وهذه الشروط في خطاب الله سبحانه هي شروط أيضاً في صحة الاستدلال بخطاب الرسول -صلى الله عليه وآله- ويلحق بها في خطابه عَلَيْه السَّلام شرط رابع، وهو: أن يعلم أنه لا يجوز عليه الكتمان لشيء مما أمر بتبليغه؛ لأن ذلك ينقض الغرض ببعثته؛ ولأنه سبحانه حكيم لا يجوز أن يبعث من يعلم من حاله هذا ولا غيره من القبائح، كما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين.

* * * * * * * * * *
[الكلام في الأوامر(1) والنواهي]
مسألة: [الكلام في حقيقة لفظ الأمر]
اختلف أهل العلم في لفظ الأمر هل هو حقيقة في القول دون الفعل، أو فيهما معاً، أو هو حقيقة مشتركة بين معانٍ كثيرة على ما نبينه؟
__________
(1) - جمع أمر على غير قياس لأن فعلاً لا يجمع على فواعل وإنما يجمع على فعول فالقياس في جمع أمر أمور، وفي جمع نهي نهوي ثم نهيّ -بياء مشددة- لكنهم خالفوا القياس في جمع أمر هنا لغرض صحيح وهو التمييز بين الأمر الذي بمعنى الشأن والأمر الذي هو عبارة عن صيغة الطلب فجمعوا الأول -أي الأمر الذي بمعنى الشأن- على أمور، وإنما خصوا صيغة الأمر بمخالفة القياس في جمعه لأنها أشبه باسم الفاعل، لأن لاصيغة باعثة على الفعل فكأنها آمرة بالفعل فاستعبر لها جمع آمره وهو أوامر، وكذلك النهي اسم فاعل ناهية جمع نواهي. تمت باختصار من مرقاة الوصول.

فذهب قوم إلى أنه حقيقة في القول، ومجاز في الفعل، وهو مذهب أكثر الحنفية، وقوم من الشافعية، وهو اختيار الحاكم أبي سعيد المحسن بن كرامة الجشمي البيهقي(1)
__________
(1) ـ الحاكم الجشمي أبو سعيد، المحسن بن محمد بن كرامة بن محمد بن أحمد بن الحسن بن كرامة ابن إبراهيم بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحنفية بن الإمام علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، هكذا ساق نسبه ابن فندق في تاريخ بيهق، ولد رحمة الله عليه في قرية جشم من ضواحي بيهق خراسان في شهر رمضان سنة (413هـ)، هو الإمام الحافظ المحدث المفسر الأصولي المتكلم القاريء النحوي اللغوي، إماماً عالماً صادعاً بالحق، شيخ العدلية له الكثير من المؤلفات العظيمة الغزيرة التي بلغ عددها أكثر من نيف وأربعين كتاباً، كان في الأصول معتزلياً من مدرسة القاضي عبد الجبار، وفي الفروع حنفياً، ثم رجع في الأصول والفروع إلى مذهب الزيدية الهادوية، وألف في فنون متعددة من فنون العلم ومن أشهر مؤلفاته كتاب التهذيب في التفسير تسعة مجلدات، وهو طراز لواء العدلية، وكتاب السفينة في التاريخ أربعة مجلدات، وكتاب تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين في الآيات النازلة في أهل البيت، وله رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس التي كانت السبب في قتله في الرد على المجبرة القدرية؛ وغير ذلك من المؤلفات العديدة، وقتل رحمه الله بمكة المكرمة شهيداً في 3رجب (494هـ)، قتل غيلة على أيدي المجبرة القدرية رحمه الله رحمة الأبرار.

