ويمكن أن يتكلم في هذا بأن يقال: إن هذا التمثيل خارج عما نحن فيه؛ لأنه فرض في أمرٍ فيه مطلوب معين، ونحن لا نسلم أن نافي الإجتهاد مشارك لهذا في هذا الوجه فيقيسونه عليه، ولا نجد إلى تصحيح ذلك سبيلاً.
وبعد فلو كان ما ذكره مستقيماً لما كان المعقول من الأشبه إلا ما تعبد به، وهو العمل على ما يغلب على ظنه أنه الحق، ولا معنى لذكر الأشبه في تلك الحال على غير هذا الوجه؛ لأنه إن أريد به غير ما كلف بإصابته فنحن لم نبن الكلام إلا على ما كلف بإصابته، وإن أريد به ما لم يكلف بإصابته فهو مما نحن فيه بمعزل، ومثلوه بأمثلة كثيرة إلا أنها لا تجري هذا المجرى.
وجملة الأمر: أنا نعلم أن الأشبه غير معقول حتى يتكلم في نفيه وإثباته، فينبغي أن يطالبوا بإثباته معقولاً حتى ينظر في أمره، ولا سبيل إلى إثباته معقولاً؛ لأن الوجه الذي يفيدها معنى قولنا إن الفرع بأصل من الأصول أشبه منه بغيره إن لم يرجع به إلى غالب الظن عند المجتهد، أن رد الفرع إلى بعض الأصول وإجراء حكمه عليه أولى من رده إلى سائر الأصول لم يكن له معنى يعقل، بدلالة أنه لو كان يعتبر في كونه أشبه بالأصل اعتبار التشابه بالصورة كما يقال: زيد أشبه الناس بعمرو، وكذلك لا يجوز اعتبار سائر الصفات التي لا تؤثر في الحكم عند المجتهد، كون الأصل موجوداً، أو مطعوماً، أو أبيض، أو أسود إلى غير ذلك من الصفات التي لا يعقل فيها التأثير، فإذا الأشبه ليس إلا ما ذكرنا.
وإن أريد بالأشبه الأمر الذي لو ورد النص من الله سبحانه وتعالى في الحادثة لورد به وهذا يمكن الجواب عنه: بأن النص إن ورد والتكليف بحاله فالمسألة بحالها وهو أن المجتهد إنما يتعبد بما يؤديه اجتهاده إليه، والأشبه ما يغلب على ظنه اجتماع الفرع والأصل فيه على الوجه المعتبر، وإن زالت المصلحة كان هذا يؤدي إلى أن في الحوادث المنصوص عليها أمراً هو الأشبه وهو الذي إذا ورد التكليف الناسخ ورد به.

مسألة:[الكلام في أن التعبد بأقاويل مختلفة جائز]
والتعبد عندنا بأقاويل مختلفة جائز، وحكي عن بعضهم المنع منه.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن التعبد إنما يرد للمصلحة ولا يمتنع اختلاف مصلحة العباد فيخالف تعبد أحدهم تعبد الآخر، وتقرير هذه المسألة قد تقدم في باب الناسخ والمنسوخ، وقد ورد التعبد بذلك منصوصاً وغير منصوص.
ومثاله: ما نعلمه في من تحرى جهة القبلة فإن الإنسان قد يستقبل ما يستدبره صاحبه وكل منهم قد أدى ما تعبد به، فلا يمتنع أن يتعبد الإنسان في الحكم بنقيض ما حكم به صاحبه إذ الطريقة في ذلك واحدة، وهو أن كل واحد من الأمرين استفراغ الوسع في طلب الأمارة المقتضية لغالب الظن، أن المجتهد قد أصاب ما كلف إصابته، وكذلك قد ورد التعبد بالقراءات المختلفة وكل حق وصواب.
فصل: في الإجتهاد
اعلم أنا قد قدّمنا الكلام في حدِّه وحقيقته وينبغي أن نتكلم في طريقته.
