فأما أصول الدين فلم يقم على جواز التقليد فيها دلالة بل قامت الدلالة على أن التقليد فيها لا يجوز، ولأن قيام الدلالة على جواز التقليد فيها مستحيل؛ لأنه لا يصح إلا بدلالة من الخطاب، ودلالة الخطاب لا تصح إلا بعد معرفته سبحانه بصفاته الواجبة له، وما لا يجوز عليه وما يجوز، ومعرفة أفعاله وأحكام أفعاله، وصحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله [وسلم]، وأن الكذب لا يجوز عليه، ولا التلبيس والتغرير إلى غير ذلك، وهذا لا يتم إلا بعد الإحاطة بأصول الدين بالأدلة والبراهين فكيف يقدر المستحيل فضلاً من تحقيقه.
مسألة:[الكلام في المجتهد هل يجوز له التقليد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في المجتهد هل يجوز له تقليد مجتهد آخر، أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن أبا علي منع من ذلك، وقال: لا يجوز له الأخذ بقول آحاد الصحابة إذا اختلفوا إذا كان من أهل الإجتهاد، فإن ترجح عنده قول بعضهم عمل به، وأحسب أنه يوجب عليه عند استوائهم الرجوع إلى اجتهاد نفسه.
وذكر قاضي القضاة: أن الأولى للمجتهد العمل على اجتهاد نفسه، وحكى عن محمد بن الحسن: أنه جعل الأصول أربعة ذكر منها: إجماع الصحابة واختلافها، فَجَعْلُهُ الإختلاف من الأصول يقضي بجواز الأخذ بالقول المختلف فيه.
وذكر الشافعي في رسالته القديمة جواز تقليد الصحابة ورجح قول الأئمة منهم، ومنع أكثر الفقهاء والمجتهدين من ذلك.
واختلفوا في جواز تقليد العالم من هو أعلم منه من الصحابة وغيرهم؛ فجوز ذلك محمد بن الحسن، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في جوازه والمنع منه، وأجاز ابن سريج تقليد العالم من هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الإجتهاد، وأكثر الفقهاء يمنعون العالم من تقليد من هو أعلم منه وهو مذهب القاضي وأبي الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: ما تقرر في الجملة من الأصول أن التقليد لا يجوز؛ لأن المقلد لا يأمن خطأ من قلده سهواً أو عمداً، والإقدام على ما لا يأمن الإنسان كونه مخطئاً فيه قبيح على ما قررناه اولاً على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين، فلا يجوز التقليد إلا لدلالة شرعية.
وإنما جوزنا للعامي التقليد في مسائل الفروع لدلالة تخص ذلك، وهو الإجماع من الصحابة على جوازه كما قدمنا ذكره، ولا يجوز قياس ما لم تقم عليه الدلالة لا على جملة ولا تفصيل على ما قامت عليه الدلالة بأحد الوجهين لأن ذلك يقتضي باب الجهالات؛ لأن الدلالة إذا قامت على جواز تقليد بعض مخصوص كالنبي صلى الله عليه وآله [وسلم] وكتقليد العامي للعالم أمنا من الخطأ في التقليد وارتفع الوجه الموجب لقبح التقليد.
وكذلك إن قامت الدلالة على جواز تقليد بعض الصحابة لبعض إن صح دعوى ذلك فهذه طريق شرعية توجب التخصيص لجواز بعض التقليد، وهو الذي قامت عليه الدلالة، فلو أدخلنا في ذلك ما لم تقم عليه دلالة لجاز التقليد الذي قضت الأدلة بقبحه، وذلك لا يجوز، والعالم لم ترد دلالة شرعية تجوز تقليده لغيره من العلماء.
فأما إذا كان غيره أعلم منه على معنى أنه قد بلغ درجة الإجتهاد، وهو لم يبلغها فلا كلام في أنه يقلده لأنه في حكم العامي في تلك الحال.
فأما إذا بلغا جميعاً درجة الإجتهاد فلا يجوز له تقليده لأن كل واحد منهما متمكن من الإتيان بما كلف فلا يجوز له تركه مع التمكن.
فإن قيل: إنه يقلده لكونه أوسع علماً وأهدى إلى استنباط العلل وأثقب نظراً فجاز تقليده لهذه الوجوه.
قلنا: لو جاز ذلك لهذه العلة لجاز للبليد تقليد الفطين في أصول الدين لمثل ما ذكرتم، والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إنه يرجح قوله على قول نفسه، فيجوز له تقليده.