-رحمه الله- وهو الذي نصره القاضي شمس الدين(1) -رضي الله عنه وأرضاه- في كتاب البيان.
وذهب قوم إلى أنه حقيقة في القول والفعل، وهو مذهب أكثر الشافعية.
وذهب الشيخ أبو الحسين البصري(2)
__________
(1) ـ القاضي شمس الدين هو: جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى البهلولي اليماني الأبناوي، الإمام الحجة البحر، كان من عيون أصحاب الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وفضلائهم، كان من متكلمي المطرفية، ثم انتقل إلى المخترعة فكان إمامهم في علم الكلام، وهو الذي وصل بكتب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من العراق في الأصول والفروع، والمنقول والمسموع، وعلوم القرآن والأخبار النبوية، وأنشأ مدرسة كلامية في سناع متميزة، وتصدى للرد على المطرفية والتحذير منهم باللسان والقلم ولقي منهم أذىً كثيراً وحاربوه محاربة شديدة، وله معهم مناظرات ومجادلات كثيرة، وله الكثير من المؤلفات التي تدل على تعمقه وبسطته في شتى فنون العلم، وكان إمام الزيدية وعالمها في عصره وألف في الأصول والفروع المؤلفات العديدة، وتوفي سنة (573هـ)، وقبره في هجرة سناع في مدينة حدة.
(2) ـ أبو الحسين البصري هو: محمد بن علي بن الطيب البصري من الطبقة الثانية عشرة من طبقات المعتزلة ومن أصحاب قاضي القضاة.
قال الإمام يحيى: هو الرجل فيهم، أخذ عن قاضي القضاة، ودرس ببغداد، وكان جدلاً حاذقاً، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته كما وصفه ابن خلكان.
وسكن بغداد وحدث بينه وبين المعتزلة نفرة لكثرة قرآته لكتب الفلاسفة، ولردوده على المشائخ في نقض أدلتهم، وله الكثير من المؤلفات النافعة؛ فمنها: كتاب المعتمد في أصول الفقه، وكتاب تصفح الأدلة في مجلدين، وشرح الأصول. توفي يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة (437هـ).

إلى أنه لفظ مشترك بين القول والغرض والشأن، وبين المعنى المؤثر في ثبوت حال الجسم، فيقال في القول المخصوص: إنه أمر، وفي الغرض إنه أمر، كقولهم: لأمرٍ ما جدع قصير أنفه، أي لغرض، وأمر فلان عظيم أي حاله وشأنه، ولا بد من أمر لأجله كان الجسم متحركاً، أي معنى يؤثر فيه، وليس بحقيقة في الفعل أي ليس يفيده من حيث هو فعل، بل من حيث هو شيء، وذات، وهو مذهب شيخنا أبي علي الحسن بن محمد الرصاص(1) -رحمه الله- وحكاه لنا عن القاضي شمس الدين.
__________
(1) ـ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد الرصاص الشيخ الكبير المتكلم شحاك الملحدين، كان آية من آيات زمانه، كثير العلم واسع الدراية، قليل النظير، بلغ في العلوم مبلغاً تحتار فيه الأفكار على صغر سنه، تتلمذ على يد القاضي جعفر بن أحمد، وهو شيخ الإمام المنصور بالله عليه السلام، قال فيه الإمام -عليه السلام - حسام الدين، رأس الموحدين، أبو علي الحسن، علامة اليمن، ألّف في الأدب وعمره أربع عشرة سنة، وفي الأصول وعمره خمس عشرة سنة، وله المؤلفات الكثيرة في الأصول والفروع وفي علم الكلام وغير ذلك من فنون العلم، ومن مؤلفاته التبيان، والفائق في الأصول، والكاشف وغيرها من المؤلفات، وتوفي يوم الاثنين من شهر شوال سنة (584هـ) وعمره (38 سنة)، وقبره بهجرة سناع جوار قبر القاضي جعفر رحمهما الله تعالى. قيل إنه كان يرد على نيف وسبعين فرقة.

وهذا يصح عند من يَعلم المعنى المؤثر في ثبوت حال الجسم، وأما من لا يعلم ذلك فهو لا يخطر بباله عند إطلاق اللفظ فضلاً عن سبوقه إليه حتى لا يجب الإشتراك(1).
مسألة:[الكلام في أن الأمر قول ظاهر فُهِمَ منه المراد]
ذهب العلماء على طبقاتهم أن الأمر الذي هو القول ظاهر فهم منه المراد، وخالف في ذلك بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى علم الكلام، وقالوا: لا بد في معرفة المراد منه إلى دليل، وهذا القول باطل لغةً وشرعاً.
أما اللغة: فما نعلمه من أن القائل لو قال لعبده العربي اللسان: ادخل الدار، أو أَخْرِجْ كذا وكذا من المال، ثم وقف العبد عن ذلك ينتظر الدليل الذي يفهم منه المراد لاستحق الذم من العقلاء، وهم لا يذمون على ترك امتثال ما لا يفهم معناه كما لو خاطب العربي بالزنجية ولم يبين لم يستحق عندهم الذم، ولأنه لا فرق بين قول القائل لعبده: ادخل الدار، وبين قوله دخل زيد الدار، في أن كل واحد منهما له ظاهر يفهم منه المراد، فقوله: ادخل يفيد إيجاب الدخول في المستقبل، كما أن قوله: دخل زيد الدار يفيد دخول زيد في الماضي، فمن أنكر أن يكون للأمر ظاهر يفهم منه المراد لزمه نفي أن يكون للمخبر ظاهر يفهم منه المراد، ومن بلغ هذا الحد من التجاهل علم بطلان قوله بما يجري مجرى الضرورة.
__________
(1) - قال القرشي في العقد ما لفظه: قال الإمام المنصور بالله -عليه السلام-: إنما يكون مشتركاً بين ما كان من هذا معقولاً لأهل اللغة فتخرج جهة التأثير والصفة؛ لأن أهل اللغة لا يعلمون المعنى الذي لأجله احترك الجسم ولا الصفة التي أوجبها هذا المعنى للجسم، ويمكن الجواب عن ذلك: بأنهم يعقلون ذلك على جهة الجملة فإن كل عاقل يعلم بكمال عقله أنه لا بد من أمر لأجله احترك الجسم بعد أن كان ساكناً، وأن التفرقة بين الحي والميت لا بد أن يرجع بها إلى أمر، وأما أن ذلك هل هو فاعل أو موجب أو ذات أو صفة؟ فلا، وإذا عقلوا ذلك على سبيل الجملة كان كافياً في أن يضعوا له لفظاً يدل عليه أو يشركوا بينه وبين غيره في لفظ. انتهى (ح-ش-غ) (2/120).