وطريقة الإجتهاد عند أهل التحصيل من العلماء غير مردودة إلى أصل معين، وأكثر ما يعتبر فيها الحال، والحال لا يصح استقرارها ولا حصرها فيجب على العالم استفراغ الوسع في التثبت في حال الإجتهاد؛ لأنه لا يرده إلى أصل فيتوصل بمعرفة علته إلى الحكم فالأمر فيه حينئذ أهم من القياس لأن القياس يرجع إلى أصل معين وعلة مقررة، وأعيان المسائل الإجتهادية لا تنحصر، وإنما نذكر منها طرفاً ليكون منبهاً على غيره.
فمن ذلك متعة المطلقة: فإن الله تعالى أوجب لها متعة على قدر يسار الزوج وإعساره، ولم يقدرها ولا لها أصل ترد إليه في القياس، وقد ذكر فيها أعلى كما ذكر عن الحسن بن علي(1)عَلَيْه السَّلام أنه متع بعشرة آلاف درهم، وذكر فيها أدنى كثوب واحد والثوب لا يوقف له على قدر.
__________
(1) ـ الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جده من الدنيا، الإمام قام أو قعد، مولده بالمدينة في شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة.
..إلى قوله - أيده الله تعالى-: ثم سقته امرأته جعدة بنت الأشعث سماً في لبن بأمر معاوية فمات بعد شهر في شهر -قلت: بيض لذلك في الطبقات، وقد قيل: إنه في شهر ربيع الأول- قلت: واختلف في تاريخ موته وعمره فقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين، وقيل اثنتين، وله سبع وأربعون -وصححه المؤلف- وقيل: تسع وقيل ست، وقيل خمس. هكذا في الكتب المعتبرة والاختلاف واقع في مثل هذا في الأغلب فيكتفى بالأقرب.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/30، 45).

وقد علم من الحسن عَلَيْه السَّلام أن ذلك لا على وجه الوجوب؛ فالواجب على العالم حينئذ الرجوع في معرفة قدر المتعة إلى تعرف حال الزوج والزوجة ويسلك في ذلك طريقة وسطاً وأقل ما في ذلك ما يكون متاعاً لمثلها في العرف من مثله لا يحتقر لقلته، ولا يضرب به المثل لكثرته، كما فعل الحسن بن علي عَلَيْه السَّلام.
والناس ثلاثة أجناس: مكثرين وأغنياء وفقراء.
ومن ذلك نفقة الزوجات: والأمر فيها أهون؛ لأنها أقرب إلى معرفة الحكم فيها من جهة عرف الناس في تلك الجهة، وعلى العالم فيها سلوك وسط؛ لأن الوسط أقرب إلى العدل بينهما من حيث هي تريد الأعلى وهو يريد الأدنى، فلا يرى الأعلى فيعد سرفاً ولا الأدنى فيعد تقصيراً.
ومن ذلك الفعل في الصلاة: فإنه إن كان كثيراً أفسدها بالإجماع، وإن كان قليلاً لم يفسدها بالإجماع، ثم يرجع في القلة والكثرة إلى الإجتهاد فلا يمكن أن يرجع في ذلك إلى أصل معين، وإن كان بعض أهل العلم قد قدر في ذلك أصلاً، وهو أن الكثير: كل فعل إذا فعله المصلي خرج عند من راءه من كونه مصلياً، وهذا لا يصح لأنه لو زاد فيها من جنسها لما خرج عند من راءه مصلياً، وتفسد صلاته بالإجماع.
فإذاً المرجع في قليل الفعل وكثيره إلى اجتهاد تقارن الحال جملته أن ما غلب على ظن المصلي كثرته كان كثيراً، وما لم تغلب على ظنه كثرته كان قليلاً، فلو قال: إن حال المجتهد فيه أصل في الإجتهاد لما كان عندي بعيداً، وعلى هذا الوجه يجري الكلام في أروش الجنايات، وقيم المستهلكات، وتولية الأمراء والقضاة، والحكم بالشهادات إلى غير ذلك من هذا القبيل، الذي يكثر لو شرحناه.

