مسألة:[الكلام في جواز تقليد العامي للمفتي في الفروع]
يجوز للعامي أن يأخذ بقول المفتي ويقلده في مسائل فروع الشرع عند جميع الفقهاء وجل المتكلمين.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي علي أنه فصل القول في ذلك؛ فقال: يجوز تقليده في المسائل الإجتهادية دون المسائل التي الحق فيها واحد؛ لأنه لا يأمن خطأ العالم فيها فيكون قد عمل على الخطأ فذلك لا يجوز.
وذهب جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومن طابقهما من متكلمي البغدادية إلى أنه لا يجوز للعامي تقليد العالم في ذلك، ولا الرجوع إليه إلا ليدله على طريقة الإجتهاد ليعمل باجتهاد نفسه، وقد تقدم الكلام على بطلان هذه المقالة بما فيه كفاية.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد القول الأول، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: إجماع الأمة على وجوب رجوع العامي إلى العالم في الفتوى من غير تفصيل منهم بينما الحق فيه واحد، وبين غيره من المسائل، فلا يجوز لمن بعدهم الفصل بغير دلالة.
وما ذكره أبو علي من تجويز خطأ العالم فيما الحق فيه واحد لا يكون مانعاً من جواز تقليده؛ لأنه لا يقلد إلا من وثق بعلمه وورعه وجودة تمييزه بحيث يصلح للفتوى فيعلم والحال هذه أنه لا يكون أثقب نظراً من العالم وأهدى إلى طريقة الصواب؛ فيكون ظنه لتقليده أغلب فيجب عليه الرجوع إلى التقليد؛ لأنه يكون عنده أولى وظنه لصحة قول العالم أقوى، اللهم إلا أن يقدر أنه ظفر بطريق توصله إلى العلم فيما الحق فيه واحد فإنه يجب عليه العمل على مقتضاها ولا يجوز له التقليد.
فصل: في ذكر الوجوه التي معها يجوز للمستفتي الرجوع إلى المفتي وقبول فتواه:
اعلم أن شروط الإستفتاء ترجع إلى أصل واحد وهو أن يغلب على ظن المستفتي أن من يستفتيه من أهل الإجتهاد والعلم، ويحصل له هذا الظن بوجوه:
أحدها: أن يراه منتصباً للفتوى بمشهد من أعيان الناس، وأخذ الناس عنه، أو يعلم علمه أو يظنه.
وأن يراه من أهل الدين بأن يرى سماة الخير عليه ظاهرة ويرى الجماعة مطبقة على سؤاله والأخذ عنه والفزع إليه.
أو يعلم علمه أو يظنه وهو من أهل الدين، ولكن صرف الجماعة عن سؤاله بعض الصوارف من خوف السلطان وغيره؛ فإنه إذا أمكنه سؤاله جاز له العمل بفتواه، وإن لم يكن منتصباً للفتوى ولا مسؤولاً في تلك الحال.
ولا شبهة في أنه لا يجوز للعامي أن يستفي من غير العالم الذي ليس بمتدين بل لا يكفي في جواز الإستفتاء كونه عالماً إذا لم يكن متديناً ورعاً؛ لأنه لا يأمن إذا لم يكن على تلك الحال تساهله في النظر ولا يؤدي الإجتهاد حقه فيفتيه بالخطأ أو يغشه فيفتيه بما لا يجوز له العمل عليه لقلة دينه وورعه.
فمتى لم يظن فيه العلم والدين باطناً ويعلمهما منه ظاهراً لم يجز له الرجوع إلى فتواه والأخذ بقوله.
وذهب قوم إلى أنه لا يجب عليه ذلك بل له أن يقبل قول المفتي من غير نظر في حاله، وما ذكرناه هو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العامي متمكن فيما ذكرناه من التثبت في الأمر، والإحتياط للدين والوصول إلى غالب الظن في علم المفتي ودينه بما قدمنا ذكره من الأمارات، فلم يجز أن يعدل عما يمكنه العمل عليه باستعمال طريقة شرعية؛ لأن العمل على الظن في الشرعيات واجب على من أمكنه.
ومثاله: ما نعلمه أن العالم المتمكن من الإجتهاد في الأمارات التي توصله إلى غالب الظن لا يجوز له العدول عنها والحكم بغير اجتهاد ولا نظر لأنهما قد استويا في أن كل واحد منهما متمكن من تحصيل غالب الظن لصحة ما يعتمده.