وأما الشرع: فما عليه المسلمون من لدن النبي -صلى الله عليه وآله- إلى يومنا هذا من الإحتجاج بظواهر أوامر الكتاب والسنة، وقال أبو بكر بحضرة الجماعة: (لا أفرق بين ما جمع الله بينه)، فرجع إلى الظاهر في قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13].
مسألة:[الكلام في حقيقة الأمر]
اختلف أهل العلم في حقيقة الأمر من جهة القول.
فمنهم من قال: هو قول القائل لمن دونه: افعل، وذلك هو اختيار(1) الحاكم أبي سعيد المحسن بن كرامة الجشمي البيهقي -رحمه الله تعالى-.
ومنهم من قال: هو قول القائل لمن دونه: افعل، مع إرادة الآمر للمأمور به، وهو اختيار للسيد المؤيد بالله(2) قدس الله روحه.
__________
(1) - وإليه ذهب قاضي القضاة وكثير من المتكلمين. المقنع الشافي (خ).
(2) ـ المؤيد بالله هو الإمام أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
ولد -عَلَيْه السَّلام- بآمل سنة (333هـ)، من أئمة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الجيل والديلم، لم يُرَ في عصره مثله علماً وفضلاً وزهداً وورعاً وسخاوة وشجاعة وحلماً، ولم يبق فن من فنون العلم إلا وقد ضرب فيه بأوفر نصيب، وبرز في علم النحو واللغة، وأحاط بعلوم القرآن والشعر وأنواع الفصاحة، وله معرفة بعلم الحديث معرفة كاملة رواية ودراية وجرحاً وتعديلاً؛ دعا إلى الله عز وجل سنة (380هـ) وبايعه العلماء والفضلاء منهم القاضي عبد الجبار والصاحب بن عباد وغيرهما، ولم يزل ناشراً للعلم، محيياً لرسوم الدين مجاهداً للظالمين، محارباً للمفسدين حتى توفي - عليه السلام - يوم عرفة سنة (411هـ)، ودفن يوم عيد الأضحى وكان عمره (77 سنة) ومشهده بلنجا.
وله المؤلفات الكثيرة العدد في الأصول والفروع، ومن مؤلفاته: كتاب إعجاز القرآن، وكتاب النبؤات والآداب، وله التجريد وشرحه أربعة مجلدات وهو من معتمدات أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الفقه وغير ذلك من المؤلفات الواسعة.