مسألة:[الكلام في الاستدلال بالأصول من طريق المعنى على الحكم]
واعلم أنه متى يقع القياس على الأصول فقد يقع الإستدلال بها من طريق المعنى كما يقع الإستدلال بها من طريق اللفظ، وذلك كالإستدلال على نجاسة الكلب بأمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بغسل الإناء من ولوغه، وذلك لأن الغسل في الشريعة إنما يجب بوجهين:
أحدهما: العبادة، والثاني: إزالة النجاسة، وقد علمنا أنه لا عبادة علينا في غسل الإناء لأنا لو استغنينا عن الإستنفاع به واستعماله لم يجب غسله بالإجماع، فنعلم أن غسله إنما وجب لنجاسة الكلب بهذا الإستدلال.
وكذلك القول في نجاسة المني أنا نستدل على نجاسته بوجهين:
أحدهما: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قرنه بالنجس الذي يجب غسله بالإجماع كالغائط والبول فلو لم يكن من جنسه لما قرنه كما لا يجوز أن يقول: إنما تغسل ثوبك من ماء الورد أو غيره من الطاهرات التي لا تأثير لها في وجوب الغسل، ومن البول.
وثانيها: أن ما يخرج من الجسد ضربان: طاهر مجمع على طهارته كالعرق وما شاكله، ونجس مجمع على نجاسته كالغائط والبول، وما ينقض الوضوء هو النجس دون الطاهر، والمني مما أجمع على أنه ينقض الوضوء فيجب أن يكون نجساً، والذي يجري هذا المجرى استدلال وليس بقياس، وهو كثير لو وسعناه، وإنا نميل إلى الإختصار الذي شرطناه.
* * * * * * * * *

الكلام في صفة المفتي والمستفتي
فصل: في صفة المفتي التي يجب أن يكون عليها ليجوز له العمل باجتهاد نفسه، وفتوى غيره، والحال التي يجب على غيره الرجوع إليه لكونه عليها.
اعلم أن المفتي يجب أن يكون من أهل الإجتهاد لأنه متى لم يكن مجتهداً لم يتمكن من الوصول إلى معرفة الأحكام من جهة الإجتهاد والإستدلال فلا يجوز له أن يفتي نفسه ولا غيره، ولا أن يحكم على غيره بما لا يعرفه.
فلا يكون من أهل الإجتهاد إلا إذا كان عارفاً بالأدلة السمعية وأمكنه الإستدلال بها ولن يمكنه الإستدلال بها على الوجه الصحيح حتى يكون عارفاً بالله سبحانه وتعالى وبصفاته التي يجب إثباتها له ونفي الصفات التي يجب نفيها منه.
ويكون عالماً بأفعاله وأحكام أفعاله، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وما يجوز أن يريده وما لا يجوز أن يريده، ولهذا يصح له العلم بحكمته سبحانه وعدله ليصح منه الإستدلال بقوله سبحانه على الأحكام.
ويكون عارفاً بنبوة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وعصمته حتى يصح منه الإستدلال بكلامه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأفعاله وما يتبعهما.
ويكون عارفاً بعصمة الأمة والعترة عَلَيْهم السَّلام حتى يصح منه الإستدلال بإجماعهم فيما أجمعوا عليه من قول وفعل وتقرير.
ويجب أن يكون عارفاً بطرف من الأخبار المروية عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم والفصل بين ما يوجب العلم منها وبين ما لا يوجبه.
ويكون عارفاً بشروط قبول الآحاد وما يجوز أن يعمل عليه منها وما لا يجوز عليه العمل.
