ومنهم من قال: يجوز أن يقيد بالقياس وهو مذهب أصحابنا ومذهب معظم الحنفية والشافعية.
ومذهبنا أن المطلق المنفصل عن المقيد إذا كانا في حكمين مختلفين، وهما من جنس واحد، وجمعتهما علة توجب الإشتراك، وجب حمل المطلق على المقيد بالقياس، وإن لم تجمعهما علة لم يجز حمل أحدهما على الآخر بالقياس.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن القياس دليل شرعي على ما يأتي بيانه وتخصيص العموم بالأدلة جائز لا خلاف فيه.
وإن لم تجمعهما علة وهما جنس وورد دليل على وجوب الحمل جاز؛ لأن اتباع الدليل واجب وإن لم يرد دليل لم يحمل أحدهما على الآخر؛ لأنه يكون خلافاً لظاهر الأمر، وذلك لا يجوز كما قدمناه في باب الأوامر.
وما ذهب إليه الشيخ أبو الحسين وأصحابه من أن الزيادة في النص نسخ، غير مسلم على الإطلاق وسيأتي الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى

مسألة:[الكلام في التخصيص بالعقل وتخصيص الكتاب بالكتاب]
عندنا أن تخصيص العموم بدلالة العقل جائز، وقد خالف في ذلك بعضهم.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن العقل دليل يجب اتباعه، وكل دليل يجب اتباعه، فإنه يجوز تخصيص العموم به كالكتاب بالكتاب.أما أن العقل دليل يجب اتباعه: فذلك إجماع العلماء إلا ما يحكى عن داود وقوله باطل؛ لأن العقل إن لم يكن أكبر الأدلة فليس بخارج عنها(1)، وذلك ظاهر؛ لأن المعلوم أن من خالف قضية العقل خرج من حد العقلاء، ولم يصح له تصحيح شيء من الدعاوي التي يدعيها؛ لأنه قد هدم أصلها.
وأما أن كل دليل يجب اتباعه: فإنه يجوز تخصيص العموم به: فلما تقدم من أن تخصيص العموم بغير دليل لا يجوز فلو لم يجز بدليل أيضاً انتقض الإجماع على جواز التخصيص، وقد ثبت جوازه.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، فإن هذا عموم في جميع الناس إلا أنا خصصنا الطفل والمجنون بدلالة العقل، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أخرجنا من لم تكمل فيه شرائط التكليف من عموم هذا اللفظ بدلالة العقل وأمثال ذلك كثير.
__________
(1) - قال الإمام الداعي إلى الله يحيى بن المحسن -عليه السلام- في المقنع: (لو لم يكن العقل دليلاً يجب اتباعه لم يجز أن يثبت به شيء من الأحكام، وقد علمنا ثبوت كثير من الأحكام به كقبح الظلم والكذب والعبث وحسن السفر مع ظن الربح وحسن الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة طلباً للصحة إلى غير ذلك، ولا وجه لثبوت هذه إلا العقل ومن دفع ذلك فهو ضال معاند خارج عن حد العقلاء داخل في حد السوفسطائية)، انتهى.

ومثال العموم المخصوص بالكتاب: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فاقتضى هذا العموم دخول أفعال العباد في جملة خلقه إلا أنا خصصنا بقوله تعالى: يفعلون ويعملون وتخلقون إفكاً، وقوله تعالى راداً على اليهود حيث أضافوا كفرهم وزيادتهم في التوراة إليه تعالى عنه: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، وتخصيص الكتاب بالكتاب هو إجماع العلماء.
مسألة:[الكلام في تخصيص السنة بالسنة]
وتخصيص السنة بالسنة جائز، وهو قول جمهور العلماء، وهو الذي نختاره، وعند بعضهم لا يجوز.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنهما دليلان شرعيان، وكل دليلين شرعيين يجوز تخصيص أحدهما بالآخر كما ثبت في الكتاب بالكتاب.
أما أنهما دليلان شرعيان فلا خلاف فيه، ولأنهما وردا عن صادق يجب اتباعه ويحرم خلافه، فإذا لم يمكن اتباعهما إلا بأن يخص أحدهما بآخر وجب التخصيص؛ لأن المنع منه يؤدي إلى إلغائهما، وذلك لا يجوز بالإجماع، أو إلغاء أحدهما مع استوائهما في الورود عن واجب الإتباع، وذلك لا يجوز.
وأما أن كل دليلين شرعيين يجوز تخصيص أحدهما بالآخر: فلأن الواجب اتباع الأدلة والعمل بها ما أمكن، ولا يظهر في هذا خلاف بين المسلمين في الجملة، فإذا لم يمكن اتباعهما إلا بتخصيص العموم وجب ذلك، لأن غير ذلك يؤدي إلى إلغائها، وقد قدمنا أنه لا يجوز.
مسألة:[الكلام في التخصيص بأخبار الآحاد]
اختلف القائلون بقبول أخبار الآحاد هل يجوز أن يخص بها العموم الكتاب والسنة أم لا؟
فمنهم من منع من ذلك على الإطلاق، وأحسبه قول جماعة من أصحاب الشافعي.
ومنهم: من جوزه مطلقاً إذا تكاملت شرائطه وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والمروي عن أبي الحسين وهو الذي نصره الشيخ أبو عبدالله، وهو المروي عن جماعة من الشافعية.