قلنا: إن رجحه بأن نظر في علته ودليله وعلم أنه أقوى من دليل نفسه وعلته فذلك جائز ولكنه من التقليد بمعزل؛ لأنه إنما أخذه بالنظر والإستدلال والترجيح بين الأقوال جائز للمجتهد.
* * * * * * * * * * *
الكلام في الحظر والإباحة
فصل:[الكلام في حد الحظر والإباحة]
وينبغي لنا أن نتكلم في حدّ المحظور والمباح، والحظر والإباحة أولاً، ثم ننهي الكلام بعد ذلك في فروع مسائله وتفاصيلها؛ لأن الكلام في حكم الشيء يتفرع على معرفته في الأصل كما لا يجوز لك أن تقول: الخمر حرام أو حلال وأنت لا تعرف الحرام والحلال ولا الخمر.
اعلم أن شيخنا رحمه الله تعالى قد ذكر في ذلك حدوداً كثيرة من أهل العلم رحمهم الله تعالى وصحح بعضها واختار، ونحن نذكر ما ذكره من ذلك رحمه الله على وجهه الذي ذكره ليكون ذلك أوضح للناظر وأقرب متناولاً للمجتهد المميز بين صحيح الأقوال وسقيمها، وموتشبها(1) وصميهما، فإن الله تعال من كرمه وسعة جوده لم يجعل قول أحد من خلقه غاية لا يجوز مجاوزتها، وكيف وقد قال في كتابه الكريم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وإنما ذكرت هذه الألفاظ رجاء أن ينفع الله سبحانه بها الناظر في هذا الكتاب وغيره من أهل المعرفة، ويكون ذلك داعية إلى الترجيح بين الأقوال، والنظر في طرق الإستدلال ليكون من أمره على يقين كما قال أصدق القائلين، في كتابه المبين: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].
عدنا إلى ما كنا فيه من التحديد، قال رحمه الله تعالى:
حدّ المحظور، هو: الفعل الذي منع الله منه بالنهي والوعيد والزجر،وهذا حد صحيح؛ لأنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحد.
__________
(1) ـ الموتشب هو المختلط، والصميم هو الخالص من الشوائب.
قال: وقد يستعمل في الفعل إذا كان قبيحاً سواء كان قبحه معلوماً بالعقل أو بالشرع، وسواء زجر الله عن فعله بالنهي والوعيد أم لا، ومتى استعمل في ذلك كان على طريق التوسع والمجاز ولا يستعمل على جهة الحقيقة إلا على ما ذكرناه أولاً.
واحتج لذلك: بأن ما يحصل من الصبي والساهي والنائم من القبيح لا يسمى محظوراً لما لم يتعلق به النهي والوعيد والزجر.
وحدّ القبيح: بأنه ما ليس للقادر عليه أن يفعله متى كان عالماً بقبحه أو متمكناً من ذلك، وإن شئت قلت: هو ما للإقدام عليه تأثير في استحقاق الذم، واحترزنا بقولنا: متى كان عالماً بقبحه أو متمكناً من ذلك من القبيح من البهيمة والساهي والنائم، فإنه لا يقال ليس لهم الإقدام على ذلك، وإن كان قبيحاً، ولكنهم لو كانوا عالمين بقبحه أو متمكنين من علمه لما كان لهم الإقدام عليه، فهذا هو حد المحظور الذي ذكره رحمه الله تعالى في كتابه الفائق في أصول الفقه، وهو الصحيح فيما نختاره.
فأما المباح، فقد حكى اختلاف أهل العلم في حده؛
فمنهم من حده بأنه: ما لم يؤمر به فاعله ولم ينهه عنه ناهي، ونقض هذا الحد بفعل الساهي والنائم بأنهما لم يؤمرا به، ولم ينهيا عنه، وليس بمباح على الإطلاق ويلزم عليه كون أفعال القديم سبحانه مباحة؛ لأنه لم يؤمر بها ولم ينه عنها.
ومنهم من حده بأنه: ما أعلم فاعله بأنه لا صفة له زائدة على حُسْنِهِ.
وحده بعضهم: أنه ما أعلم فاعله أو دل على أنه حسن لا ضرر عليه في أن يفعله أو لا يفعله، ولا يستحق عليه مدحاً.
وحدّه بعضهم: بأنه ما أعلم فاعله بأن لا مدخل لفعله في استحقاق المدح ولا الذم.
قال رحمه الله تعالى: وهذه الحدود الثلاثة يدخل عليها النقض بالمكروه فإنه داخل تحت هذه الحدود وليس بمباح.