مسألة:[الكلام في ترجيح المستفتي بين من يأخذ بقوله عند الإختلاف]
ومتى اتفق أهل العلم والإجتهاد في الفتوى وجب على المستفتي قبولها بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ فإن اختلفوا وجب عليه عندنا الإجتهاد في أعلمهم وأدينهم وطلب الأمارات على ذلك؛ لأن ذلك يمكنه، وهو مقوٍ لظنه، وقد تقرر وجوب طلب الظن الأقوى لمن لم يمكنه العلم، وأنه لا يجوز العدول عنده إلى الظن الأضعف مع التمكن من الظن الأقوى كما قلنا في المجتهد في المسائل إنه يجب عليه البحث والإجتهاد حتى يحصل له العلم أو غالب الظن فيما لا يتمكن فيه من الوصول إلى العلم.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قوم أنهم أسقطوا عنه الإجتهاد في ذلك، ونصره الشيخ أبو الحسين البصري، واحتج له: بأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامي ترك الإجتهاد في أمر العلماء بل يسوغون له العمل على فتوى من أفتاه بغير إنكار منهم عليه، فكان ذلك إجماعاً.
وأجاب عن ذلك رحمه الله تعالى: بأنا لا نعلم إجماعهم على ذلك حتى نعلم أنهم علموا أن العامي استفتى من العالم بغير نظر في أمره ولا ترجيح له على غيره في ظنه، وهذا لا سبيل إليه، وإذا لم يعلم العلماء ذلك من حاله لم ينكروا عليه؛ لأن أمور المسلمين محمولة على السلامة إلا فيما ظهر خلافها، فإذا رأوه يستفتي جوزوا أنه ما استفتى إلا ممن غلب على ظنه أنه أولى من غيره بأن يرجع إليه ويؤخذ منه، بل ذلك هو الواجب عليهم؛ لأن تحسين الظن بالمسلمين واجب ما أمكن، وقد أمكن فلا يصح دعوى الإجماع على خلاف ما ذكرنا.
مسألة:[الكلام في اختلاف المفتين في الورع والعلم وتفصيل ذلك]
فإن استويا عنده في العلم وكان أحدهما أشد ورعاً من الآخر، كان أشدهما ورعاً أولى بالإستفتاء لأن شدة ورعه تحمله على التثبت في أمر الإجتهاد، وتدقيق النظر في المسائل وقلة التساهل عن أمر الحادثة فيكون الظن بما يفتي به أقوى، والعمل على الظن الأقوى هو الواجب.
وكذلك القول إذا استويا عنده في الدين والورع، وكان أحدهما أعلم؛ فإنه يجب عليه الأخذ بفتوى الأعلم.
وقال قوم: يجوز له الأخذ بفتوى الأنقص علماً، وإن كان الأخذ بفتوى الأعلم أولى، وهذا عندنا غير صحيح؛ لأن ظنه بصحة فتوى الأعلم أغلب من حيث هو أهدى إلى طريق الإجتهاد، وأعرف بأصول الأدلة، وأثقب نظراً فيحصل غالب الظن بصحة فتواه دون الآخر، إذ لا يجوز العدول عن العمل على الظن الأقوى مع إمكان حصوله والعمل على الظن الأضعف مع إمكان الإنفصال عنه.
فإن كان أحدهما أعلم، والثاني أشد ورعاً؛ فقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى أنه يحتمل أن يقال: إنهما سواء، ثم قال بعد ذلك: والأولى أن يأخذ بقول الأعلم لزيادته فيما يعين على الإجتهاد والوقوف على الصواب إلا أن يعلم من العالم التساهل في أمر الفتوى، فيعمل حينئذ على قول الأورع، ومثل هذا النظر لا يخفى على العوام؛ لأنه كتدبير الدنيا، ومعرفة أهل السياسة فيها من غيرهم فلم يسقط ذلك عنهم.
مسألة:[الكلام في حال المستفتي إذا استوت عنده أحوال المفتين]
فأما إن إستوت أحوال المفتين عند العامي في العلم والدين والورع على بُعْدِ ذلك؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف أهل العلم في أنه هل يكون مخيراً في أقاويلهم أم لا؟
فعند جماعة من العلماء أنه يكون مخيراً في أقاويلهم، وذلك هو قول الحاكم.
وذكر أبو القاسم البلخي في عيون المسائل أربعة أقوال، ولم يبين أيها يختار، فكأنه توقف.
أحدها: أن يأخذ بالأول.
والآخر: أن يأخذ بالأخف إلا في حق العباد.
