مسألة:[في الألف واللام إذا دخلت على ألفاظ الجنس والجمع والأسماء المشتقة]
ألفاظ الجنس والجمع والأسماء المشتقة من الأفعال إذا عُرِّفَت باللام ولم يرد المخاطب معهوداً فإنها تقتضي الإستغراق عند أكثر الفقهاء، وهو قول أبي علي واختيار القاضي، وإليه ذهب الحاكم.
وعند أبي هاشم أنها لا تقتضي الاستغراق بوضعها بل يجب حمل ألفاظ الجمع على الأقل وهو ثلاثة، وحمل ألفاظ الجنس والأسماء المشتقة من الأفعال -إذا لم تكن ألفاظ الجمع- على الأقل وهو الواحد -إن كان لفظاً للواحد-، والإثنان -إن كان تثنيةً-، إلا أن تدلّ دلالة على أن المراد به العموم كأن يتعقبه الزجر الذي يتوجه بالدلالة إلى الجميع من هذه الألفاظ فإنها حينئذ تفيد العموم والإستغراق لذلك.
والشيخ أبو الحسين البصري يفرق بين ألفاظ الجمع، وبين أسماء الأجناس، والأسماء المشتقة من الأفعال فيقول إن ألفاظ الجمع تستغرق لجواز صحة الإستثناء كما تقدم.
ويقول بأن ألفاظ الجنس، والأسماء المشتقة من الأفعال لا تستغرق لأنه لا يصح الإستثناء منها؛ لأنه لا يصح أن يقول القائل: رأيت الرجل إلا زيداً، ورأيت الإنسان إلا زيداً، ورأيت الضارب غير زيد، فلم يكن هذا الإستثناء صحيحاً، وكان جارياً مجرى قوله: رأيت رجلاً إلا زيداً، وإنساناً إلا زيداً، وضارباً إلا زيداً.
واعلم أن وجوب الإستغراق يعتبر بصحة الإستثناء فما صح منه الإستثناء فهو من ألفاظ العموم، وما لم يصح منه الإستثناء فليس كذلك، فأما في لفظ الجنس المعرف بالألف واللام، والأسماء المشتقة من الأفعال، فعندنا أنها من ألفاظ العموم إذا لم يرد بها معهوداً.
والذي يدل على ذلك: ما يثبت من أن الألف واللام إذا لم تكونا لتعريف العهد فهما لتعريف الجنس، إذ لا واسطة بين تعريف العهد وتعريف الجنس في ذلك، ولولا ذلك لما كان فرق بينهما وبين النكرات، وقد ثبت الفرق.
وأما جواز الإستثناء فلا بد منه، وقد وقع في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} [العصر:1ـ3]، وهذا الإستثناء تحقيقي، ولا مانع من جواز الإستثناء في قوله: رأيت الإنسان إلا زيداً إن لم يرد بلفظ الإنسان معهوداً، وإن لم يكثر استعماله في اللغة، ولم يوجد، كما نقوله في جواز استثناء الأكثر من الأقل وإن لم يوجد على ما يأتي بيانه.
مسألة:[الكلام في أقل الجمع]
اختلف أهل العلم في أقل الجمع.
فعند الأكثر أن أقل الجمع ثلاثة.
وعند بعضهم أن أقل الجمع اثنان، وهذا يروى عن أبي يوسف(1)، وروى بعض أصحاب أبي حنيفة أن أبا يوسف لم يصرح بهذا، وإنما الجمعة(2) على الإثنين فحمل ذلك عليه.
ومذهبنا هو الأول.
__________
(1) ـ أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي أبو يوسف الكوفي، صاحب أبي حنيفة، العلامة فقيه العراقين، ثقة ثبت، منصف في الرواية صدوق، فقيه أصولي بارع، ملازم لأبي حنيفة، توفي في ربيع الآخر سنة (182هـ) وعمره (69) عاماً.