ويرد على الآخر منها النقض بالكلام اليسير والحركة اليسيرة الواقعين من الساهي والنائم بحيث لا يقع فيها نفع لأحد ولا ضرر على أحد فإنهما لا يوصفان بالحسن ولا بالقبح فضلاً أن يقال إنهما مباحان إلا أنه يمكن أن يقال إن فيهما نفعاً أو ضرراً للنائم لأنهما أمر حصل مع جواز أن لا يحصل فلا بد من أمر لأجله حصل، وليس إلا داعي النائم فإن هو كان داعي علم بذلك القدر ووجهه كان له فيها نفع، وإن كان داعي جهل كأن يصدر عن اعتماد جاز أن يكون له فيه نفع وجاز أن يكون عليه فيه ضرر.
وما ذكره رحمه الله تعالى من أن فاعلهما قد أعلم في حال تكليفه بأن لا مدخل لفعلهما في باب استحقاق المدح ولا الذم لا يستقيم؛ لأن حال التكليف لا يعترض بها على حال الإهمال في تحديد التكليف كما لا يعترض بحال الصبي الذي لم يبلغ على حال البالغ في أحكام أفعالهما عند التحديد؛ لأن الساهي والنائم كما جاز تعريفهما في الثاني كذلك الصبي يجوز تعريفه في الثاني، فكما لم يعترض بحال الصبي على حال المكلف كذلك لا يعترض بحال النوم والسهو على حال اليقظة؛ لأن المعلوم من غرض أهل العلم تحديد فعل المكلف في حال التكليف، وذكر حكمه في تلك الحال.
وحده بعضهم: بأنه ما أعلم فاعله بأن لا صفة له زائدة على حسنه ولا ترجيح لتركه على فعله، وذكر رحمه الله تعالى أن ذلك ينقض بكثير من المباحات التي يترجح تركها على فعلها كتقاض الدين من الغريم، فإن الأولى أن لا يتقاضاه ترفيهاً عليه.
وقال: ولذلك يستحق المدح على فعله فلو لم يترجح تركه على فعله لم يستحق بذلك مدحاً، ولذلك استحب الزهد في كثير من المباحات.
قال رحمه الله تعالى: وقد ذكرنا في كتاب التبيان أن الأولى أن لا يكون المكروه قسماً زائداً على المباح بل يكون داخلاً في حده، وكان ذلك هو الواجب.
قال: ويكون الصحيح في حد المباح أحد الأولين من الحدود الثلاثة التي تقدم ذكرها لولا ما تقرر من إجماع العلماء من الفقهاء وغيرهم على إثبات أفعال مكروهة في الشريعة كالأكل بالشمال والإستنجاء باليمين، وهذا الاعتراض عندنا غير لازم؛ لأن ترك التقاضي للغريم على وجه طلب الترفيه عنه من قبيل المندوب لا من قبيل المباح، فينتقض بأن تركه أولى من فعله؛ لأن الندب إلى ترك التقاضي ظاهر في الشريعة، وقد وردت به الآثار عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كما روينا عنه بالإسناد أنه قال: ((من أقرض قرضاً كان له مثله صدقة، ثم قال: من أقرض قرضاً كان له مثلاه في كل يوم صدقة، فسأل صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فقال: من أنظر به بعد حلول أجله كان له كل يوم مثلاه صدقة(1))) وإنما يكون مباحاً إذا لم يكن في تركه ترفيه على الغريم فتغيُّر الحالات لا يعترض بها على أصول الدلالات.
ألا ترى أن المحظور قد يصير بتغير الحال مباحاً بل واجباً كأكل الميتة؛ فإنه محظور في حال وواجب في حال آخر إذا خاف على نفسه التلف ولا يعترض به على حال السلامة.
فكذلك تقاضي الدين المباح، فإذا كان فيه على المدين مشقة أو كلفة، أو تعلق بتركه قربة أيما قربة كان تركه مندوباً ولم يلحق بالمباح في تلك الحال، ولأنه رحمه الله تعالى ذكر إجماع العلماء على إثباته قسماً خامساً، وهم لا يجمعون على أمرٍ يكون الواجب خلافه.
__________
(1) ـ رواه الإمام زيد بن علي -عليهما السلام- في المجموع في باب القرض (ص200)، ورواه أيضاً الإمام أبو طالب -عَلَيْه السَّلام- في الأمالي (ص247).
وكان رحمه الله تعالى يفرق بين المكروه والمباح بأن المكروه يترجح تركه على فعله على الإطلاق من دون أن تنضاف إليه قرينة، والمباح لا يترجح إلا متى اقترن بالترك قرينة، فإن ترك المباح لا يكون أولى من فعله إلا إذا اقترنت به قرينة، وهي أن يكون على وجه التقرب إلى الله سبحانه بالزهد في الدنيا أو غير ذلك.
