ومثال المسألة: قوله سبحانه: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، فإن اللمس حقيقة في المعتاد منه مجاز في الوطي، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ} [النساء:22]، فإن النكاح حقيقة في الوطء، مجاز في العقد..إلى غير ذلك.
ومثل قول أبي عبدالله يحكى عن أبي هاشم، فإنه روي أنه ذكر في البغداديات أن آية القُرء إذا جاز أن يريد الله سبحانه بها معنيين مختلفين على حسب ما يؤدي المجتهد اجتهاده إليه وجب أن يتكلم بها مرتين.
وذهب أصحاب الشافعي وكثير من الفقهاء إلى أن العبارة الواحدة يجوز أن يراد بها معنيان مختلفان، وهذا لا يصح إلا على الوجه الذي ذكرناه، وما ادعوه في مجرد اللفظ وأحالوا به على المعلوم من نفوسهم على الخلاف هو موضع النزاع فلا تصح الدعوى، وكما أن الواحد منا يعلم أنه في حال قصده تعظيم الغير لا يصح قصده الإستخفاف به.
مسألة:[الكلام في جواز الأمر بما يعلم امتناع المخاطب منه بدون منع]
اختلف أهل العلم في جواز الأمر بما يكون المعلوم من حال المخاطب أنه سيمنع منه بشرط أن لا يمنع؟
فذهب شيوخنا إلى المنع منه وهو المحكي عن السيد أبي طالب قدس الله روحه.
وذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلمين إلى جوازه وهو الذي نختاره.
واحتجّ من ذهب إلى القول الأول: بما ثبت من قبح تكليف ما لا يطاق، فإذا كان المعلوم من حاله أنه يصير ممنوعاً منه لم يحسن ذلك للوجه الذي لأجله لا يحسن تكليف ما لا يقدر عليه، قالوا: فقبح تكليف أحدهما متقرر في العقول على الوجه الذي يقرر قبح الآخر، وتعليق الأمر بشرط أن لا يمنع منه المأمور مع علم الآمر بأنه يصير ممنوعاً لا يؤثر في ذلك؛ لأنه يجري مجرى العبث.
والذي يدلّ على صحة ما قلناه: أن اشتراط زوال المنع في وجوبه عليه يخرجه عن باب تكليف ما لا يطاق، وقد ثبت أن التكليف إنما وقع تعريضاً للمكلف للمنازل الرفيعة، وذلك يحصل بالعزم على الفعل وتوطين النفس على احتمال أثقاله، وبذلك يخرج التعبّد عن كونه عبثاً لصحة هذا الغرض، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في حدِّ النهي]
اختلف أهل العلم في حدّ النهي.
فقال قوم: هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل، وهو قول الحاكم.
ومنهم من شرط في ذلك الكراهة للمنهي عنه(1).
ويرد على الأول النقض بالتهديد بصيغة النهي، فإن قول القائل لمن دونه لا تفعل ليس بنهي إذا لم يكن كارهاً للمنهي عنه، وأورد الصيغة على جهة الإستعلاء دون الخضوع على ما نختاره.
وينقض الثاني أيضاً إذا لم ترد الصيغة على جهة الإستعلاء بل كانت على وجه الخضوع فيلحق بالسؤال.
ومنهم من قال: هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع ولا تشترط الكراهة في ذلك؛ لأنها شرط في كونه نهياً أو مؤثرة فيه.
وما يكون شرطاً في الشيء أو مؤثراً فيه لا يدخل في حده وحقيقته، وحكاه شيخنا عن شمس الدين رضي الله عنهما، وهذا ينتقض بالتهديد أيضاً.
وذهب شيخنا رحمه الله تعالى إلى أنه لا حكم للنهي بكونه نهياً فيعلل بوجه من وجوه التعليل، بل ليس المعقول من كونه نهياً إلا ورود صيغة لا تفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع مع كون الناهي كارهاً للمنهي عنه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن من علم ورود الصيغة على الوجه الذي ذكرنا علمها نهياً، وإن جهل ما جهل، وإن لم يعلمها على الوجه الذي ذكرناه لم يعلمها نهياً، وإن علم ما علم.
__________
(1) ـ وهو اختيار الإمام المؤيد بالله -قدس الله روحه-. تمت مقنع.
فصل: [الكلام في النهي لماذا كان نهياً]
واعلم أن الخلاف في النهي لماذا كان نهياً، كالخلاف في الأمر لماذا كان أمراً.
