ومثال المسألة: ما قالوه من أن المصلي يجب عليه التيمم عند عدم الماء بالإجماع، فإذا دخل في الصلاة ورأى الماء استصحب الحال الأولى لأنه قد أجمع على وجوب الصلاة عليه بالتيمم وهذا يبطل عندنا؛ لأنا نقول: بأن الإجماع تناول الحال الأولى دون الثانية لأن حال عدم الماء يخالف حال وجوده فلا يجوز الجمع بينهما في الحكم بغير دليل سيما والتكليف يتغير بتغير الحالات لاختلاف المصالح باختلاف الأوقات كما قررنا ذكره في باب الناسخ.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يفصل القول في ذلك، ويقول: إن الحكم المستصحب قد يكون عقلياً، وقد يكون شرعياً:
فالعقلي أن يقول القائل في المتيمم المصلي إنه إذا لم يرَ الماء لم تلزمه الطهارة، ووجب أن يمضي في صلاته، فكذلك إذا رأى الماء وهذا يبطل لما قدمنا من عدم الطريقة الجامعة بين الحالين، إذ لو جاز الجمع بغير دلالة رابطة لأدى إلى فتح باب الجهالات، بأن نقول إن الفقير لا يلزمه إخراج الزكاة قبل وجود المال فكذلك إذا وجده لا يلزمه الزكاة؛ لأن دلالة الخطاب العام بوجوب إخراج الزكاة وطهارة من أراد الصلاة ثابت على سواء.
وكان رحمه الله تعالى يقول: إن هذا يصح من وجه دون وجه:
أما الوجه الذي يصح منه: فهو أن يسقط عنه الوضوء بعد رؤية الماء؛ لأن إيجابه شرعي فلو كان ثابتاً لكان عليه دليل شرعي وليس عليه دليل شرعي، فمتى بين المستدل بذلك أنه ليس عليه دليل شرعي صح استدلاله إلا أنه إذا بين بأنه لا دليل عليه من جهة الشرع صح مذهبه بالإستدلال لا باستصحاب الحال.
قال رحمه الله تعالى: فإن عورض على ذلك فقيل: الأصل وجوب الطهارة بالماء في الشرع فلو سقطت عن الرائي للماء في الصلاة وهو متيمم لكان عليه دليل شرعي لم يسلم الخصم أن الطهارة واجبة في كل حال، وإن رأى المتيمم الماء، فإن استدل على وجوب ذلك بعموم الخطاب كان استدلالاً بالعموم، ولم يكن استدلالاً باستصحاب الحال.

واعلم أن الوجه عندنا هو الذي قدمنا، وكون الطهارة بالماء غير واجبة على عادمه حال عدمه ليست بحكم عقلي عندنا، وإنما هو حكم شرعي ثابت بطريق شرعي، وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى عائد إلى ما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري أنه لا بد من بقاء حكم عقلي، وهذا غير مسلم عندنا على الإطلاق.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ما اخترناه على نحو ما قدمنا في مسألة العتاق والرق ونظائرها، ونحن لا نسلم أنه حكم عقلي؛ لأنا لا نعلم علم ذلك الوجه بالعقل وهذا ظاهر ولا يمكن الخصم تصحيحه، وإنما هو حكم شرعي واجب في الأصل على حال فإن تغيرت الحال زال الحكم كما نعلمه في المطالب بالدين في حال عدمه أن القضاء ساقط عنه لعدمه، فإذا وجد المال لم يجز له استصحاب الحال ووجوب القضاء عليه هو الأول، وكذلك من لا تلزمه الزكاة لقصور ماله عن النصاب أو لا يلزمه قدراً زائداً؛ لأن المال لم يبلغ الحد الذي يجب معه إخراج تلك الزيادة لا يجوز له استصحاب الحال عند بلوغ ذلك القدر ولا علة لتجدد الوجوب إلا لتغير الحال الأولى؛ لأن الحكم يثبت بثبوتها ويزول بزوالها، وذلك أمارة العلة الشرعية.
وقد كنا في باب العلل شرطنا صحة العلة بأن لا يكون ثم ما تعليق الحكم به أولى، ثم تدبرنا الأمر فوجدنا ظاهر أحوال أهل العلم يقضي بأن ذلك لا يجب اعتباره في العلة الشرعية، وأنه لا يلزم فيها ما يلزم في العقلية، ويكون الفرق بينها وبين الشرط أنها لا يجب تكررها والشرط يجب تكرره لتكرر وجوب المشروط.
فهذا هو الكلام على الوجه الذي ذكره شيخنا رحمه الله تعالى أنه يصح من استصحاب الحال.