والثالث: أنه تخيير.
والرابع: أنه يأخذ بأيها شاء في حقوق الله تعالى، وفي حقوق العباد يرجع إلى القاضي.
وذكر قاضي القضاة: أن المفتين متى تساووا لم يكن له الأخذ بالأخف من الأقوال طلباً للتخفيف.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن للعامي أن يختار أي العلماء شاء فيجعله مفزعاً له في الفتوى ويأخذ برخصه وتشديده، فإذا اعتمد واحداً في الفتوى لم يعدل إلى غيره إلا أن يكون قوله أحوط فإنه يجوز له العمل بفتوى غيره فيما قوله فيه أحوط.
وهذا الذي نختاره، إلا في رجوعه إلى الأحوط إذا كان قولاً لغير إمامه، فإنا لا نجيز له الرجوع إليه على الإطلاق إلا أن يتفق قول إمامه وقول العالم الآخر في كون الفتوى عن قبيل واحد، كأن يكونا جميعاً من قبيل الحسن، ويقول أحدهما فعله أولى مثلاً، ويقول الآخر هو مباح، فإن فتوى النادب أولى.
فإن قال أحدهما: بأن الفعل مندوب، وقال الآخر: هو واجب، عمل بقول إمامه، وإن كان قوله الندب وكان قول العالم الآخر الوجوب فلا يلزمه الرجوع إليه، ولا يكون في حقه أحوط لأنه إذا اعتقد وجوبه اعتقد قبح تركه، فيكون مُقْدِمَاً على ما لا يأمن من كونه قبيحاً، والإقدام على مثل ذلك قبيح، وهو مع تركه راجع إلى أصل يؤمنه من الخطأ وهو العمل على قول من وجب عليه اتباعه.
وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن للعالم الرجوع إلى قول غيره إذا كان أحوط فكذلك المستفتي غير مستمر على أصولنا؛ لأن قوله عنده أرجح، وظنه به أقوى، وإن كان قول غيره أحوط فلا يجوز له الرجوع إليه لحيطته؛ لأنه متعبد باجتهاده لا باتباع الأحوط، وهذا ظاهر في مذاهب أصحابنا، وهذه المسألة يطول الكلام فيها جداً لو بلغنا به إلى غايته إلا أن فيما ذكرنا إشارة كافية بحمد الله تعالى.
ثم نعود إلى الدلالة على صحة ما اخترناه، فنقول: الدليل على ذلك: أنه قد تقرر وجوب اتباع العالم في الفتوى على سبيل الجملة، فإن استوت عنده أحوال العلماء وبَعُدَ عليه اتباعهم في سبيل الجمع لتنافي أقوالهم، ولا بد من اعتقاد وجوبها إن قيل برجوعه إلى جميعهم، واعتقاد وجوب الأمور المتنافية مستحيل على ما ذلك مقرر في غير موضع من كتب العلم؛ لأنه يستحيل اعتقاده لوجوب الفعل الواحد في الوقت الواحد على الوجه الواحد، وإباحته أو ندبه في الحال الواحد، وما هذا حاله لا يجوز ورود التعبد به، فلم يبق إلا وجوب اتباعه لهم على وجه التخيير لاستوائهم عنده في باب العدالة والعلم.
ويكون حالهم معهم كحال أحدنا مع البقاع الطاهرة فإنه لما وجب عليه الصلاة في بقعة طاهرة واستوت عنده البقاع في الطهارة وتعذر عليه استعمالها على وجه الجمع كان الواجب عليه الصلاة في بعضها دون مجموعها.
كذلك إذا وجب على العامي الرجوع إلى العالم بحال يخصه واستوى عنده العلماء وتعذر عليه الرجوع إلى جميعهم وجب عليه الرجوع إلى أحدهم على وجه التخيير.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى قد اعترض على نفسه بأن قال: إذا استوى حالهم عنده كان شاكاً والعمل على الشك لا يجوز، فلم لا يقولون باطراح فتاويهم ولا يرجع إلى واحد منهم كما قلتم في العالم إذا استوت عنده الأمارات؟
وأجاب عن ذلك: بأن بين الموضعين فرقاً؛ فإن العامي إذا استوت عنده أحوال المفتين فليس شاكاً في الأقاويل في حكم الحادثة؛ لأنه لم يبلغ درجة الإجتهاد فتعتدل عنده الأمارات، ولا قلنا بتخييره بين الأقاويل فيكون شاكاً في الأقاويل، وإنما هو شاك في تفاضل المفتين أو عالم أو ظان لفقد تفاضلهم مع علمه أو ظنه لاشتراكهم في العلم والدين.