ومنهم من يذهب إلى أن العام إذا كان سليماً من التخصيص أو مخصوصاً بالإستثناء فإنه لا يجوز، وإن كان مخصوصاً بدليل منفصل جاز، وحكاه شيخنا رحمه الله عن عيسى بن أبان.
وعندنا أن العام إن كان مما يجب المصير فيه إلى العلم لم يجز تخصيصه بخبر الواحد؛ لأنه لا يجوز ترك المعلوم إلى المظنون كما نقوله في عموم آيات الوعيد لا يجوز خصوصها بخبر الواحد لأن المصير في ذلك إلى العلم واجب كما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين.
فإن كان مما لا يجب المصير فيه إلى العلم بل يجب العمل فيه على الظن جاز تخصيصه بخبر الواحد؛ كأن يكون العام من باب المعاملات والعبادات الشرعية لاستواء وجوب العمل في البابين جميعاً على العلم والظن.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: إجماع الصحابة على تخصيص ما هذا حاله بخبر الواحد، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أنهم أجمعوا على ذلك: فالمعلوم من حالهم لمن عرف أخبارهم، وتتبع سيرهم وآثارهم، أنهم كانوا يجيزون تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، كما فعله عمر(1) بمحضر منهم لما افتتح بلاد المجوس فقال: ما أصنع بقوم لا كتاب لهم، رحم الله امرءاً سمع من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيهم شيئاً إلا قاله، فقال عبدالرحمن(2)
__________
(1) ـ عمر بن الخطاب، أبو حفص القرشي، أسلم بعد خروج مهاجرة الحبشة على يدي أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد في قصة طويلة. إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: بويع له بالخلافة صبيحة وفاة أبي بكر، وطعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة فتوفي لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/163).
(2) ـ عبدالرحمن بن عوف، أبو محمد القرشي الزهري، أسلم قديماً وهاجر وشهد المشاهد، توفي سنة إحدى أو ثلاث وثلاثين ودفن بالبقيع. عنه: بنوه؛ إبراهيم، ومحمد، ومصعب، وأبو سلمة. أخرج له أئمتنا الثلاثة المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله، والجماعة.
قلت: وما وقع منه يوم الشورى من ميله عن أمير المؤمنين وعرضه عليه البيعة على أن يسير على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين وامتناعه –أي أمير المؤمنين- عن ذلك بل على كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعدوله إلى عثمان، وقول أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-: والله ما فعلتها إلا أنك رجوت ما رجا صاحبكما من صاحبه - أي ما رجا عمر من أبي بكر- ودعا عليه وعلى عثمان واستجاب الله دعوته ففسد الحال بينهما وتعاديا ولم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبدالرحمن، كل ذلك مشهور وعند جميع الطوائف على الصحائف مسطور، وإلى الله ترجع الأمور. انظر اللوامع لمولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/151).

: سمعته يقول: ((سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب، غير آكلي ذبائحهم، ولا ناكحي نسائهم(1))) فخصص بذلك قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وكذلك قبلوا خبر الواحد في أن القاتل لا يرث المقتول، وخصوا به عموم آيات المواريث، وأن العبد لا يرث، وأمثال ذلك كثير، وردوا بعض أخبار الآحاد لعلة؛ إما أن العام يجب المصير فيه إلى العلم، وإما الطعن في الراوي وغير ذلك.
مسألة:[الكلام في التخصيص بالقياس]
اختلف القائلون بصحة القياس هل يجوز تخصيص العموم به أم لا؟
فمنهم من منع منه على كل حال وهو قول أبي علي وبعض الفقهاء والمروي عن أبي هاشم أولاً.
ومنهم من قال: يخص بالقياس الجلي دون الخفي وهو المروي عن أصحاب الشافعي.
ومنهم من قال: إذا كان قد دخله التخصيص جاز تخصيصه بالقياس كما يروى عن عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: يجب تخصيص العموم به على كل وجه إذا تكاملت شروط القياس التي تأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والشافعية وهو المحكي عن أبي الحسين(2)، وحكى شيخنا أن أبا هاشم ذهب إليه آخراً، وهو ظاهر مذهب أصحابنا وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الصحابة على استعمال أدلة القياس في تخصيص العموم، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه مالك في الموطأ (1/278) رقم (616)، والبيهقي في سننه الكبرى (7/172) رقم (13764) و(9/189) رقم (13434)، وأبو يعلى في مسنده (2/168) رقم (862).
(2) ـ وقاضي القضاة وجماهير المتكلمين، وبه قال السيد أبو طالب، واختاره الشافعي نفسه، وأبو الحسن الكرخي وأبو عبدالله البصري من الحنفية. تمت مقنع.

