أو يكون الوقت أكثر من ذلك الفعل كالصلاة المأمور بها من دلوك الشمس إلى غسق الليل، وهذا الذي وقع فيه الخلاف.
وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الوجوب متعلق بأول الوقت، وإنما ضرب له آخره لكي إذا فات يقضى فيه ولا يقضى بعده أصلاً.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه أن القائلين بهذا القول قد انقرضوا فلا يعلم به قائل.
ومنهم من قال إنما ضرب ليدل أن الفاعل مخير في أن يفعله في الأول، وبين أن يفعله في الثاني.
ثم افترقت هذه الفرقة؛
فمنهم من قال: يجوز له تأخيره بشرط العزم على أدائه؛ ومنهم من لا يوجب العزم.
والذي عليه عامة أصحاب الشافعي أنه يجب في أول الوقت، وله تأخيره من غير بدل، هذا كله على قول من يقول إن الوجوب يتعلق بأول الوقت.
وثانيها: أن الوجوب يتعلق بآخره وهذا هو مذهب جماعة أصحاب أبي حنيفة غير محمد بن شجاع(1).
ثم اختلف القائلون بهذا القول؛
فمنهم من قال: المفعول في أول الوقت نفل سقط به الفرض.
__________
(1) ـ محمد بن شجاع البلخي، أبو عبدالله البغدادي، الفقيه الحنفي، مولده سنة (180هـ)، قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- في الشافي (1/ 149)، في سياق ذكر من يقول بالعدل والتوحيد من الفقهاء: (ومنهم أبو شجاع محمد بن شجاع البلخي، وهو المبرز على نظرائه من أهل زمانه، فقهاً وورعاً وثباتاً على رأي أهل العدل، وهو الذي نمق فقه أبي حنيفة واحتج له وأظهر علله، وقواه بالحديث، وحلاه في الصدور، وله تصانيف كثيرة وله كتاب الرد على المشبهة) انتهى.
قال في الجداول: تكلم عليه الحشوية ونالوا منه وقالوا: كان ينال من أحمد. قال مولانا: ولا يبعد أنه من رجال الشيعة، مات ساجداً في صلاة العصر سنة ست وستين ومائتين، وله من العمر (86) سنة.

ومنهم من قال: إنه موقوف مراعى إن بلغ آخر الوقت، وهو باقٍ على شرط التكليف كان ما فعله في أوله فرضاً، وإن بلغ آخر الوقت وقد زال شرط التكليف كان نفلاً.
ومنهم من قال: إنه موقوف مراعى لتعجيل الزكاة يجب بدخوله فيه أو ببلوغه آخر الوقت، وهو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
وثالثها: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وآخره؛ لكنه يجب في أول الوقت موسعاً ويتضيق عليه في آخر الوقت، وحكاه شيخنا عن أبي علي، وأبي هاشم، وقاضي القضاة، والسيد أبي طالب، وجماعة من الفقهاء منهم: محمد بن شجاع.
ثم اختلفوا؛
فمنهم من قال: يجوز تأخيره لا إلى بدل، وهو الذي حكاه شيخنا عن أبي الحسين البصري، وعن القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: لا يجوز له تأخيره إلا بشرط العزم على أدائه(1) وهو الذي حكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي، وأبي هاشم، وقاضي القضاة، والسيد أبي طالب، ومحمد بن شجاع.
ومثال ما اختلف فيه الجميع قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فأوجب سبحانه إقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل على سواء في اللفظ والإرادة، فلم يكن لتعليق الوجوب بأول الوقت دون آخره أو بتعليقه بآخره دون أوله، وجه كما ذهب إليه من قدمنا ذكره.
وأما بطلان اشتراط العزم فقد تقدم(2) فلا وجه لإعادته.
__________
(1) ـ رواه المؤيد بالله عن الإمام القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-. تمت شرح غاية.

(2) ـ تقدم حيث قال -عَلَيْه السَّلام- في مسألة (حمل الأمر على الفور أو التراخي): لا دليل على وجوب العزم المخصوص الذي ذكروه، إنما يجب العزم على وجه الجملة على أداء الواجبات، وترك المقبحات).