فإذا علم اشتراكهم وتساويهم في الوجه الذي يجوز لأجله استفتاؤهم فقد علم تساويهم في جواز الإستفتاء من أيهم شاء، بخلاف العالم إذا اعتدلت عنده الأمارات، فإنه لم يعلم اشتراك الأمارتين في الوجه الذي يجوز لأجله العمل بأيهما شاء؛ لأنه إنما يجوز له العمل على الأمارة متى غلب على ظنه أنها أقوى مما يعارضها من الأمارات فمتى لم يقو عنده بعض الأمارات على بعض لم يحصل له في واحدة منها شرط جواز العمل عليها، فوجب إطراح الجميع، بخلاف حال العامي فإن ظنه يغلب على تصويب الرجوع إلى كل واحد منهم على سبيل البدل في اجتهاده، وأن قوله حق فيجوز الرجوع إليه فيكون التخيير والحال هذه تخييراً بين واجبين.
وإنما قلنا بأنه إذا اختار أحدهم للفتوى لم يجز له الرجوع إلى غيره؛ لأن رجوعه إلى غيره يمنعه من العمل ويخرجه من اليقين إلى الشك الذي لا يجوز المضي عليه؛ لأن أحدهما إذا أفتاه بحظر أمر وأفتاه الآخر بإباحته أو بوجوبه، وأفتاه الآخر بندبه، وكل واحد منهما مساوٍ للآخر في باب الظن لصحة قوله استوى عنده الأمارتان في النفي والإثبات ولم يحصل إلا شك مطلق، ولا يجوز العمل على الشك، فما أدى إلى خروجه من اليقين إلى الشك قضي بفساده.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يفرق بين كون قول العالم الثاني أحوط وبين كونه مساوياً في باب الحيطة، بأنه يجوز له الأخذ بقول غير إمامه إذا كان أحوط بالإمامة، وهذا عندنا لا يستقيم لما قدمنا أولاً، ولأن هذا يوجب كون قول العلماء في القول الآخر الأحوط قولاً واحداً، ومعلوم خلافه فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في فتوى فاسق التأويل]
اختلف أهل العلم في الفاسق من جهة التأويل كالخارجي وغيره، هل تقبل فتواه أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي القاسم البلخي أنه قال: تقبل فتواه وجرى فيه على أصله في تجويز قبول خبره.
وحكى عن الشيخين أبي علي وأبي هاشم أن فتواه لا تقبل وذلك مستمر أيضاً على أصلهما في المنع من جواز قبول خبره بطريقة الأولى.
وذهب قاضي القضاة كما قدمنا في باب الأخبار إلى قبول خبره ولم يجز قبول فتواه، ولم يبين وجه الفرق بين الخبر والفتوى.
وكان شيخنا رحمه الله يذكر في الفرق وجهاً حسناً، وهو: أن خبره مستند إلى غيره وسلامة ظاهره تقضى بأنه لا يقدم على الكذب لتقرر قبحه عند الجميع فيقبل خبره لذلك، وليس كذلك فتواه لأنها اعتقاده ومذهبه، وفسقه يمنع من اتباعه في مذهبه واقتفاء أثره، كظهور صلاته وعظم جهالته في المذهب وانكشاف أمره لأنه إذا أخطأ فيما نصب الله سبحانه عليه الأدلة الموصلة إلى العلم وهو الإعتقاد فبأن يخطي فيما ليس عليه إلا أمارات وعلل غامضة أولى وأحرى.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أن فتواه لا تقبل، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن الفاسق من جهة التأويل كالفاسق من جهة التصريح؛ لأن كل واحد منهما خارج من ولاية الله إلى عداوته، فإذا لم يجز قبول فتوى الفاسق من جهة التصريح فكذلك لا يجوز قبول فتوى الفاسق من جهة التأويل؛ لأنه جارٍ مجراه، وكذلك إذا علمنا غلطه في باب الإعتقاد مع أن الأدلة عليه أظهر وأشهر، وكونها موصلة إلى العلم فبأن يغلط في باب الإجتهاديات أولى لغموض أدلتها وضعف مذاهبها، ولأن أكثر مسائل الإجتهاد والقياس مأخوذة الأصول عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بنقل الصالحين، وقد أفسدوا على نفوسهم النقل بتبرئهم من السلف الصالح فلا يوثق بقولهم بذلك.