(2) - يعني أن بعض أصحاب أبي حنيفة خرج ذلك القول لأبي يوسف على قوله: (إن الإثنين تجب عليهما الجمعة إذا كان هناك إمام)، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9]، قالوا: وهذا يدل من مذهبه على أن أقل الجمع الحقيقي اثنان. تمت مقنع معنى.
والذي يدل على صحته: أن أهل اللغة فرقوا بين لفظ الواحد، وبين لفظ الإثنين، وبين لفظ الجمع، فقالوا في لفظ الواحد: زيد، وفي لفظ التثنية: زيدان، وفي لفظ الجمع: الزيدون، فلولا أن أقل الجمع عندهم ثلاثة لما عبروا عنه بما يخالف لفظ التثنية؛ ولأن لفظ الجمع لو كان حقيقة في الإثنين لتعلق به لفظ الجمع كالثلاثة فكان يجوز أن يقال: اثنان رجال، كما يجوز أن تقول: ثلاثة رجال، ومعلوم أن ذلك لا يجوز؛ ولأنه لو كان حقيقة في الإثنين لدخل عليهما واو الجمع كما دخل على الثلاثة؛ فجاز أن تقول على وجه الحقيقة للاثنين دخلوا، كما تقوله للثلاثة، ومعلوم خلافه أيضاً؛ ولأن الإنسان إذا قال: عندي لفلان دراهم، لم يصدق فيما دون الثلاثة.
مسألة:[الكلام في لفظ الجمع إذا أطلق]
اختلف من قال بأن أقل الجمع ثلاثة في لفظ الجمع إذا أطلق.
فمنهم من قال يجب حمله عند إطلاقه على الثلاثة فما زاد عليها إلا أن يمنع منه الدليل، وهو الذي نختاره، وهو المروي عن السيد أبي طالب، والشيخ أبي علي.
ومنهم من يقول: إنه يجب حمله على ثلاثة فقط، ولا يحمل على أكثر منها إلا بدلالة، وهو المروي عن أبي هاشم أولاً.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه قد ثبت أن لفظ الجمع حقيقة في الثلاثة وفيما زاد عليها، بدلالة أن الذي علمنا كونه حقيقة في الثلاثة هو بعينه قائم فيما زاد على الثلاثة قيامه في الثلاثة فلا وجه لحمله على الثلاثة دون ما زاد عليها؛ فإذا ورد معرفاً بالألف واللام وجب حمله على الإستغراق.
وإن ورد مُنَكَّراً فإنه لا يخلو: إما أن يكون خبراً، أو أمراً، أو نهياً.
فإن كان من قبيل الخبر وجب حمله على الثلاثة فما زاد عليها إلى الحد الذي يمنع منه الدليل، ويرجع تفصيله إلى قصد المخاطِب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون له مراداً بمنزلة المعهود يرجع إليه خطابه؛ لأنه لا يمتنع في قوله: رأيت رجالاً أن يرجع به إلى رجال مخصوصين، ومن هذا الأصل قولهم في الإيقاعات المحتملة إنه يرجع فيها إلى نية المخاطب.
وإن كان من قبيل الأمر والنهي فإنه يجب حمله على ثلاثة غير معينين لمنع الدليل عن حمله على ما زاد على الثلاثة؛ لأنه لا ينحصر ودخول ما لا ينحصر في التكليف لا يجوز عندنا، فهذا هو الفرق بين الخبر والأمر والنهي.
مسألة:[الكلام في العموم إذا خص هل هو حقيقة أم مجاز؟]
اتفق العلماء على جواز ورود خطاب الحكيم سبحانه وتعالى بالعام وهو يريد به الخاص، وإنما اختلفوا في العموم إذا خص:
فمنهم من يقول: إنه يصير حقيقة فيما بقي داخلاً تحته بأي دليل خص، وعلى أي وجه خص، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من الحنفية، فيهم: عيسى بن أبان(1) وجماعة من الشافعية.
ومنهم من قال: إنه يصير مجازاً بأي دليل خص، وعلى أي وجه خص، وهو الذي حكاه عن مشائخنا المتكلمين سوى القاضي وأبي الحسين، وحكاه عن القاضي شمس الدين رضي الله عنه.