ويكون عارفاً بحقيقة الخطاب ومجازه وأقسامه وأحكامه جملة وتفصيلاً، ويدخل تحت هذا الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ.
وبكيفية الإستدلال بالخطاب ليمكنه الإستدلال به على الأحكام، ويجب أن يكون عارفاً بالقياس وشروطه وما يصح منه وما يفسد؛ ليُمْكِنَه معرفة الأحكام من جهة القياس والإجتهاد، وعارفاً بكيفية الإجتهاد، والوجه الذي تلحق لأجله المسألة بباب الإجتهاد.

فمتى اختص بما ذكرنا جاز أن يجتهد في المسائل فيفتي نفسه وغيره ويحكم على غيره ويجوز أن يجتهد في الفرائض بعلمه لأصولها؛ لأن الظاهر من أحكام الفرائض أنها لا تستنبط من غيرها إلا في النادر وإن استنبطت من غيرها فهو أيضاً يرجع إلى الأصول، ولأن الذهاب عن النادر لا يقدح في الإجتهاد، كما أن المجتهد قد يخفى عليه من النصوص اليسير ولا يقدح ذلك في كونه من أهل الإجتهاد.
فصل: في كيفية فتوى المفتي
اعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بالحكاية عن غيره بل إنما يفتي باجتهاده؛ لأنه إنما يسأل عما عنده ولا يسأل عن قول غيره، وإن سئل أن يحكي قول غيره جاز له أن يحكيه، ولو جاز له أن يفتي بالحكاية لجاز للعامي أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء، والإجماع يمنع من ذلك، ومتى لم يتقدم من المفتي اجتهاد في المسألة وجب عليه الإجتهاد فيها قبل الفتوى؛ فإن تقدم منه اجتهاد وقول في المسألة، وكان ذاكراً لذلك القول وطريقة الإجتهاد لم يجب عليه تجديد الإجتهاد؛ لأنه كالمجتهد في الحال، وإن لم يذكر طريقة الإجتهاد فهو في حكم من لا اجتهاد له فالواجب عليه تجديد الإجتهاد، وإذا لم يجز له أن يفتي فيؤخذ بفتواه فالأحرى أن لا يجوز للعامي الأخذ بفتوى من مات؛ لأنه لا يدري أنه لو كان حياً لكان ذاكراً لطريقة الإجتهاد وراضياً بذلك القول أم لا؟
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقرر ذلك القول عن ذلك الفقيه ويوجب القطع على أنه اجتهاده، قال: لأن موته قد أزال عنه التكليف فجرى مجرى من اجتهد في مسألة قبل حدوثها ثم سأل عنها، وهو ذاكر لطريقة اجتهاده فإن التكليف زائل عنه في تلك الحال ـ أعني تكليف الإجتهاد في تلك المسألة ـ فكذلك هذا.

وإنما الكلام في الأحكام التي يقضي بها الميت قبل موته حكماً وفتوى فغير بعيد عندنا أن لا يطلق عليها اسم الفتوى، وإنما هي تنبيه على الحكم؛ لأن السنة الجارية بين المسلمين أنهم لا يسوغون للعامي الرجوع إلى الكتب للفتوى، وإنما يرجع إليها العالم للإستعانة بما فيها من الطرق المستحدثة والآثار المقرؤة، فإن وجد المستفتي من يرجع إليه في الفتوى ممن يصلح للفتوى، وجب عليه الرجوع إليه وسواء كان عليه في وصوله مؤنة أو لم يكن، ولا يجوز خلو الأعصار ممن يصلح للفتوى فيذكر الجواب عنه إن لم يوجد؛ فإن قدر ذلك وسأل عن الحكم لو كان، قلنا: يرجع إلى المعلوم في قضية العقل إن لم يعلم الحكم الشرعي ويجري مجرى العالم الذي تستوي عنده الأمارات كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في المجتهد إذا تغير اجتهاده]
وإذا أفتى المجتهد باجتهاده بعد توفية الإجتهاد شروطه ثم تغير اجتهاده لم يلزمه أن يعرف المستفتي تغير اجتهاده إذا كان المستفتي قد عمل به؛ لأن كل واحد منهما قد خرج مما يجب عليه، المفتي في فتواه والمستفتي في العمل بمقتضى فتواه، وإن لم يكن قد عمل به فينبغي أن يعرفه ذلك إن تمكن منه؛ لأن العامي إنما يعمل بالإجتهاد الأول؛ لأنه قول المفتي ومعلوم أنه ليس بقوله في تلك الحال إلا أنه لا يبعد عندنا القول بأنه يجب عليه أن يخبره بتغير اجتهاده سواء أمضى الحكم أو لم يمضه.