فعند أبي القاسم أنه كان نهياً لذاته.
وعند كثير من المعتزلة البصريين أنه إنما كان نهياً؛ لأن الناهي كره المنهي عنه.
والمجبرة تخالف في ذلك وتقول بأنه إنما كان نهياً لأن الناهي أراد أن يكون نهياً.
وعندنا أنه لا حكم له لكونه نهياً، فيحتاج إلى التعليل بشيء مما ذكرناه كما قدمناه.
مسألة: [في أن النهي حقيقة في القول دون الفعل]
لا خلاف بين العلماء أن النهي حقيقة في القول دون الفعل.
والذي يدل على ذلك: أن لفظة النهي إذا أطلقت لم يسبق إلى فهم السامعين إلا القول، وذلك أمارة الحقيقة كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في النهي المطلق والمقيد هل يقتضي تكرار الإنتهاء أم لا؟]
لا خلاف بين العلماء أن النهي المطلق يقتضي وجوب الإنتهاء وتكراره، ولا خلاف بينهم أيضاً أن النهي المقيد بالصفة يقتضي وجوب الإنتهاء، وإنما الخلاف في أنه هل يقتضي تكرار الإنتهاء أم لا؟
فعند أكثر العلماء أنه يقتضي ذلك.
وعند الشيخ أبي عبدالله البصري أنه لا يقتضي التكرار، بل إنما يقتضي الإنتهاء مرة واحدة، وهو الذي اختاره الحاكم، والأول هو الذي نختاره.
وجهه: أن النهي المطلق يقتضي تكرار الإنتهاء وتقييده بالصفة لا يغير مقتضاه، فوجب تكراره.
أما أن النهي المطلق يقتضي وجوب الإنتهاء وتكراره فالقول فيه واحد.
وأما أن تعليقه بالصفة لا يغير مقتضاه؛ فلأنه لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل لعبده: لا تشتر اللحم، وبين قوله: لا تشتر اللحم الهزيل، في أنه يجب تكرار الإنتهاء في الحالتين جميعاً.
مسألة:[الكلام في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟
ومعنى الفساد: أن لا يقع موقع الصحيح في ثبوت أحكامه الشرعية من إجزاء وغير ذلك.
فذهب قوم إلى أنه لا يقتضي الفساد بظاهره(1)، وحكى شيخنا رحمه الله أنه مذهب الشيخ أبي عبدالله، وحكاه عن أبي الحسن وجماعة من الحنفية وهو اختيار الحاكم.
وذهب الشافعية إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه بوضعه.
أما في الشرع؛ فإنه يختلف حاله في ذلك بحسب ما يتعلق به، فإن كان المنهي عنه مما يتعلق بالعبادات فإنه يقتضي فساد المنهي عنه، وإن كان مما يتعلق بالمعاملات فإنه لا يقتضي ذلك، وهذا الذي كان شيخنا رحمه الله يختاره، وحكاه عن القاضي شمس الدين.
وعندنا: النهي الشرعي يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان من باب العبادات أو من باب المعاملات.
واستدل شيخنا رضي الله عنه على أنه لا يقتضي فساد المنهي عنه بوضعه ما ثبت من وقوع أشياء كثيرة في الشريعة مما ورد عنه النهي الحقيقي في موقع الصحيح في ثبوت أحكامها الشرعية نحو غسل النجاسة بالماء المغصوب، فإنه منهي عنه، ولا شك في زوال النجاسة به، وكذلك الذبح بسكين مغصوب مع حصول حل الذبيحة؛ وطلاق البدعة تثبت أحكامه مع أنه منهي عنه، والبيع وقت النداء يثبت به الملك، والوطء في زمن الحيض تثبت له أحكام الوطء من تكميل المهر، والإحلال للزوج الأول وغير ذلك؛ فإن هذه الأشياء منهي عنها على جهة الحقيقة، ولم يوجب النهي فساداً فيها، فلو كان النهي مقتضياً للفساد بظاهره وموضعه للزم من ذلك أحد باطلين:
إما ألا تكون هذه الأشياء منهياً عنها على جهة الحقيقة، وإن لم تكن فاسدة.
وإما أن تكون فاسدة إذا كانت منهياً عنها على جهة الحقيقة، فلا تثبت أحكامها الشرعية، وكلاهما باطل، فثبت أن النهي لا يقتضي الفساد بوضعه.