وذهب شيخنا أبو علي الحسن بن محمد الرصاص رحمه الله تعالى إلى أن الأمر هو قول القائل لغيره: افعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، وغرضه أن يفعل المقولُ له الفعلَ.
واعترض قول الحاكم بالتهديد فإنه قول القائل لمن دونه: افعل وليس يأمره.
واعترض القولين قول الحاكم، والمؤيد قدس الله روحه بأن الإنسان قد يكون آمراً من فوقه إذا ورد اللفظ على جهة الإستعلاء دون الخضوع، وهذا هو الذي نختاره.
ومنهم من قال: هو قول القائل لغيره: افعل أو لتفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، ولم يشرط الإرادة؛ لأنها شرط في كونه أمراً، وما يكون شرطاً في الشيء لا يدخل في حدِّهِ وحقيقته، وحكى أنه اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه، وهذا أيضاً ينتقض بالتهديد كما قدمنا.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إلى تحديد الأمر به [أنه] يكشف عن معناه على جهة المطابقة، ويحصر فائدته، ولأنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحدِّ.
مسألة:[الكلام في الأمر لماذا يكون أمراً؟]
اختلف أهل العلم في الأمر لماذا يكون أمراً، فذهب أبو القاسم البلخي(1) إلى أنه أمرٌ لعينه(2).
__________
(1) ـ أبو القاسم البلخي هو: عبدالله بن أحمد بن محمد الكعبي البلخي الخراساني، من أئمة المعتزلة البغدادية، وهو الذي تنسب إليه الكعبية من المعتزلة، وأخذ عن أبي الحسين الخياط، وكان من أحفظ الناس لاختلاف المعتزلة في الكلام، له معرفة واسعة بالكلام والفقه والآداب، معروفاً بالسخاء والجود والهمة العالية، انصرف إلى خراسان، وكان من أصحاب الإمام محمد بن زيد الداعي -عَلَيْه السَّلام- وجرى بينهما مكاتبات، وله الكثير من المصنفات منها: عيون المسائل وكتاب المقالات وكتاب في التفسير وغيرها من الكتب، وكان مولده سنة (273هـ) وتوفي ببلخ في أيام المقتدر العباسي سنة (319هـ).
(2) ـ قال في المعتمد: والبغداديون من أصحابنا يقولون: إن الأمر أمر لعينه.
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى في منهاج الوصول: لكني أظن أن أبا القاسم يلحظ مذهب أبي الحسين وهو أن الأمر لا صفة له لكونه أمراً بل معنى كونه أمراً كونه صيغة مخصوصة لكن يلزمه أن يفصله عن التهديد باشتراط مقارنته للإرادة ولعله يشترط ذلك، والله أعلم.

وذهبت المعتزلة البصريون(1) إلى أنه يكون أمراً لكون الآمر مريداً لحدوث المأمور به، وذلك هو اختيار السيد أبي طالب(2)
__________
(1) ـ المعتزلة فريقان: المعتزلة البصريون والمعتزلة البغداديون؛ فالبصرية تتميز عن البغدادية بالتعمق في علم الكلام، وهم قسمان أيضاً: قسم يرى رأي العثمانية في التشيع، ومنهم قدماء البصريين كعمرو بن عبيد، وأبي إسحاق، وإبراهيم بن سيار النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وثمامة بن أشرس، وغيرهم.
وقسم يميلون إلى التشيع وإلى تفضيل أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- على جميع الصحابة ومنهم: أبو علي الجبائي، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، والشيخ أبو عبدالله البصري، وأبو محمد الحسن بن متَّويه صاحب التذكرة.
والبغداديون يميلون إلى التشيع ويقولون بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- كافة ومنهم: بشر بن المعتمر، وعيسى بن صبيح، وجعفر بن مبشر، وأبو جعفر الإسكافي، وأبو الحسين الخياط، وأبو القاسم البلخي. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 1/ 15، 16، 17.
(2) ـ الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، أخو الإمام المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام-، من أئمة أهل البيت في الجيل والديلم.
ولد بالمدينة سنة (340هـ)، وكان تلو أخيه في العلم والفضل والكمال والورع والزهد، بلغ في العلوم مبلغاً عظيماً حتى لم يبق فن من فنون العلم إلا طار في أرجائه وسبح في أثنائه، اشتغل بالعلم ونشره وتجديد رسوم الدين، وكانت بيعته -عَلَيْه السَّلام- بعد وفاة أخيه المؤيد بالله سنة (411هـ) واشتغل بعد الدعوة بصلاح الأمة، وإنفاذ أحكام الله، وجهاد الظالمين، ومنابذة الفاسقين، وعبادة الله حتى أتاه اليقين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتخلف عن بيعته أحد من علماء وفضلاء الديلم لمعرفتهم بكماله.
وله -عَلَيْه السَّلام- التآليف العجيبة والتصانيف الفائقة في جميع فنون العلم فله المجزي مجلدان في أصول الفقه وكتاب جامع الأدلة، وكتاب الدعامة في الإمامة، وكتاب التحرير وشرحه اثنى عشر مجلداً في الفقه، وشرح البالغ المدرك وكتاب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة. وتوفي -عَلَيْه السَّلام- بطبرستان سنة (424هـ) وعمره نيف وثمانون سنة.