أما في ما لم يمضه فلا كلام، وأما فيما أمضاه؛ فلأن لا يجري العامي ذلك الحكم على نظائره في المستقبل ولكن يعلمه أن ما أمضاه لا يجب نقضه.

مسألة:[الكلام في ما يجب على العامي في الفتوى]
ويجب على العامي تبين الفتوى دون الوجه، وقد خالف في ذلك الجعفران وقوم من متكلمة البغدادية وقالوا: إنما يجب على العامي الرجوع إليه لينبهه على طريقة الإستدلال، فإن حصل له العلم أو الظن باستدلال نفسه ونظره وإلا لم يجز له العمل، وهذا خلاف قد سبقه الإجماع بالقول والفعل والتقرير فلا يلتفت إليه؛ لأن الصحابة والتابعين وغيرهم من طبقات المسلمين يفتون العامي ولا يثبتون له الوجه بغير مناكرة بينهم في ذلك فكان إجماعاً، وعِلْمُنَا بأنهم لم يثبتوا له الوجه حاصل على حد عِلْمِنَا بأنهم أفتوا في المسائل إلى أن حدث هذا الخلاف، وقد سبقه الإجماع؛ فكان محجوجاً به، ولولا ما قلنا لما تميزت طبقة العوام عن طبقة العلماء، ولأن العامي لا يمكنه الإستدلال وإن نبه على الوجه وطريقته، وهذا معلوم لنا من حالهم فكان إعلامه بالوجه عبثاً وذلك لا يجوز، ولأنا كما نعلم أنه لا يجب على الحاكم أن يعلم المحكوم عليه بالوجه الذي حكم عليه لأجله من طريق الإجماع، نعلم مثل ذلك في المفتي فكما أن فساد الأول معلوم فكذلك هذا؛ لأن ظهور الإجماع في أحدهما كظهوره في الآخر.
مسألة:[الكلام في تخيير المستفتي بين الأقوال المختلفة]
وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره بلا خلاف في ذلك؛ فإن أفتاه بقول مختلف فيه؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه ينبغي أن يخيره بين أن يقبل منه وبين أن يقبل من غيره.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى المنع من ذلك ويقول: ليس للمفتي تخييره لأن ذلك منه تخيير له بين العمل على الظن الأقوى وبين العمل على الظن الأضعف وذلك لا يجوز لانعقاد الإجماع على خلافه، وهو الذي نختاره، لمثل ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.

ولأنه إنما سأله عما يغلب في ظنه صحته عنده وهو قوله دون قول غيره فكأنه صرح بسؤاله من جهة العرف عما يجب عنده العمل عليه وليس ذلك إلا قوله دون قول غيره؛ لأنه لا يجوز للعالم العمل على اجتهاد غيره على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وسواء علم من حال العامي التسوية بينه وبين مخالفه في تلك المسألة أو لم يعلم، اللهم إلا أن يعلم من حال المستفتي أن مخالفه أعلم منه كان له أن يخيره على معنى أن يقول له: هذا الذي عندي؛ فإن غلب في ظنك كون غيره أولى فاتبعه؛ لأن مخالفه وإن كان أعلم فاجتهاده عند نفسه أولى، وهذا كله عند من يقول بأن كل مجتهد مصيب.