والكلام عندنا في ذلك على نحو ما قدمنا من أن القرينة لا يمتنع أن يصير لها المباح مكروها والمحظور مباحاً أو واجباً فيخرج عن قبيله ويلحق بالقبيل الآخر وحده مستقيم لا يقدح ذلك فيه؛ لأن ما خرج لأمر طارئ لا يؤثر فيه وكذلك ما ذكر من ترك المباحات للزهد في الدنيا لا يمتنع عند حصول هذه القرينة لكون ذلك الفعل مكروهاً، ولهذا نكره لكثير من الصالحين أفعالاً كثيرة مباحة لما علمنا غرضهم في ذلك، بخلاف غيرهم ممن لم نعلم عنه ذلك فإن ذلك الفعل لا يكره له ولا يترجح تركه على فعله، ولا فعله على تركه لتعريه عن الغرض ولو أنهينا الكلام في هذا الفصل إلى غايته لطال الباب، وخرجنا إلى الإسهاب، ونقضنا شرطنا في أول الكتاب، وفيما ذكرنا بحمد الله كفاية.
فإذاً حدّ المباح عندنا: ما لا يترجّح تركه على فعله ولا فعله على تركه إذا كان صادراً من العالِم به.
وذكر رحمه الله تعالى حدّ الحظر فقال: هو المنع من الفعل بالنهي والزجر والوعيد، وهذا صحيح عندنا؛ لأن الحظر وإن كان يفيد من أصل اللغة المنع الحقيقي ومنه سميت الحظيرة حظيرة لمنعها للإبل من الندود والتفرق إلى غير ذلك من الأمثلة فإنه لما كان النهي والزجر والوعيد كالمانعة للمكلف من تعدي الحدود جاز أن يسمى حظراً، ولا يبعد كون ذلك حقيقة شرعية لكثرة الإستعمال، وإن كان في الأصل مجازاً؛ لأنه أفيد به ما استعير له، ولم يفد به ما وضع له في الأصل الذي هو ما ذكرنا.
وأما الإباحة فهي: تعريف الغير جنس الفعل، وأنه لا مدخل لفعله في استحقاق المدح ولا الذم ولا يترجح تركه على فعله على الإطلاق، وهذا الحد على ما ذكرنا عنه رحمه الله تعالى.
فإذاً تحديد الإباحة عندنا: تعريف المكلف جنس الفعل وأن فعله لا يترجح على تركه ولا تركه على فعله.
وقولنا المكلف يخرج النائم والساهي والصبي وما ليس بعاقل عنه؛ لأنه لا تكليف على من ذكرنا في تلك الحال فهذا هو القول في هذه المسألة على وجه الإيجاز والله الموفق للصواب.
مسألة:[الكلام في حكم الأشياء قبل ورود الشرع]
اختلف أهل العلم في الأشياء التي يصح الإنتفاع بها ولا ضرر على أحد في تناولها كالشرب من الأنهار الواسعة، والتناول من الثمار التي لا يتعلق بها لأحد ملك كأشجار القفار والجبال قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أم على الإباحة؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال:
منهم من قال: إنها على الحظر قبل ورود الشرع، وهم طائفة من أصحابنا البغدادية، وبعض الإمامية، ونفر من الشافعية.
ومنهم من قال: إنها على الإباحة قبل ورود الشرع، وهو مذهب أكثر الفقهاء وجل المتكلمين، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
ومنهم من قال: بالتوقف.
والذي يدلّ على صحة ما اخترناه: أن المعلوم ضرورة عند كل عاقل أنه إذا بلغ إلى دجلة مثلاً أو ما شاكلها من الأنهار وكان له داع إلى الشراب فإنه يستحسن الشرب بعقله ضرورة ولو توقف لانتظار الدليل والحال هذه لذمه العقلاء على ذلك، وهم لا يذمون على استقباح فعل إلا وقد تقرر عندهم حسنه ضرورة، وإنما اعتقدوا ذلك من حيث أنه ينتفع به ولا ضرر فيه عليه ولا على أحد عاجلاً ولا آجلاً.
فإن قيل: أما الضرر العاجل فقد علم انتفاءه، وأما الضرر الآجل فهو يجوزه بأن يكون الله سبحانه قد حظره.
