أن لا تقبل، وهو باطل بالإجماع.
(قوله تعالى: {لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ})[الأنبياء:28] فإذا كانت الملائكة لا تشفع إلا للمؤمنين فكذلك الأنبياء، والاتفاق وقع على أن الفاسق غير مرضي على الإطلاق، وإنما المرتضى على الإطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق، والآية دلت على أن الشفاعة لمن ارتضاه مطلقاً غير مقيد.
وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] فقد أخبر الله على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين يوم القيامة تقبل شفاعته، ولا شك أنه ً مقبول الشفاعة، فلا يشفع لفاسق؛ لأن اللام لام الاستغراق والنكرة في سياق النفي للاستغراق، والفاسق ظالم بلا خلاف بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11] ولا يقال: إنه تعالى لم ينف الشفاعة إلا عن جملة الظالمين وهو محل اتفاق؛ لأنا نقول: لو شفع النبي ً لظالم لما صدق العموم فبطل ما قلتموه، قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[ آل عمران :192] ولا نصرة فوق دفع ضرر العقاب، وقال في الذين كسبوا السيئات: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}[يونس:27].
شبهتهم أن المطيع مستغن بكونه من أهل الجنة عن الشفاعة فلا فائدة فيها.
والجواب: أن فائدتها بيان مرتبة الشافع وزيادة مسرة المشفوع له ومنافعه، ونعارضهم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}[غافر:7] فنقول: لا فائدة في هذا الاستغفار وبالزيادة في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء:173].