أما أنهم أجمعوا على استعمال أدلة القياس في تخصيص العموم: فذلك ظاهر لمن علم حالهم، وتتبع أقوالهم، وذلك في مثل جعلهم حد العبد على النصف من حد الحر، قياساً على الأمَةِ لاشتراكهما في علة الرق، وظاهر النص(1) يوجب استيفاء الحد من كل زانٍ من حرٍ وعبد.
وحملهم الأختين على الأخوين، في حجب الأم بهما عن الثلث إلى السدس، ولما اختلفوا في توريث الجد جعله بعضهم بمنزلة الأب وورثه دون الإخوة، وهو مذهب أبي بكر(2) وابن عباس.
ومنهم من قال: يقاسم الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس وهو مذهب علي أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام.
__________
(1) ـ وهو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..إلخ} [النور:2]، وآية الحد على الأمَة قول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فيقاس العبد على الأمة في تنصيف الحد بجامع الرق. تمت.
(2) - أبو بكر، عبدالله بن عثمان بن عامر التيمي، من المهاجرين، بايعه أبو عبيدة، وعمر ومن تبعهما يوم السقيفة مع عدم حضور الوصي -عَلَيْه السَّلام- والعباس وكافة بني هاشم ومن معهم من سادات المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- وكانت بيعته كما قال عمر -برواية البخاري ومسلم وغيرهما- فلتة، وتعقب ذلك الاختلاف الكثير، والحكم لله العلي الكبير، وكان في أيامه قتال أهل الردة وغيرهم.
توفي في جمادى سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين على الأشهر.
عنه: سويد بن غفلة وغيره.
خرج له أئمتنا الأربعة، والجماعة.
وفي جامع الأصول ما لفظه: ابن عمر أن أبا بكر قال: ارقبوا محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أهل بيته، أخرجه البخاري. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/139)..

ومنهم من قال: يقاسم الأخ والأخوين، فإن كانوا ثلاثة أو أكثر جعل للجد الثلث أو ثلث الفاضل من دون الفروض ما لم يكن أقل من السدس، ولا ينقص من السدس بحالٍ وهو قول ابن مسعود(1) وزيد بن ثابت(2)
__________
(1) ـ عبدالله بن مسعود بن غافلة –بمعجمتين بينهما ألف- أبو عبدالرحمن الهذلي الزهري حلفاً، كان من أهل السوابق وهاجر قديماً وشهد المشاهد كلها، وكان من الجبال في العلم وعلى قامة القاعد في الجسم، وكان يسمى بابن أم عبد نسبة إلى أمه، قرأ عليه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- القرآن وأمرهم بأخذ القرآن عنه.
توفي بالمدينة سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين، ودفن بالبقيع.
أخرج له: الناصر للحق في البساط، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: هو المبرز المعروف بالحق، المشهور بنفاذ البصيرة وفيه آثار كثيرة، وهو أحد العلماء الأربعة بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولم يختلف أحد من أهل العلم أنه ثاني علي بن أبي طالب أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-.
وهو القائل: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب. قال في فتح الباري شرح البخاري صفحة (58): وهو القائل: قرأت القرآن على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأتممته على خير الناس بعده علي بن أبي طالب. رواه الإمام الحجة -عَلَيْه السَّلام- في الشافي. انظر لوامع الأنوار للمولى الإمام مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 1/286) و(3/147، 128).
(2) ـ زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة، استصغره النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم بدر فرده، وشهد ما بعدها، ولم يشهد شيئاً من حروب علي -عَلَيْه السَّلام-.
قال ابن عبد البر: وكان مع ذلك يفضل علياً ويظهر حبه.
توفي بالمدينة سنة خمس وأربعين، وقيل غير ذلك.
خرج له أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
عنه: رفاعة بن رفاعة، وولده خارجة.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/91، 92).