مسألة:[الكلام في الأمر هل يدل على القضاء أم يحتاج إلى دليل آخر؟]
الأمر الموقت إذا لم يفعل فيه فمذهبنا أنه يحتاج في وجوب قضائه إلى دليل ثان.
ومن الناس(1) من يقول إنه يُفعل بحكم الأمر الأول، وكذلك عقيبه أبداً.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الفعل إذا وقت بوقت اقتضى فعله في ذلك الوقت وما يفعل بعده لا يتناوله الأمر، فاحتاج إلى دليل ثان.
مثال ذلك: ما نعلمه من أن أحدنا إذا قال لخادمه: إذا كان وقت الظهر فاسقني الماء، ثم وقف إلى وقت المغرب، ثم أتاه بالماء لم يكن ممتثلاً للأمر عند أهل اللسان العربي بل يكون مخالفاً لمقتضى الأمر، ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق صلاح المتعبد بفعله في ذلك الوقت دون غيره فلا يلزمه القضاء من جهة الظاهر، كما ثبت مثله في صلاة الجمعة.
ومثال المسألة في الشرع: قوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فإن من لم يقم الصلاة بين هذين الوقتين يحتاج في الإتيان بها بعد ذلك إلى دليل ثان، وقد ورد وهو قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها(2)))، وغير ذلك من الأدلة.
مسألة:[الكلام في الأمر هل يكون مجزئاً متى فعل أم لا؟ وفي معنى الإجزاء]
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأمر بظاهره يقتضي كون المأمور به مُجْزِئاً متى فُعِل، واختلف شيوخنا في جواز هذا الإطلاق، وهو مذهب الشيخ أبي الحسين البصري، واختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يقتضي ذلك، وهو قول قاضي القضاة، والحاكم، وهو الذي نصره القاضي شمس الدين في البيان.
__________
(1) - وهم الحنابلة وبعض الحنفية منهم أبو بكر الرازي. تمت شرح غاية.
(2) ـ أخرجه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد ونحوه في الجامع الكافي عن علي -عليه السلام-، وأخرجه البخاري في المواقيت (2/84) رقم (597) ومسلم في المساجد (1/477) رقم (314، 684)، والطبراني فيالأوسط (4/327) رقم (6129).

ثم اختلفوا في معنى الإجزاء، فالمروي عن قاضي القضاة أن معنى ذلك أن الفعل وقع على حدٍ لا يلزم فيه القضاء.
وحكي عن الشيخ أبي الحسين البصري أن معنى قولنا إن الفعل مجز، هو أن المكلف بتأديته يخرج عن عهدة ما أمر به سواء لزمه القضاء بعد ذلك أم لا؛ لأن القضاء إنما يجب بدليل آخر كما قدمنا، وهو اختيار شيخنا.
ومذهبنا: أن الأمر إذا ورد على وجه الإبتداء، وأُدي بشرطه وصفته خرج المأمور به عن عهدة الأمر، وسقط عنه القضاء، وكان مجزئاً، وإن لم يقع على هذا الوجه خرج عن كونه مجزئاً؛ لأنا نرى أن لفظ الإجزاء في العرف يقتضي لزوم سقوط القضاء، فيخرج بهذا الإحتراز عن إلزام مفسد(1) الحج والصوم، وعن المخاطب بالصلاة(2) الذي يظن أنه على طهارة، فإنه يجب عليه الأداء في تلك الحال(3)، والقضاء عند ذكر فساد الطهارة.
وما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري قوي على النظر إلا أنه ينقض بالعرف بين العلماء؛ لأنهم يعبرون عن الإجزاء بسقوط القضاء، وعن عدم الإجزاء بوجوبه.
__________
(1) ـ إلزام مفسد الحج هو: أنه يجب عليه إتمام بقية أركان الحج بعد فساده عليه بوطئ قبل الرمي، ولكن ذلك الإلزام بالإتمام لا يسقط عنه لزوم القضاء، ولا يخرجه عن عهدة الأمر؛ لأنه بدليل آخر، لكنه يقال: إن الحج الفاسد قد أجزى باعتبار الأمر الذي تناوله بعد فساده، وهو لزوم الإتمام، لا باعتبار الأمر الأول وهو وجوب الحج على الوجه الصحيح، فإنه لم يجز عنه إذ لو أجزى عن الأمر الأول، لما لزم قضاؤه، وإنما لزمه القضاء؛ لأنه لم يؤد الأمر على صفته وشرطه في الابتداء، وهذا هو موضع الاحتراز.

(2) ـ الذي يصلي في آخر الوقت، تمت مقنع.
(3) ـ ويخرج بذلك الأداء عن عهدة الأمر الأول إذ لا يمكنه أن يفعل غير ما فعل لفقد علمه بانتقاض الطهارة، ويسقط عنه الذم المستحق بالإخلال بها، وليس مع ذلك بمجز له في عرف العلماء. تمت مقنع.