ومنهم من قال: إن خص بدليل متصل لم يصر مجازاً، وإن خص بدليل منفصل صار مجازاً، وحكي هذا القول عن أبي الحسين.
__________
(1) ـ عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى قاضي، من المقدمين في أصحاب أبي حنيفة، وأحد القائلين بالعدل والتوحيد من الفقهاء، وكان هو المبرز في جميع العلوم على أهل زمانه، وعاصر الشافعي، وكان يناظره، وتوفي سنة (221هـ).
وعند القاضي، أنه لا يكون مجازاً إلا أن نخصصه بشرط أو تقييد بصفة.
ومنهم من فرق بين ما يستقل في الإفادة بنفسه من المتصل، وبين ما لا يفيد بنفسه كالإستثناء، والشرط والتقييد بالصفة، فقال: هو مجاز في الأول، وحقيقة في الثاني، وإليه ذهب الشيخ أبو الحسين البصري.
وعندنا أن العموم إذا خص بأي دليل خُصَّ، على أي وجه خُصَّ، فالحال فيه لا تخلو من أحد أمرين:
إما أن يعلم المراد من ظاهره مع التخصيص أو لا يعلم من ظاهره بل يبقي فهم السامع متحيراً حتى يرد عليه الدليل، فإن سبق إلى الفهم عند إطلاقه معناه فهو حقيقة مع المخصص ودونه؛ لأن هذا أمارة الحقيقة كما تقدم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، فإنه يسبق إلى الفهم عند إطلاقه وجوب قتل المشركين على أي حال وجدناه، وإن كان قد خص أهل الذمة والمستجير ومن لم تبلغه الدعوة.
وكقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فيما سقت السماء العشر))(1)، وقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الرقة ربع العشر))(2)، و((في خمس من الإبل شاة))(3)، وغير ذلك من الظواهر التي يطول تعدادها الواجب الرجوع إليها مع التخصيص، فما فهم المراد من ظاهره فهو حقيقة فيما تناولته، وما لم يفهم إلا بقرينة فهو مجاز.
ولأن المجاز هو ما أفيد به ما استعير له، والعام وإن خص فهو مفيد لما وضع له، وخروج بعض ما دخل تحته بالدليل لا يخرجه عن بابه، كما أنه لا يخرج الأمر عن كونه أمراً.
__________
(1) - رواه في الجامع الكافي (خ)، ورواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد عن جابر بلفظ: ((فيما سقت الأنهار والعيون العشر))، وعن سالم بن عبدالله عن أبيه بلفظه بزيادة: ((أو كان يسقى بماء السماء))، ورواه الأمير الحسين في الشفاء مرسلاً (1/534)، وعن عمرو بن حزم، وهو في أصول الأحكام (خ)، ورواه الطبراني في الأوسط (3/401) رقم (4943) عن أبي هريرة، وابن خزيمة (4/37) رقم (2307)، وابن حبان (8/80) رقم (3285) عن ابن عمر، وابن ماجه (1/580) رقم (1816)، والبخاري (2/251) رقم (83) بلفظ: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عشرياً العشر وما سقي بالنضح نصف العشر))، والحاكم (1/558) رقم (1458)، وأحمد (1/145) رقم (1239)، وأبو داود في السنن (2/253) رقم (1597) باب صدقة الزرع.
(2) - رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد مرسلاً، وهو في أصول الأحكام والشفاء، وأخرجه البخاري في صحيحه (2/238) رقم (57)، والرقة: قال في الروض النضير (2/426): وأما الرقة ففي كتب اللغة أنها الفضة لا غير.
(3) - رواه في الجامع الكافي وفي شرح التجريد وفي أصول الأحكام وفي الشفاء وغيرها، ورواه الطبراني في الأوسط (6/410) رقم (7778)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/73) بلفظ: ((في كل خمس ذود من الإبل صدقة))، وأخرجه أبو داود والترمذي وغيرهم.