__________
(1) ـ وإن كان قد يقتضي ذلك بقرينة تقترن به كما نقوله في العبادات الشرعية. تمت مقنع.
واحتج على فساد المنهي عنه في باب العبادات: بأن النهي إذا ورد عن حكيم اقتضى قبح المنهي عنه؛ لأن النهي عن الحسن قبيح لا يجوز وروده في خطاب الحكيم، ومن حق ما يكون عبادة وطاعة أن يكون حسناً حتى يصح أن يريده الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يجوز أن يريد القبيح؛ فإذا لم يكن حسناً لم يكن مجزئاً ولا مسقطاً للفرض الواجب.
قال رحمه الله: وليس كذلك ما كان من باب المعاملات؛ فإنه ليس من شرط صحته أن يقع على وجه القربة والعبادة حتى يكون من شرطه أن يكون حسناً ومراداً لله تعالى، فلذلك لم يقتض النهي فساده، فعلى هذا إذا ورد النهي عن الوضوء بالماء المغصوب، وعن الصلاة في الدار المغصوبة، اقتضى فساد المنهي عنه في هذا الموضع، فلا يجوز الوضوء ولا الصلاة، ولا يسقط بهما الفرض، بخلاف ما قدمنا ذكره مما يتعلق به النهي في باب المعاملات وما جرى مجراها.
قال رحمه الله تعالى: فثبت بهذه الجملة ما ذهب إليه الشيخ أبو الحسين(1) في هذه المسألة.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقرر من ظاهر أحوال المسلمين من لدن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلى يومنا هذا من الرجوع في فساد العقود الشرعية في المعاملات وغيرها إلى ظاهر نهي النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، نحو نهيه عن بيع الغرر، وبيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيوع الجاهلية، ونهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة من الكتاب والسنة.
__________
(1) ـ الذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسين البصري هو ما ذكره في المعتمد في أصول الفقه (1/184) حيث قال: (وأنا أذهب إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات).
وقد روي عن عبدالله بن عمر(1)
__________
(1) ـ عبدالله بن عمر بن الخطاب أبو عبدالرحمن، أسلم قديماً بمكة بإسلام أبيه، وشهد الخندق وما بعدها. ذكر الناصر للحق فيما رواه الإمام أبو طالب أنه لم يقاتل مع علي -عَلَيْه السَّلام- في حروبه مع أنه يفضل أمير المؤمنين علياً -عَلَيْه السَّلام- على من حاربه وهو من أصحاب الألوف في الحديث. توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين، وله أربع وثمانون.
أخرج له أئمتنا الخمسة وهم: المؤيد بالله وأخوه أبو طالب والموفق بالله وولده المرشد بالله ومحمد بن منصور المرادي. والجماعة وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
إلى قوله: قال الإمام محمد بن عبدالله في الفرائد: وروى البلاذري في تاريخه أن عبدالله بن عمر كتب إلى يزيد فأجابه يزيد -لعنه الله-: أما بعد يا أحمق فإنا جئنا إلى قصور مشيدة وفرش ووسائد منضدة فقاتلنا عنها فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن وابتز واستأثر بالحق على أهله.
قلت: وهو كجواب أبيه معاوية على محمد بن أبي بكر الذي رواه في الشافي، وشرح النهج.
إلى قوله: بعد أن روى حديث: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) وما باله ترك بيعة علي -عَلَيْه السَّلام- وجاء إلى الحجاج يبايعه لعبدالملك بن مروان وروى هذا الحديث فقال له الحجاج: يا عبدالله إن يدي مشغولة وهذه رجلي فبايع رجله واستنكر الحجاج ذلك منه وتمنعه من بيعة علي ولولا أنه روي من وجوه كثيرة توبة ابن عمر وأوبته لحكمنا بهلاكه لكن الله تداركه.
إلى قوله: نعم وقد تكاثرت الروايات عن ابن عمر بتوبته، وأخرج ابن عبدالبر من طرق أن ابن عمر قال حين حضرته الوفاة: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليهما السلام- في ابن عمر: وكان شديد الاجتهاد في طاعة الله تعالى ورويت عنه ندامة عظيمة في تخلفه عن علي -عَلَيْه السَّلام- وكان يتوضأ لكل صلاة وله رواية وسيعة عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على غفلة كانت فيه، ولم يختلف في الرواية عنه.