مسألة:[الكلام في الأمر المطلق هل يفيد المرة أو التكرار؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا أطلق هل يفيد بظاهره الفعل مرة واحدة، أو يفيد تكرار الفعل.
فالظاهر من مذهب(1) جماعة أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي، وهو المحكي عن أبي الحسين وهو ظاهر قول الشافعي(2) أنه لا يقتضي التكرار.
ومنهم من يقول إنه يقتضي التكرار وهو ظاهر قول أصحاب الشافعي(3).
ومذهبنا أنه بظاهره لا يفيد التكرار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المفهوم من ظاهر الأمر عند أهل اللغة إيقاع الفعل، ولهذا إذا قال السيد لعبده: ادخل الدار، ثم دخل مرة واحدة خرج عندهم من عهدة الأمر.
ولأن الأمر أيضاً لو أفاد بظاهره التكرار لأفاده الخبر، ومعلوم أنه لا يفيده.
__________
(1) ـ وهو الظاهر من مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي، وهو مذهب الشيخين أبي علي وأبي هاشم، وكافة شيوخ المتكلمين، واختيار السيد أبي طالب. تمت مقنع.
(2) ـ الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب المطلبي، أبو عبدالله الشافعي، الإمام العالم، أحد أئمة الإسلام، وأحد الشيعة الأعلام، ولد سنة (150هـ) بمدينة عزة ونقل إلى مكة وهو ابن سنتين فقرأ القرآن وحفظه وهو ابن سبع سنين، ثم رحل إلى مالك وهو ابن عشر سنين ليقرأ الموطأ عليه، ثم قدم بغداد، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها حتى مات، وهو إمام المذهب الشافعي وشيخه إبراهيم بن أبي يحيى المديني تلميذ الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان ممن بايع الإمام يحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، وهو أحد دعاته والآخذين للبيعة من الناس، وهو معدود من أئمة الشيعة وأشعاره في هذا الباب مشهورة معروفة، وهو أول من صنف في أصول الفقه، وتوفي رحمة الله عليه بمصر في صفر سنة (204هـ) وعمره (54) عاماً.
(3) ـ وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. تمت مقنع.

وإنما قلنا ذلك لأنهما قد اشتركا بظواهرهما في الإفادة إلا أن الأمر أفاد الدخول في المستقبل، والخبر أفاد(1) دخوله في الماضي مثلاً، فكان التكرار صفة زائدة(2)على الدخول فلا تثبت إلا بدليل، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا قيد بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا قيد بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار أم لا؟
فذهب جماعة ممن وافق في أنه إذا أطلق لم يفد التكرار إلا أنه إذا علق بشرط أو صفة أفاد التكرار.
والذي عليه أصحابنا وهو المروي عن أبي الحسين أنه لا يتكرر بتكرر الصفة، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن تعليقه بالصفة والشرط لا يفيد من جهة ظاهره أكثر من إيقاعه عند حصول الشرط ووجود الصفة؛ لأن المعلوم أن أحدنا إذا قال لوكيله: طلقها إن دخلت الدار، ولخادمه: إشتر اللحم السمين إن دخلت السوق، لم يفد الظاهر تكرر الطلاق والشراء كلما دخلت الدار، وكلما وجد اللحم السمين، بخلاف ما لو علّقه بما يقتضي التكرار من قبل ظاهره مثل: قوله لوكيله: كلما دخلت الدار فطلقها، ولخادمه: كلما دخلت السوق فاشتر اللحم السمين، فقد رأيت بيان الظاهرين.
__________
(1) ـ نحو أن يقول: (دخل زيد الدار أمس) فهذا خبر يفيد الدخول في الماضي، وقوله: (ادخل الدار) وهذا أمر يفيد إيقاع الفعل في المستقبل؛ فإن الخبر يفيد أنه دخل الدار مرة فقط، فكذلك الأمر.
(2) ـ كونه صفة زائدة لأنه حصل الاتفاق على وجوب الفعل مرة واحدة، واختلفوا في ما عداها من وجوب التكرار، ولأنه لا بد من فعل المرة لصحة إيقاع الفعل بالأمر.