ولأنه لا يؤمن اجتهادهم في المسائل المنصوص عليها لردهم للنص الذي رواه أيضاً نجوز بل لنفورهم عنهم وقلة مخالطتهم لهم ولا يتميز للعامي ما يجوز لهم فيه الإجتهاد من غيره فلا يجوز الرجوع إليهم في الفتوى والحال هذه.
مسألة:[الكلام في عدم جواز التقليد في أصول الدين]
فأما أصول الدين فلا يجوز التقليد فيها، وهذا مذهب الفقهاء وجل المتكلمين بل كلهم، وإنما خالف في ذلك جماعة من أصحاب الشافعي، حكى ذلك شيخنا رحمه الله تعالى عنهم مع أنهم منعوا من التقليد في أصول الشريعة كالصلاة والصيام.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: أن التقليد هو قبول قول الغير من دون مطالبة ببرهان ولا حجة، والمقلد -والحال هذه- لا يأمن خطأ من قلده خطأً يوجب الخلود في النار، ولا شك أن الله تعالى قد نصب على الأصول التي تعبدنا بالمصير فيها إلى العلم أدلة توصل كل ناظر إلى العلم إذا كان عاقلاً سليم الأحوال على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين فلا يجوز التقليد والحال هذه لوجوه:
أحدها: أن المقلد لا يأمن وقوعه في الضرر من أجل التقليد بأن يكون من قلده مخطئاً خطأ يستوجب به الخلود في النار، ودفع الضرر عن النفس واجب إذا أمكن وهو ممكن؛ لأنه إذا نظر على الوجه الصحيح حصل له ثلج الصدر، وطمأنينة النفس، وصار هذا بمثابة ما يعلم من حال أحدنا إذا سلك طريقاً مخوفاً لا يأمن كون العدو الغالب فيها أو السبع العادي، وأخبر الغير بسلامتها وبإزاء ذلك أيضاً من يخبره بكون الخوف فيها وظاهر الجميع الستر، ولم يصل إلى العلم بخبر واحد منهما وكان متمكناً من استقرائها بالمشاهدة والمصير في أمرها إلى العلم؛ فإنه لا يجوز له عند جميع العقلاء -بل المقاربين لهم في الجنس كالمراهقين ومن جرى مجراهم- الإقتصار على التقليد دون المشاهدة الموصلة إلى العلم.
ومنها: أنه لا يأمن الإقدام على القبيح وكل ما لا يأمن الإنسان الإقدام فيه على القبيح فإنه لا يجوز له الإقدام عليه، كما نعلمه من حال أحدنا أنه يقبح منه القطع على مخبر خبر لا يأمن كونه كذباً وليس ذلك إلا لأنه إقدام على ما لا يأمن كونه قبيحاً.
ومنها: أنه لو جاز تقليد واحد لجاز تقليد الجميع وفي ذلك اعتقاد المتناقضات وذلك محال فما أدى إليه قضي بفساده، ولأنه كان يسوغ لليهود والنصارى تقليد أسلافها لأن الحال واحدة إذ ليس التقليد أكثر من قبول قول من يأنس به من غير اعتماد على برهان وفي ذلك تصويبها، وذلك ما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا عليه برهان مبين، وكفى بالمذهب فساداً أن لا تشهد بصدقه دلالة بل قد قامت الدلالة على بطلانه.
ولأن الله تعالى قد ذم المقلدين وعنفهم بالتقليد في كتابه المبين فقال وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
فلو كان التقليد صواباً لما ذمهم عليه سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يذم إلا على فعل القبيح دون الحسن لعدله وحكمته وكون الذم على فعل الحسن قبيحاً معلوم لكل عاقل وهو تعالى لا يفعل القبيح.
وتقرير هذه الجملة موضوع في أصول الدين لأنها أليق به فلا وجه لتطويل الكلام بها هاهنا، وقد ذكر فيه أهل العلم من الأئمة صلوات الله عليهم والعلماء من أهل العدل والتوحيد رحمهم الله تعالى ما فيه كفاية لمن نظر بعين البصيرة، فلا وجه لتطويل الكلام به هاهنا.
فأما فروع الشريعة التي يكون الحق فيها واحداً: فإنما جوزنا التقليد فيها لدلالة شرعية، وهي إجماع الصحابة على ذلك، وهم لا يجمعون على الخطأ كما تقدم في باب الإجماع، ولولا ذلك لما جوزنا التقليد أصلاً فيها، ولا في غيرها؛ لأنه لا يجوز كما قدمنا.