، وكل هذه الأقوال صادرة عن قياس واجتهاد، وقد خصوا به عموم الكتاب في آية الكلالة، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:176].
مسألة:[الكلام في التخصيص بالإجماع]
اتفق الكل من العلماء على جواز تخصيص العموم بالإجماع.
والدليل على صحة ما اتفقوا عليه: أن الإجماع حجة يجب اتباعها، ويحرم خلافها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فإذا لم يمكن اتباع الإجماع إلا بتخصيص العموم وجب تخصيصه بذلك كالكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة كما تقدم مثاله.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..الآية } [المائدة:6]، فإن هذا عموم يقتضي وجوب الوضوء على كل من قام إلى الصلاة، وقد خصه الإجماع؛ لأن المعلوم من الكافة أن الوضوء لا يجب على من قام إليها وهو على طهارة مستقيمة.
مسألة: [مما أُلحق بباب العام وليس منه قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}..... إلخ]
ذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أن قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر:20]، عام يصح التعلق بظاهره وجعلوه أصلاً في أن المسلم لا يقتل بالكافر وهذا فاسد؛ لأن هذه الآية وما شاكلها من باب المجمل وليست من باب العموم، وسيأتي الكلام فيها في بابها إن شاء الله تعالى فيبطل ما قالوا.
مسألة: [مما أُلحق بباب العام وليس منه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}]
ألحق جماعة من أصحاب الشافعي قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، بباب العام، وتعلقوا بظاهره، وقالوا: إن عتق الرقبة الكافرة لا يجزي في الظهار لهذا الظاهر.

وهذه الآية عندنا كالأولى في لحوقها بباب المجمل الذي لا يصح التعلق بظاهره، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في بابها في باب المجمل ببسط الكلام فيها.
مسألة:[الكلام في جواز تخصيص العموم المعرف بالألف واللام]
يجوز تخصيص العموم المعرف بالألف واللام عندنا وإن رجع إلى أقل من ثلاثة.
وعند بعضهم يجوز حتى يرجع إلى ثلاثة، ثم لا يجوز التخصيص فيه بعد ذلك وهو قول القفال من أصحاب الشافعي.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن التخصيص إخراج بعض ما يتناوله الخطاب والأقل والأكثر في ذلك سواء، فجرى مجرى الإستثناء، وقد تقدم الكلام في أنه يجوز استثناء الأكثر بما فيه كفاية، ولأن العترة قد أجمعت على تخصيص العام المعرف بالألف واللام، وإن رجع إلى واحد، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه في باب الإجماع، فلو لم يكن جائزاً لما أجمعوا عليه، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55]، والمعلوم من حالهم أن المراد بذلك أمير المؤمنين(1)
__________
(1) - هو سيد الوصيين وأخو سيد النبيين دعوة إبراهيم ومقام هارون، مستودع الأسرار، ومطلع الأنوار وقسيم الجنة والنار، وارث علم أنبياء الله ورسله الكرام، عليهم أفضل الصلاة والسلام، أبو الأئمة الأطايب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واسمه عبدمناف بن عبدالمطلب.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: بويع له -صلوات الله عليه- يوم الجمعة الثامن عشر في ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين، وفي مثل هذا اليوم كان غدير خم.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: توفي ولي المؤمنين وإمامهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- لإحدى وعشرين ليلة من شهر رمضان بعد أن ضربه أشقى الآخرين ابن ملجم -لعنه الله- يوم الجمعة ثامن عشر شهر رمضان لأربعين من الهجرة.
قبره: في المشهد المقدس بالكوفة.
عمره كعمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ثلاث وستون سنة.
انظر التحف شرح الزلف (ط3- 37، 47).

عَلَيْه السَّلام، وهذا الذي اعتمده شيخنا رحمه الله في المثال فتبركنا باتباعه وإلا فاختيارنا في هذه الآية وما شاكلها من ألفاظ الجمع التي يراد بها الواحد إلحاقها بباب المجاز لأن لفظ العموم يعود في أصل اللغة للكل، فإذا أريد الواحد علمنا أنه استعير له لغرض من الأغراض، ومثل ذلك موجود؛ فإن المروي عن عمر لما أمر إلى أبي موسى بالقعقاع(1) كتب معه: (إني قد أنفذت إليك بألف رجل) وهو لا يريد إلا القعقاع نفسه، ولم ينكر عليه أحد، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، فأما هذه الآية ففيها قرينة توجب حمل الخطاب على الواحد الذي هو أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام، وهو قوله سبحانه: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، ولم يعلم ذلك من غيره، ولأن هذه القرينة لو لم تكن فإجماع العترة عَلَيْهم السَّلام على أنه المراد بهذه يوجب رجوع الحقيقة إلى المجاز وحمله على الواحد كما ثبت مثله في قوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات:23]، فإن الدلالة توجب رجوعه عن بابه وحمله على الواحد الذي هو الله سبحانه.
__________
(1) ـ القعقاع بن عمرو التميمي أخو عاصم، كان من الشجعان الفرسان، قيل إن أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، قال ابن عساكر: يقال إن له صحبة، كان أحد فرسان العرب وشعرائهم. انظر الإصابة (3/230)، والإستيعاب (3/252)...

9 / 41
ع
En
A+
A-