مسألة:[الكلام في تكرر الأمر بغير حرف العطف هل يقتضي تكرر المأمور به أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا تكرر من غير حرف عطف(1)، هل يقتضي تكرر المأمور به أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنه يقتضي تكرر المأمور به، وهو اختيار الحاكم(2).
وذهب قوم إلى أنه لايقتضي التكرار.
وقال آخرون: بالوقف في ذلك، وحكاه شيخنا عن الشيخ أبي الحسين البصري.
والظاهر من رأي شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك لا يفيد التكرار؛ واحتج لذلك بأنه لا يمتنع أن يدل على الشيء دليلان فأكثر، وبأن الخبر قد يتكرر، ولا يفيد تكرار المخبر عنه، كما ذلك في كتاب الله سبحانه وغيره.
__________
(1) ـ قال الإمام يحيى بن المحسن الداعي -عَلَيْه السَّلام- في المقنع: اعلم أن الأمر إذا ورد بعده أمر من غير حرف عطف فلا يخلوان؛ إما أن يكونا من جنس واحد، أو لا في جنس واحد.
فإن لم يكونا في جنس واحد فلا خلاف أن الثاني يقتضي خلاف ما يقتضيه الأول، مثاله: أن يقول الآمر: (صل ركعتين، صم يوماً).
وإن كانا في جنس واحد، فإما أن يكونا نكرتين، أو لا يكونا نكرتين بل كان الثاني معرفاً بالألف واللام وجب حملهما على مأمور واحد لأجل تعريف العهد، مثاله أن يقول: (صل ركعتين، صل الركعتين) ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)} [الشرح]: (لن يغلب عسر يسرين)، وهذا مما لا يظهر فيه الخلاف.
وإن كانا نكرتين: فإما أن يصح التكرار في المأمور به أم لا؛ إن لم يصح التكرار في المأمور به حمل الأمر الثاني على التأكيد لما اقتضاه الأمر الأول بلا خلاف، مثاله: أن يقول القائل لغيره: (اقتل زيداً اقتل زيداً، اعتق فلاناً اعتق فلاناً).
وإن كان المأمور به مما يصح فيه التكرار، فإما أن يكون هناك قرينة أو لا يكون هناك قرينة وجب حمل الكلام على حسب ما تقتضيه القرينة بلا خلاف، وإن لم يكن هناك قرينة فهذا النوع هو الذي ينبغي حصول الخلاف فيه) انتهى.
(2) - وقاضي القضاة وكثير من المتكلمين. تمت مقنع.

واحتج من قال بالأول: بأن كل واحد من الأمرين لو انفرد لأفاد مأموراً غير الأول، فإذا اجتمعا لم تتغير فائدتهما، وهذا له وجه.
والذي نختاره: مثل قول شيخنا، ونحمل فائدة التكرار على تأكيد إلزام الفعل كما نعلمه من أهل اللغة أن قائلهم قد يقول: افعل افعل، وأكثر من ذلك ولا يريد به إلا مأموراً واحداً، ومعاني الخطاب لم تؤخذ إلا منهم؛ لأن اللسان لسانهم.
مسألة:[الكلام في الأمرين إذا عطف أحدهما على صاحبه]
إذا عطف أحد الأمرين على صاحبه؛ فلا يخلو الحال فيه من ثلاثة أوجه:
أولها: أن يفيد الثاني مثل ما أفاد الأول من غير زيادة ولا نقصان، فالواجب حمله على مراد ثانٍ لاستحالة عطف الشيء على نفسه، ومثاله: أن يقول: أقم الصلاة اليوم وأقم الصلاة غداً.
وثانيها: أن يفيد غير ما أفاده الأول في شرطه وصفته، فلا خلاف في أنه يجب حمله على مقتضاه.
وثالثها: أن يفيد بعض ما دخل تحت الأول، فالواجب أن يحمل الثاني على أنه أراد به غير البعض الذي دخل تحت الأول. ومن الناس من يخالف في ذلك(1).
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن من حق المعطوف أن يقتضي غير ما يقتضيه المعطوف عليه، وذلك ظاهر في اللغة كما أن أحدنا إذا قال: رأيت الزيدين وزيداً، علمنا أن زيداً الثاني غير الزيدين الأولين، ولهذا يصح أن يقول: زيد بن عبدالله، وزيد بن عمرو، وزيد بن خالد، ولو فسر زيد الثاني بأحد الزيدين الأولين كان ذلك خُلْفاً من الكلام، والأمر والخبر في ذلك سواء، كما إذا قال لخادمه: احمل عودين وعوداً، لم يخرج عن عهدة الأمر بحمل عودين، فصح بما قدمنا حمل ذلك على مأمورين.
__________
(1) ـ ويذهب إلى أن الأمر الثاني يحمل على أنه أريد به البعض الذي دخل تحت الأول فقط. تمت.