قدس الله روحه، وحكاه شيخنا عن شمس الدين - رضي الله عنهما -.
وذهبت الأشعرية(1) إلى أنه كان أمراً؛ لأن الآمر أراد أن يكون أمراً وإن لم يرد المأمور به(2).
وحكى شيخنا عن الشيخ أبي الحسين البصري(3) أنه لا حكم للأمر بكونه أمراً فيحتاج إلى التعليل بما ذكره، بل المعقول من كونه أمراً أن الآمر أورد صيغة إفعل وغرضه أن يفعل المقولُ له الفعلَ، فكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ذلك، ويقول: لا حكم للأمر لكونه أمراً فيعلل، بل يكفي في ذلك ورود صيغة إفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، مع كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به، وهو الذي نختاره.
والدليل على ذلك: أن كل ما يرجع إلى الصيغة من كونها خطاباً، أو إلى محلها من كونه جسماً، أو إلى الآمر من كونه مُخاطِباً، أو إلى المأمور من كونه مُخاطَباً، ينتقض بالتهديد ولا يعقل من الأمر إلا ما ذكرنا فبطل ما رجعوا إليه من التعليل له بكونه أمراً وصحّ ما قلناه.
__________
(1) ـ الأشعرية: أصحاب أبي الحسن عمر بن أبي بشر الأشعري، هذه رواية أصحابنا، وفي النحل والملل أن اسمه علي بن إسماعيل، قلت: وهذا هو الأقرب لتكنيته بأبي الحسن، من تلامذة أبي علي، ثم ترك مذهبه وقال بالجبر، ولم ينتسب إلى أحد، وأثبت أقوالاً لا تُعقل، منها: إثبات قدماء مع الله وأنه تعالى مسموع مُدرك بسائر الحواس، وأنه تعالى يرضى الكفر ويحبه، وجوّز تكليف مالا يُطاق، ولو عذّب الله الأنبياء وأثاب الكفار لحسن، وأنه لا نعمة لله تعالى على الكفار، وأن شيئاً من القبائح لا تُعلم إلا بالسمع، وأحيى كثيراً من مذاهب جهم، انظر: المنية والأمل - جلاء الأبصار.
(2) - قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في المنهاج: وهذا منهم -أي من الأشعرية- بناء علىقاعدتهم من أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالشيء ولا يريده إذ لو أراده وقع لا محالة.
(3) ـ انظر المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/49).

مسألة:[الكلام في الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر هل يقتضي الإيجاب بظاهره، أو يقتضي كون المأمور به مراداً من جهة اللغة، أو مندوباً إليه إذا كان الأمر شرعاً؟
فذهب أكثر الفقهاء(1) إلى أنه يقتضي الوجوب بظاهره، وهو الذي حكاه السيد أبو طالب قدس الله روحه عن الشيخ أبي عبدالله(2)، وهو الذي كان يذهب إليه أبو الحسن الكرخي(3)
__________
(1) - أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأحد قولي أبي علي الأول منهما ثم رجع عنه إلى أنه يقتضي الندب كما يأتي عنه. المقنع الشافي (خ).
(2) ـ أبو عبدالله البصري هو: الحسين بن علي بن إبراهيم البصري، شيخ المعتزلة وإليه انتهت رئاسة أصحابه من الطبقة العاشرة، عرف بالشيخ المرشد.
ولد سنة (308هـ)، أخذ عن أبي علي بن خلاد أولاً ثم أخذ عن أبي هاشم حتى بلغ ما لم يبلغ أحد من أصحاب أبي هاشم، وكان فاضلاً متكلماً فقيهاً شديد التقزز في الطهارة زاهداً، وكان يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- ويميل إليه ميلاً عظيماً حتى ألف كتاب التفضيل، وأخذ عنه الإمام أبو عبدالله الداعي والسيد الإمام أبو طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وتوفي سنة (367هـ).
(3) ـ أبو الحسن الكرخي: عبيدالله بن الحسن بن دلال شيخ الحنفية بالعراق قال في طبقات الحنفية: رئيس الحنفية ببغداد كان صواماً قواماً صبوراً على الفقر، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: ومنهم يعني في العدل والتوحيد الشيخ أبوالحسن عبيدالله بن بدر الكرخي وكان في العلم والزهد بمنزلة عظيمة، وكان لا يدخل بيتاً فيه مصحف إلا على طهارة تعظيماً له، وقال: وتوفي الكرخي سنة أربعين وثلاثمائة وحضر جنازته الأشراف وكثير من ذرية رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيهم الإمام أبو عبدالله الداعي. انظر الطبقات (خ)، والشافي (1/150)، الجداول (خ).

4 / 41
ع
En
A+
A-