وأما الوجه الذي لا يصح منه: فإن سقط عنه طهارة أخرى لأجل سقوطها يعني الطهارة بالماء إذا لم يرَ الماء عند التيمم، وهذا لا يصح لأنه جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما فلا طريقة تنظمهما وما هذه حاله فليس إثباته أولى من نفيه، يبين ذلك ويوضحه: أنه لا يمتنع أن تختلف مصلحة المكلف في ذلك بحسب اختلاف الحالين فتسقط عنه الطهارة بالماء في حال وتجب في حال بحسب اختلاف المصلحة، ولهذا جاز ورود النص على الرائي للماء في الصلاة مع سقوطه عمن لم يره فيها.
وأما إذا كان الحكم المستدام شرعياً فمثاله أن يقول القائل للمتيمم إنه إذا رأى الماء قبل صلاته وجب عليه التوضي به فكذلك إذا راءه بعد دخوله في الصلاة، ومن زعم أن فرض الوضوء يتغير بالدخول في الصلاة فعليه الدليل.
قال رحمه الله تعالى: وهذا بعيد لأنه إن شرك بين الحالين في وجوب الوضوء لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء فليس باستصحاب الحال الذي ننكره، ويذهب إليه المخالف، وإن شرك بينهما في ذلك لاشتراكهما في علته فهذا قياس، وإن شرك بينهما بغير دلالة ولا علة فليس هو بأن يجمع بينهما أولى من أن لا يجمع بينهما.
وبعد، فهذا قياس بغير علة وأصحاب الظاهر يمنعون من القياس بعلة فكيف يجوزونه بغير علّة هل هذا إلا مناقضة ظاهرة في الحكم والتعليل؟
فإن قيل: حدوث الحادث لا يغير الأحكام فحدوث الصلاة إذاً لا تغير وجوب الوضوء.
قلنا: ليس يمتنع اختلاف المصالح بحدوث الحوادث وبهذا ورد النص بإسقاط الوضوء على الرائي للماء في الصلاة مع وجوبه على من راءه قبل الصلاة.
فإن قيل: لو لم يتعد الحكم من حالةٍ إلى حالةٍ لوجب قصره على الزمان الواحد.
وأجاب عن ذلك: بأنه يجوز أن لا يكون دليل الحكم وعلته قد عما الأزمنة، وقد قدّمنا الكلام في هذه المسألة وأن استصحاب الحال لا يصح عندنا على وجه من الوجوه أعني أنه لايكون لمجرده دلالة.