انتهى المراد بتصرف من لوامع الأنوار (ط2- 3/141، 145) تأليف مولانا الإمام العظيم ذي العلم الغزير والفضل الشهير مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال في عمره وأبقاه ذخراً للإسلام والمسلمين.
أنه قال: (ما زلنا نخابر حتى أخبرنا رافع بن خديج(1) بأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نهى عن ذلك)، وقوله: ما زلنا نخابر حكاية عن الجماعة، وذلك يدل على أنهم حكموا بفساده لأجل النهي دون غيره، ولأنهم كانوا لا يرجعون فيما يحكمون بفساده إلى دليل سوى النهي فلولا أنه يقتضي عندهم بظاهره فساد المنهي عنه لرجعوا إلى دليل سواه، وما قلناه معلوم لمن تتبّع أخبارهم واقتصّ آثارهم.
فأما ما احتج به أهل المذهب الأول من الذبح بسكين مغصوب، وغسل النجاسة بالماء المغصوب، إلى ما شاكله، فنحن نقول إنه وقع موقع الصحيح لأدلة تخرجه عن هذا الباب، ونحن لا نمنع من إزالة العارض بحكم عن بعض ما تناوله الشائع فلا يخرجه ذلك عن شياعه.
كما نقول في لفظة (من) فإنها وضعت للعموم، ولا يمتنع من إخراج الإستثناء وغيره من الأدلة بخروج ما دخل تحتها، ولا يخرجها ذلك عن بابها كذلك ما نحن فيه، وهل هذا إلا كقول من يقول إن لفظة الأمر لا تقتضي الوجوب شرعاً ويعتمد في ذلك أوامر النوافل وأمثلتها هذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإختصار، والله الهادي.
* * * * * * * * * *
__________
(1) ـ رافع بن خديج -بفتح معجمة وكسر مهملة- الأوسي الحارثي، عرض يوم بدر فاستُصغِر وأجازه يوم أحد فشهدها وما بعدها، وكان عريف قومه وشهد مع علي -عَلَيْه السَّلام- صفين، وأصابه سهم يوم أحد فبقي النصل فكان سببه انتقض عليه فتوفي سنة أربع وسبعين، وهو في ست وثمانين، روى عن علي -عَلَيْه السَّلام- وأُبيّ بن كعب.
وعنه: إياس بن خليفة وغيره. أخرج له: المؤيد بالله، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/88).
الكلام في العموم والخصوص
[معنى العموم]
معنى قولنا في الكلام إنه عام: أنه يستغرق جميع ما يصح له.
ومعنى وصفنا للخصوص بذلك: أنه يتناول شيئاً مخصوصاً دون غيره مما كان يصح أن يتناوله.
وحقيقة العموم في القول، واستعمال لفظه في المعاني كقولهم: عمهم البلاء، وعمهم المطر، إذا دخل الكل تحت أحد الأمرين، فقد رأيت أن فائدة العموم عندهم هو الإستغراق وإن كانت لفظة عمهم لا تَطَّردُ في كل شيء فلا يقال: عمهم الأكل، والشرب، ولا النكاح، فقد تم غرضنا بأن معنى العموم عند أهل اللغة: هو الإستغراق والشمول؛ فإذا قد فهمت معنى العموم رجعنا إلى تعيين ألفاظ العموم.
[ألفاظ العموم]
وألفاظ العموم: (مَنْ): للعقلاء إذا وقعت نكرة في المجازات والاستفهام، و(مَا): فيما لا يعقل، و(أين): في المكان، و(ما الظرفية): في الزمان كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:107]، وكذلك (متى) و(متى ما) في الزمان، و(حيث) و(حيثما): في المكان أيضاً، و(ما): في النفي إذا دخلت على النكرات و(أسماء الأجناس) إذا دخلها الألف واللام، ولم يرد بها معهوداً كقولك: الإنسان والرجل / و(الأسماء المشتقة من الأفعال) كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، وقد وقع الخلاف في هذين النوعين خاصة، فعند أبي علي والمبرد(1) أنهما من ألفاظ العموم، وعند أبي هاشم وأبي الحسين أنهما ليسا من ألفاظ العموم، (وألفاظ الجمع) إذا عرفت بالألف واللام ولم يرد بها معهوداً، وأبو هاشم أيضاً يخالف في هذا على ما يأتي بيانه.