ووجه ما اختاره مشائخنا رحمهم الله تعالى، هو: قولهم إن المجاز هو ما أفيد به ما لم يوضع له، والعموم إذا خص فقد أفيد به ما لم يوضع له؛ لأنه وضع للكل، ثم جعل مع التخصيص للبعض، وقد بينا الكلام فيه بأنه ما أفيد به في الحالين، ما وضع له في الأصل فالأول على وجه العموم، والثاني على وجه الخصوص.
مسألة: [في تخصيص العموم بالإستثناء المتصل دون المنفصل]
العموم يخص بالإستثناء المتصل، ولا يخص بالإستثناء المنفصل عند عامة الفقهاء والمتكلمين، وهو الذي نختاره، وحكي عن ابن عباس(1) رضي الله عنه خلافه(2).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الإستثناء لا يفيد إلا بانضمامه إلى المستثنى منه، وإذا لم ينضم إلى المستثنى منه لم يكن مفيداً فضلاً عن كونه دليلاً مخصصاً.
__________
(1) ـ عبدالله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، حبر الأمة وترجمان القرآن، ولد عام الشعب قبل الهجرة بثلاثة أعوام، حنَّكَه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بريقه ودعا له، ويسمى البحر لسعة علمه.
قال مسروق بن الأجدع: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدث قلت: أعلم الناس، كان غزير العلم كثير الأتباع، وكان عمر بن الخطاب يرجع إليه، وكان من شيعة أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- ومحبيه، شهد معه مشاهده كلها، وكف بصره لكثرة بكائه على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، توفي بالطائف سنة (70هـ) وعمره (71) عاماً وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقبره بالطائف مشهور مزور. انظر لوامع الأنوار (3/120، 128).
(2) ـ وهو أن الإستثناء يلحق بالكلام ولو بعد سنة.
ومثال ذلك: ما نعلمه أن الواحد منا إذا قال: ضيفت عشرة ثم أقام يوماً أو يومين ثم قال: إلا خمسة لم يكن قوله إلا خمسة مفيداً فإن علم أنه أراد به الإستثناء مما تقدم علمنا أن الأول كذب لوجود حد الكذب فيه على ما يأتي بيانه ويخالف حاله لو استثنى عند اللفظ فقال: ضيفت عشرة إلا خمسة بالإتفاق على وجه الحقيقة عندنا.
مسألة:[الكلام في استثناء الأكثر حتى يبقى الأقل]
ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن استثناء الأكثر حتى يبقى أقل لايجوز، وذهب جمهور العلماء وهو قول شيوخنا رحمهم الله تعالى إلى أنه جائز، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المعلوم من حال أهل اللغة أن مرادهم بالإستثناء للمستثني إخراجه بعض ما يتناوله اللفظ، والأكثر والأقل في ذلك سواء، فإن منع من ذلك: لأنه لم يوجد في كلامهم، فهذا قائم في النصف، وقد أطبق الكل على جوازه، فهذا الحكم لا معنى له، ولأنه لا مانع له من قبل القدرة؛ لأنه مقدور، ولا من قبل اللغة لما قدمنا، ولا من قبل الحكمة لأنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة به، ولأنه لا يوجد دليل في الحكمة على المنع منه فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الجُمل المعطوفة إذا تعقبها الإستثناء]
اختلف أهل العلم في الجمل المعطوف بعضها على بعض إذا تعقبها الإستثناء هل يجب قصر فائدته على ما يليه أو يجب رجوعه إلى جميع ما تقدم؟
فالمروي عن الحنفية فيهم الشيخ أبو الحسين والشيخ أبو عبدالله أنه يجب حصره على ما يليه، ولا يرد إلى جميع ما تقدم.
ومنهم من قال: يجب رجوعه إلى الجميع إذا صح رجوعه، وهو مذهب الشافعية وحكاه شيخنا رحمه الله عن قاضي القضاة، والشيخ أبي الحسين البصري، وهو ظاهر مذهب أصحابنا، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض تجري مجرى جملة واحدة، فكما أنه لا يجوز رجوعه إلى بعض الجملة الواحدة دون بعض، فكذلك لا يجزي رجوعه إلى بعض الجمل المعطوف بعضها على بعض دون بعض.