فأما عند من يقول بأن الحق في واحد؛ فلا كلام لأنه لو خيره في تلك الحال لكان قد خيره بين الحسن الذي هو قوله عند نفسه والقبيح الذي هو قول من خالفه، وذلك لا يجوز.
وإن كان شيخنا رحمه الله تعالى قد ذكر عن الشيخ أبي الحسين البصري أن التخيير يجب على أصلهم أيضاً، قال: لأنه ليس بأن يجب عليه الأخذ بقول أحد المفتيين بغير حجة أولى من الآخر، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ما ذكرنا أولاً، وهو الصحيح عندنا؛ لأنه وإن جاز للعامي قبول الفتوى ممن يثق به وأخذه منه بغير حجة فليس للعالم أن يفتيه بذلك لأن قول غيره إذا كان من أهل هذه المقالة خطأ عنده وقوله الصواب، ولا يجوز له تخيير المستفتي بين الصواب والخطأ، وإنما اختلف حال الفتوى وحال الحكم؛ لأن الحاكم إنما وضع لفصل الخصومات وقطع الحقوق، فلو خير في الحكم لم تنقطع الخصمة.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا إنما يرجع فيه إلى أمر المستفتي؛ فأما المفتي فالقول فيه في الحكم والفتوى واحد كما قدمنا.
فأما الحكم فليس له النزوع إلى حاكم آخر وإن غلب على ظنه أن قوله أولى؛ لأن الحكم عليه فليس له فيه خيار والفتوى حق له فكان فيه الخيار، فله أن ينزع إلى مفتٍ آخر إذا غلب على ظنه أن قوله أولى.

مسألة:[الكلام في اعتدال القولين عند المفتي]
وإذا اعتدل القولان عند المفتي وكان ممن يرى أنه لا بد من ترجيح بينهما يتميز به أحدهما على الآخر ولا يجوز استوائهما من كل وجه وجب عليه معاودة النظر حتى يرجح عنده أحدهما فيفتي به.
وإن كان ممن يرى جواز الإعتدال في الأمارات وهو الذي اخترناه وكان يرى الإطراح عند التساوي كما قلنا وصححناه أيضاً لم يكن له أن يفتي بواحد منهما بل الواجب عليه الرجوع إلى ما سوى الأمارتين المعتدلتين من الطرائق الشرعية إن وجد ذلك، وإلا رجع إلى طريقة العقل فأفتى بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه من جهة العقل.
وإن كان ممن يرى القول بالتخيير عند التساوي؛ فقد ذكر قاضي القضاة في الشرح أن له أن يفتي بأيهما شاء، وذكر قولاً آخر وهو أنه إنما يفتيه بما يراه والذي يراه هو التخيير فينبغي أن يفتيه بلفظ التخيير ولا يفتيه بأحد الأمرين على القطع والبتات.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن الأول أولى، وهو الذي نختاره، ويحتج له: بأنه يجوز للمفتي أن يعمل بأي القولين شاء، فكذلك يجوز له أن يفتي بأيهما ولا يجب عليه تخيير العامي بينهما.
وعندنا أن قول القاضي آخراً أولى؛ لأن التخيير حكم زائد على أحدهما ويتعلق به من الفائدة ما لا يتعلق بأحدهما من توسعة التخيير، ولا شك في أنه يلزمه أن يفتي على الوجه الصحيح عنده، والصحيح عنده التخيير فيفتي المستفتي بالتخيير ليطابق هواه اعتقاده، وذلك هو الواجب، ويكون العامي مخيراً في العمل بأيهما شاء كما المفتي مخير، ولو أفتاه بأحدهما على وجه القطع لكانت فتواه مخالفة لمذهبه، وذلك لا يجوز.

38 / 41
ع
En
A+
A-