قلنا: هذا باطل بأن الله سبحانه لو حظره لكان لا يحظره إلا لكونه مفسدة في الدين فلو كان كذلك لوجب أن ينصب على ذلك دلالة، ومعلوم أنه لا دليل على ذلك بل الدليل قام على خلافه، ولأن هذا التجويز لو كان مؤثراً لما علمنا حسن الشرب والحال ما ذكرنا ضرورة.
ودليل آخر وهو: أنا نعلم بأول عقولنا أنه يحسن التنفس في الهواء والإستمداد منه ولا ينكر ذلك أحد من العقلاء، ولا علة بجوازه إلا أنه انتفاع ليس على أحد منه مشقة عاجلاً ولا آجلاً.
فإن قيل: إنما يحسن لأنه يمسك به روحه، وهذه الحال يعلم بالعقول لأجلها جواز الإقدام على المحظور على بعض الوجوه.
قلنا: لو كان كما ذكرتم لما حسن منه الإستمداد إلا عند مخافة التلف، ولا حسن منه تناول إلا القدر الذي يمسك روحه، ومن بلغ إلى هذه الغاية فقد خرج من حد العقلاء، وعلم قبح ذلك ضرورة.
مسألة:[الكلام في النافي للحكم هل عليه دليل أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النافي للحكم هل عليه دليل أم لا؟
فذهب نفر منهم إلى أن النافي للحكم لا دليل عليه كما لا بينة على المنكر.
وحكى شيخنا رحمه الله عن قوم أنهم فصلوا القول في ذلك، فقالوا: إن نفى حكماً عقلياً فعليه البينة والدلالة، وإن نفى حكماً شرعياً فلا دليل عليه.
وذهب جماعة من العلماء إلى أن من نفى حكماً عقلياً كان أو شرعياً فعليه إقامة الدليل.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري والحاكم، وأنه اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه، وكان يذهب إليه ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن النافي للحكم لا يخلو إما أن يكون عالماً بانتفاء ما نفى أو ظاناً أو شاكاً.
فإن كان عالماً بانتفاء ما نفى فلا بد للعلم من طريق وهي دلالة.
وإن كان ظاناً فلابد للظن من أمارة، وإلا كان سوداوياً.
وإن كان شاكاً فالشك ليس بمذهب، وكان الواجب عليه نفي الشك بالنظر في الدلالة.
ولأن نفيه للحكم مذهب له، ولا يصح المذهب إلا بدليل، ولا يلزم عليه ما مثلوه من أن المنكر لحق الغير لا بيّنة عليه لوجوه:
أحدها: أنه لا تكليف علينا في الذي في يده هل هو له أم ليس له؟ فيجب علينا البحث عن الدليل ويجب عليه إيضاحه.
والثاني: أن مطالبته بالدليل لم تلزم لظهور دلالته التي توجب ملكه في الشرع وهي اليد.
ومنها: أنه لا يلزمنا اعتقاد صحة ملكه لها فنطالبه بإيجادنا دلالة يجوز لنا العمل عليها بخلاف النافي للحكم.
وما قالوه من أن النافي له والمدعي لا دليل عليه، وكذلك النافي لصلاة سادسة وصيام شهرٍ آخر سوى شهر رمضان لم ينف ذلك إلا بدليل وهو عدم المعجز.
ولو سألنا عن الإمتناع لاعتقاد ثبوته لاستدللنا بأنه لم يظهر على يديه المعجز فلو كان نبياً لظهر المعجز على يديه، وكذلك لو فرضت علينا صلاة سادسة وصيام شهر آخر لنصب لنا على ذلك دليلاً ومعلوم أنه لا دليل؛ إذ لو كان لعُلِمَ لأن الحكيم سبحانه وتعالى لا يجوز منه التكليف بما لا دليل عليه على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين.
مسألة:[الكلام في طريقة استصحاب الحال]
ذهب جماعة من أصحاب الظاهر إلى استعمال طريقة في الأحكام الشرعية يسمونها استصحاب الحال، ومعنى ذلك: أن المكلف متى لزمه الحكم الشرعي على حال مخصوصة وتغيرت تلك الحال في الثاني استصحبوا الحال الأولى في الحكم بعد تغيرها وأجروا عليه الحكم الأول، وقالوا: لا يزول هذا الحكم ولا يتغير إلا بدلالة مبتدأة، وطابقتهم على ذلك فرق من الشافعية.
والظاهر من مذهب أصحابنا إبطال هذه الطريقة وإحالة الإعتماد عليها، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يصحح هذه الطريقة على وجه دون وجه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
والصحيح عندنا: أن استصحاب الحال طريقة فاسدة غير صحيحة على كل وجه من الوجوه على ما نبينه.