فأما قصر الحكم فلا يجوز عندنا بغير دلالة كما قلنا في تخصيص العلة ما دام العبد مكلفاً لذلك الحكم الذي دل الدليل على وجوبه عليه، ولا يكون التجويز دلالة لأنا لا نمنع من ثبوت الحكم الممكن إن قامت عليه دلالة فهذا ما احتمله هذا المكان من الكلام في هذه المسألة.
فصل:[الكلام في طرق المعلوم بالدليل]
ذكر شيخنا رحمه الله تعالى فيما يعلم بمجرد دلالة العقل وما يعلم بمجرد دلالة السمع، وما يعلم بمجموعهما.
فقال: اعلم أن المعلوم بالدليل لا يخلو إما أن يعلم بالعقل فقط، أو يعلم بالشرع فقط، وإما بمجموع العقل والشرع.
أما ما يصح أن يعلم بالعقل فقط، فهو: ما كان في العقل دليل عليه وكان العلم بصحة السمع موقوفاً على العلم به كالعلم بالله سبحانه وتعالى، وبصفاته من كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، وعالماً بجميع المعلومات، وحياً وغنياً، وأنه عدل حكيم، قال رحمه الله تعالى: وقد أشرنا إلى ذلك في باب الإجماع.
واعلم أنه يلحق عندنا بهذه المسائل أنه تعالى لا يشبه الأشياء، وأنه موجود، وقد بينا في باب الإجماع أن ذلك مما لا يصح العلم بالسمع إلا بعد العلم به مما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
وأما ما يصح أن يعلم بالعقل وبالشرع: فهو ما كان في العقل دليل عليه، ولم يكن العمل بالشرع موقوفاً على العلم به، ومثله بالعلم بأن الله تعالى موجود بناء على أصله في ذلك، وقد بينا الكلام فيه فيما تقدم وأنه لا يشبه الأشياء، وأنه مدرك للمدركات.
فأما كونه تعالى مدركاً للمدركات فيمكن الإستدلال عليه عند من يرجع بالإدراك إلى معنى غير العلم زائد على العلم، فأما من يرده إلى العلم فلا يمكنه الإستدلال عليه بذلك ابتداء.

قال: وكالعلم بأنه تعالى لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد بينا في باب الإجماع أن الإستدلال على أنه تعالى لا يشبه الأشياء لا يصح الإستدلال عليه بالسمع فيلزم عليه أن لا يصح الإستدلال على نفي الرؤية بالسمع ابتداء.
فأما بعد دلالة عقلية يمكن المنع بها أولاً من جواز الرؤية عليه فيجوز الإستدلال بالسمع بعد ذلك، لأن تظاهر الأدلة يكسبها قوة ويولد العلم بمدلولاتها، فيمكنا الإحتجاج بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، بعد العلم بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنفي الرؤية على التحقيق يدخل تحت نفي التشبيه؛ لأن الرؤية المعقولة تفيد التشبيه، والرؤية التي ليست بمعقولة لا يصح إثباتها.
فأما ما يصح معرفته بالعقل والشرع: فقد ذكر رحمه الله تعالى أنه كاستدلالنا على أن القياس وخبر الواحد طريقان شرعيان يجب العمل بهما، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الأخبار وباب القياس، وأن ذلك معلوم بالعقل والشرع.
وأما ما يعلم بالشرع وحده: فهو ما كان في السمع دليل عليه دون العقل وذلك كالمصالح الشرعية والمفاسد الشرعية فلا هداية للعقول في معرفتها؛ لأن العلم بها موقوف على العلم بأحكامها أو بوجوهها وذلك مما استأثر الله تعالى بالعلم به فلا يجوز معرفته إلا بوحي من جهته سبحانه.
وأما بعض ما له تعلق بهما: فهو بعض طرق الأقسام الشرعية نحو كون الإجماع حجة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الإجماع، وأنه لا يعلم إلا بالسمع.
[الكلام في الأسباب والعلل والشروط]
وما به تعلق بهما أسباب الأحكام الشرعية وعللها وشروطها.
أما الأسباب: فيجوز زوال الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة، ونحو الزنا الذي هو سبب لوجوب الحدّ وغير ذلك.
وأما العلل: فنحو الكيل مع الجنس الذي هو علة الربا إلى غير ذلك.
وأما الشروط: فهي منقسمة قسمين:

منها ما هي شروط في الأحكام معلومة بالعقل كالشروط التي شرطتها الشريعة في البياعات؛ لأن وقوع الملك بالبيع معلوم بالعقل، ويمكن أن يقال إن ذلك الحكم على ذلك الوجه معلوم بالشرع؛ لأنه لا يعلم صحته على ذلك الوجه إلا بالشرع؛ لأن الشرع يصحح بعضها ويفسد بعضها.
قال: ومنها ما هي شروط في أحكام شرعية كستر العورة والطهارة فإنهما شرطان في صحة الصلاة إلى غير ذلك.
وذكر رحمه الله تعالى الفرق بين العلة والسبب بوجوه ثلاثة:
أحدها: أن العلة لا يجب تكررها، والسبب يجب تكرره كالإقرار بالزنا فإنه سبب الحد ومع ذلك يعتبر تكرره.
وثانيها: أن العلة قد تختص بالمعلل والسبب قد لا يختص به كزوال الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة.
وثالثها: أن السبب قد تشترك فيه جماعة ولا يشتركون في حكمه كزوال الشمس، فإنه يشترك فيه الحائض والطاهر، ولا يشتركان في وجوب الصلاة، وليس كذلك العلة؛ لأنها لا يجوز أن تشترك فيه جماعة ولا يشتركون في حكمها.
قال رحمه الله تعالى: واعلم أن التفريق بين العلة والسبب بهذا الوجه إنما يصح على رأي من يمنع من تخصيص العلة.
فأما من يجيز تخصيصها فلا يصح الفرق بينهما بذلك، وهذا صحيح عندنا كما ذكره رحمه الله تعالى، فهذا هو الكلام في هذه المسألة.

[خاتمة]
وبهذه المسألة تمّ كتاب صفوة الإختيار، بمعونة العزيز الجبّار، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، ما اختلف الليل والنهار، ودار الفلك الدوار، وأشرقت الشموس وأضاءت الأقمار، على الهداية في البداية والنهاية، والبلوغ إلى هذه الغاية.
واعلم أنا قد توخّينا في هذا الكتاب مطابقة شيخنا رحمه الله تعالى بمتابعته ببركاته واستشعاراً باقتفاء أثره، واجتهدنا فيما اختلف فيه النظر حيث لم نجد إلى الوفاق سبيلاً لوجوب اتباع ما ظهر عند المجتهد برهانه، وظاهر عنوانه، في تبين احتجاجه رحمه الله تعالى إيضاح دلائله؛ لأن من الجائز أن يطلّ الغير على كتابنا هذا فينظر احتجاج شيخنا رحمه الله تعالى على وجهه فيغلب على ظنّه اتباعه أو يظهر له من دلالته ما لم يظهر لنا فيأخذ أجر هدايته، ويجني ثمرة سعايته، بغير واسطة منّا ولا من غيرنا، وفعلنا ذلك رعاية لحقه، والتزاماً بما يجب علينا من تعظيمه؛ لأنه شيخ ما انتهينا إليه وقاعدته - بعد توفيق الله وهدايته- ولا نبرّي نفوسنا مع ذلك من الوهم العارض؛ بل ذلك الأولى بمن حيل على النقصان، واشتُقّ اسمه من النسيان، سيما في مثل هذا الزمان، فالله المستعان وعليه التكلان؛ فما الفزع إلا إلى الله ولا الإستعانة إلا به، ونسأله أن يجعل الأعمالَ الموجبة لرحمته والخلود في جنته خاتمةَ أعمالنا، وأن يبلّغنا من المنابذة عن دينه والإيضاح لسبيله وإرادته صالح آمالنا، ولا يجعلنا من المأخوذين على غرّة، ولا من المفتونين بظاهر الشبهة، ويجعلنا من الناظرين بعين النصفة، المنقادين لأزمة الهداية، بحقّه العظيم واسمه الكريم، وأن يخصّ بالصلاة الزاكية المباركة الوافية محمداً الأمين وآله الطيبين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــ
تم الكتاب والحمد لله المنعم الوهاب
وافق الفراغ من زبره قبيل غروب الشمس في يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة (1034هـ) والحمد لله أولاً وآخراً وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
---

41 / 41
ع
En
A+
A-