__________
(1) ـ محمد بن يزيد بن عبدالأكبر بن عمير بن حسان الثمالي الأزدي البصري، المعروف بالمبرد، النحوي، نزيل بغداد، كان إماماً في النحو واللغة، وله التآليف النافعة في الأدب، أخذ عن أبي عثمان المازني، وعن أبي حاتم السجستاني وأخذ عنه نفطويه والزجاج، وكان معاصراً لأبي العباس ثعلب. ولد المبرد سنة (220هـ)، وتوفي سنة (286هـ)، عده المنصور بالله في الشافي من القائلين بالعدل والتوحيد. قال في الجداول: وعداده في الشيعة.
ولفظة (أي): تتناول العقلاء وغير العقلاء، فهي في هذا أعم مِنْ (مَنْ، وما)؛ لكنها لا تستغرق إلا بحسب ما تضاف إليه تقول: أي رجل أكرمت، فيتناول ذلك جميع الرجال على وجه العموم، وتقول: أي دار دخلت، فتجيب بجميع جنس الدور، وأي طعام أكلت، فتجيب بجنس المأكول، و(كل) في التأكيد تقتضي الإستغراق، وكذلك ما جرى مجراها مثل: (جميع وجمعاء وأجمعين وجمع) وتوابعها.
واعلم أن لفظة (ما) إذا كانت نافية ووقعت على نكرة اقتضت العموم كقولك: ما رأيت رجلاً، وما في الدار رجل، فإذا عرفت ألفاظ العموم وحقيقته عدنا إلى ذكر مسائل الخلاف.
مسألة:[الكلام في لفظة العموم هل تستغرق جميع المسميات أم لا؟]
ذهب جمهور العلماء إلى أن لفظة العموم تختص بصيغة تقتضي إستغراق جميع المسميات التي وضع لها اللفظ، وخالفهم في ذلك قوم ممن ينتسب إلى علم الكلام، ونفر من الفقهاء.
ومنهم من فصل بين الأمر والخبر، فقال في الأمر: إنه يقتضي العموم دون الخبر، وهو مذهب قوم من المرجئة.
ومنهم من ذهب إلى الوقف في لفظ العموم، وقال: إنه لا يحمل على عموم ولا خصوص وإنما الواجب مراعاة الدلالة على المراد به، فيحمل عليه.
ومنهم من ذهب إلى أن الواجب حمله على أقل ما يحتمله فإنه متيقن وهو الثلاثة.
ومنهم من ذهب إلى أنه يصلح للمسميات التي وضع لها ولا يجب استغراقه لها.
والذي يدل على صحة المذهب الأول: أن لفظ مَنْ إذا دخلت نكرة في المجازات والإستفهام نحو قولك: من في الدار، وقولك: من أكرمني أكرمته، صح أن تستثني من أحببت كقولك إلا ربيعة ومضر وبني فلان وبني فلان، حتى تأتي على جميع العقلاء، ولولا أن اللفظ شملهم على وجه الحقيقة لما صح الإستثناء، كما لا يصح أن تقول: إلا الخيل والبغال وغيرها مما لا يتناوله اللفظ؛ لأن من شرط صحة الإستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته؛ لأن الواحد منا إذا قال علي لفلان عشرة إلا ديناراً فإن هذا الإستثناء بالإجماع يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته؛ لأن العشرة اسم لهذا العقد المخصوص، دون غيره، وإذا قال: رأيت رجلاً إلا زيداً، أو رجالاً إلا زيداً لم يكن استثناء حقيقياً عند أهل اللغة مع أنه قد أخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته، فإن زيداً يصح دخوله تحت هذا الإستثناء، وإن لم يكن حقيقياً لما قدمنا من وجوب إستغراق اسم الرجال عند أهل اللغة بخلاف رجل ورجال.
والذي يدل على أن لفظة العموم تقتضي الإستغراق على وجه الحقيقة: أنهم يجعلون البعض في مقابلة الكل فيقول قائلهم: أخذت كل المتاع أو بعضه، فلو كان لا يقتضي الإستغراق عندهم ما جعلوا البعض في مقابلته كما أنهم لا يقولون: أخذت بعض المتاع أو جزءاً منه، لما كان كل واحد من اللفظين لا يقتضي الإستغراق عندهم.