مسألة:[الكلام في الأمر إذا قرن به لفظ التأبيد]
الأمر إذا قرن به لفظ التأبيد لا يدل على الدوام عند الشيخ أبي عبدالله البصري، والفقهاء يخالفونه.
ووجه قولهم: الخبر المقيد بلفظ التأبيد يدل على الدوام فكذلك الأمر، وهو الذي نختاره.
والدليل عليه: أن الواحد منا إذا قال لخادمه: لازم الغريم أبداً أفاد ذلك دوام ملازمة الغريم ما دام غريماً، وهو الذي أقره شيخنا رحمه الله في كتابه الذي سماه الفائق في أصول الفقه، وكان كلامه رحمه الله في التدريس يختلف فتارة يرجح قول أبي عبدالله، وتارة يرجح قول الفقهاء، ويحتج للقولين جميعاً بحجج ذكرها يخرجنا إلى الإسهاب.
مسألة:[الكلام في الكفار هل هم مخاطبون بالشرائع أم لا؟]
اختلف أهل العلم هل الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا؟
فذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي إلى أنهم مخاطبون بها، وهو المروي عن أبي الحسين رحمه الله وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، وهو الذي نختاره.
وفي الطائفتين من يذهب إلى أنهم غير مخاطبين بها، وعمدتهم في ذلك أنهم لو خوطبوا بها لوجب عليهم قضاؤها، وهذا غير مستمر؛ لأنا نعلم أنا مخاطبون بصلاة الجمعة فمن لم يؤدها في ذلك الوقت لم يجب عليه قضاؤها عند الجميع، ولأن الدليل كان يوجب القضاء عليهم لولا ما ورد عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من قوله: ((الإيمان يجبّ ما قبله)) ومعناه: يسقط، والعين لا يتحقق فيها الإسقاط، فدلت أن المراد بذلك الأحكام، ومن الأحكام وجوب القضاء، فسقط ما قالوه.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الخطاب متوجه إلى الكافر توجهه إلى المسلم، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، والشرائع داخلة في ذلك، ولأن الشرط في توجه الخطاب إلى الكافر شرط في توجه الخطاب إلى المسلم من كمال العقل، وزوال الموانع، ولأنهم لو لم يخاطبوا بها حَسُنَ منهم تركها كما ثبت مثل ذلك في الطفل والمجنون، ومعلوم خلافه.

وأحسب أن الذي حملهم على ذلك من جهة التحقيق اعتقادهم أن معرفة الله تجب عليهم أولاً، ثم الشرائع بعد ذلك، فتوهموا بذلك أنهم غير مخاطبين بها.
وهذا باطل؛ لأنا نعلم أنا مخاطبون بالصلاة، وإن كان الطهور واجباً علينا قبلها، وكذلك أيضاً معرفة الله تعالى تجب على المسلم قبل الشرائع وجوبها على الكافر، ولم يقل أحد إنه غير مخاطب؛ ولأن الله تعالى حكى عن المشركين يوم القيامة أنهم عوقبوا على الصلاة، فلو كانوا غير مخاطبين بها لم يعاقبوا، دليله الطفل والمجنون كما قدمنا، وذلك ثابت في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)} [المدثر:42ـ46]، ولم ينكر عليهم سبحانه ذلك، ولأن الكذب في الآخرة لا يجوز وقوعه.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا ورد بعبارة تحتمل الحقيقة والمجاز هل يجوز أن يكونا مرادين أم لا يجوز؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا ورد بعبارة تصلح لمعنيين أحدهما حقيقة والآخر مجازاً؛ هل يجوز أن يكون المعنيان معاً مرادين بها، أو لا يجوز؟
فذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه لا يجوز أن يراد بعبارة واحدة معنيان مختلفان، وهو المروي عن الشيخ أبي عبدالله رحمه الله وكان يشترط في ذلك أن يكون المخاطِب واحداً، والوقت واحداً.
وعندنا أنه يجوز أن يراد بالعبارة الواحدة الحقيقة والمجاز إذا قدر زوال التنافي بين الإرادتين لكونهما من مقدور العبد، ويجوز أن يدعو الداعي إلى مقتضاهما، أو يصرف الصارف عنه فتوجد العبارة المفيدة لهما وهي مقدورة أيضاً.

6 / 41
ع
En
A+
A-