أما أنها تجري مجرى جملة واحدة، فلأن القائل إذا قال: جاءني زيد وزيد وزيد، جرى مجرى قوله: جاءني الزيدون.
وأما أنه لا يجوز رجوعه إلى بعض الجملة الواحدة دون بعض: فلأنه إذا قال لغلامه: أدخل بني تميم إلا أصحاب الثياب البيض، فإن هذا الإستثناء يرجع إلى جميع بني تميم.
ولأن الإستثناء بمشيئة الله سبحانه يرجع إلى الجميع بالإجماع: كذلك هذا لأن تعليقه بمشيئة الله لا تغير فائدته فلو كان يرجع إلى البعض لرجع إليه مع الإستثناء بمشيئة الله تعالى، ومعلوم خلافه.
ومثاله: أن يقول الواحد منا لغيره: إني أصحبك في السفر، واتحمل منك مؤنة الزاد والركاب، واشتري لك ثوباً وخادماً إن شاء الله، فإن هذا الإستثناء يرجع إلى جميع ما تقدم من الجمل.
ولأن الجمل التي يتعقبها الشرط يجب رجوعه إلى جميعها بالإتفاق: كما إذا قال لوكيله: طلقها ثلاثاً، ووفها مهرها، واستبرئها من نفقة العدة إن دخلت الدار، فإن هذا الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم بالإتفاق، فكذلك الإستثناء المطلق؛ لأنه قد شاركه في أن كل واحد منهما يُخْرِجُ من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته، وفي أن كل واحد منهما لا يفيد بنفسه وإنما يفيد بانضمامه إلى غيره.
مسألة:[الكلام في المطلق والمقيد]
المطلق والمقيد إذا وردا لم تخل الحال فيهما من ثلاثة أوجه:
[1] إما أن يردا في حكم واحد فهذا مما لا خلاف فيه أن المقيد يخص المطلق سواء كان متصلاً أو منفصلاً، فالمتصل كقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}(1) أو: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}(2)[النساء:92]، في كفارة القتل.
والمنفصل: كقول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمس من الإبل السائمة شاة(3))) فقيّدها بالسوم.
[2] وإما أن يردا في حكمين مختلفين غير جنسين فلا خلاف أيضاً أنه لا يحمل أحدهما على الآخر كتقييده الزكاة وإطلاقه الخمس.
[3] وإما أن يفصل المطلق عن المقيد ويكونا في حكمين مختلفين إلا أنهما من جنس واحد نحو تقييده الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، وإطلاقها في كفارة الظهار، وهذا الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء:
فمنهم من قال يجب حمل المطلق على المقيد من غير رجوع إلى دليل من قياس وغيره بل يكون تقييد أحدهما تقييداً للآخر، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من الشافعية.
ومنهم من منع من حمل المطلق على المقيد فيما هذا حاله، وحكاه عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.
ثم اختلفوا فمنهم من منع من حمل المطلق على المقيد بالقياس وهو المروي عن أبي الحسين ومتقدمي الحنفية، وكان يقول إنه زيادة في الحكم، والزيادة في الحكم نسخ، والنسخ بالقياس لا يجوز، على ما يأتي بيانه في بيان الناسخ والمنسوخ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ يعني أن الله سبحانه وتعالى قيد صيام الشهرين في كفارة القتل والظهار بوجوب المتابعة بين صيام أيام الشهرين.
(2) ـ أي أن آية العتق في كفارة القتل قيدت عتق الرقبة بكونها مؤمنة، وليس المراد من هذا المثال أنه حمل كفارة الظهار على القتل فإن الحكم سيأتي فيها.
(3) ـ هذا الحديث مقيد للحديث السابق وهو: ((في خمس من الإبل شاة))، فإنه مطلق في السائمة والمعلوفة وهذا الخبر قيد وجوب الزكاة في السائمة فقط حتى يكون المقيد منفصلاً، والله أعلم.