التخيير في أحكام الفروع المختلف فيها، وأكثر ما يدعي في ذلك وإن كان بعيداً لما ذكرنا فإنما يثبت مع التسليم أن يقال إن ذلك لم يوجد في قضايا السلف.
والجواب عنه: بأنه لم يقع ولو وقع لكان الحكم التخيير لأنه كما جاز استواء الأمارات عنده أجاز اختلافها عنده فكل واحد من الأمرين لا مانع منه، ولأنه لو كان مؤدياً إلى التخيير فللقول بالتخيير وجه يمنع من القطع على بطلانه: وهو أن المكلف قد أخذ عليه في الشرعيات العمل بما قامت عليه دلالة الشرع، وقد قامت الدلالتان الشرعيتان على كل واحد من الحكمين وصحت كل واحدة منهما باعتبارها في نفسها في جميع الوجوه المعتبرة في صحة العلة عنده وغلب في ظن المجتهد أن الحق لا يعدوهما ولم يصح العمل بمجموعهما لكون ذلك مخالفاً لطريق العلماء فلم يبق إلا العمل بالتخيير؛ لأن المجتهد إذا كان متعبداً بأن يثبت للفرع الحكم الذي يغلب على ظنه أنه يجب الجمع بينه وبين الأصل فيه بالأمارة التي يقتضي غالب الظن في علته، وحصل له هذا المعنى في أصلين من حيث كان غالب ظنه يقتضي أن شبهه بأحدهما كشبهه بالأخرى، فما يوجب أن يكون متعبداً بأحد الحكمين فيه، يوجب أن يكون متعبداً بالآخر؛ فإذا استويا في أنه متعبد بهما على سواء ولم يصح ذلك في طريقة الجمع صح في طريقة التخيير.
وقول أبي الحسن: إنه لا لفظ يدل على التخيير، لا تأثير له في المنع من التخيير إذا صح التخيير من جهة المعنى؛ لأن المعنى هو المعتبر في باب العلم دون اللفظ.
وأما الذي يدل على صحة ما اخترناه: أن الأمارتين إذا استوتا وكانتا في أمرين مختلفين لم يغلب على ظننا صحة إحداهما دون الأخرى لتساوي الأمارتين والوجوه كما قدمنا أولاً في طريق تستوي عندنا في أمره أمارات الخوف والأمن، فلا يحصل لنا مع التساوي إلا الشك، والعمل على الشك لا يجوز عقلا ًولا شرعاً.

ولأنهما إذا استوتا مع التنافي لم يكن للمكلف إذا عمل على أحدهما من اعتقاد كون العمل عليها أولى، وهذا الإعتقاد لا يجوز إلا بأن يغلب على ظنه كونها أولى، وذلك لا يصح مع التساوي، وذكر شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه الموسم بالفائق في أصول الفقه، الإحتجاج على ما ذهبنا إليه بوجهين:
أحدهما: يتضمن معنى الوجه الأول الذي ذكرنا.
والثاني: أن ذلك التخيير بين النفي والإثبات لا يصح بل يرجع إلى وجه واحد وهو الإباحة وذلك كالتخيير بين أن يكون الفعل محظوراً أو مباحاً أو واجباً أو غير واجب؛ لأنه إذا خير المكلف بين الحظر والإباحة وقيل له: إن شئت فافعله وإن شئت فلا تفعله، فقد أبيح له الفعل، فقد رجع التخيير إلى وجه واحد إذ ليس معنى الإباحة سوى ذلك، وليس ذلك بتخيير بينهما بل هو عمل على أحدهما وإطراح الآخر، فثبت أن التخيير في ذلك لا يصح.
مسألة:[الكلام في العالم هل يصح أن يكون له في المسألة قولان متنافيان أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يصح أن يكون للعالم في المسألة قولان متنافيان أو لا يصح ذلك؟ نحو ما ينسب إلى الشافعي فقد نصوا في كتبه على مسائل أن له فيها قولين أحدهما يجوز، والآخر لا يجوز من غير رجوع إلى تاريخ أو تخيير وهذا لا يجوز عند أصحاب أبي حنيفة، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره، وحكى أن أكثر المتكلمين يجوزه.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن إضافة ذلك إلى العالم على معنى أن كل واحد منهما مذهب له من غير تغاير في الوقت والوجه يؤدي إلى اعتقاد الضدين وذلك لا يجوز وقوعه في حالة واحدة فضلاً عن جعله مذهباً لبعض المجتهدين؛ لأنا لا نعقل من أنفسنا اعتقاد كون الفعل حراماً وكونه حلالاً في حالة واحدة؛ لأنا إذا اعتقدناه حلالاً ارتفع اعتقادنا بكونه حراماً، وإن اعتقدناه حراماً ارتفع اعتقاد كونه حلالاً لاستحالة اجتماع الضدين، وموضع تقرير ذلك أصول الدين، ولا يصح أن يقال إنما نسب إليه ذلك؛ لأنه يقول بالتخيير فيهما لأن ذلك لا يعلم من مذهبه، ولأن التخيير قول واحد وليس بقولين، ولأنه يكون قولاً بأن الواجب يجوز تركه مع التمكن من فعله إلى غير واجب يسد مسده ويقوم مقامه كما قلنا في الكفارات الثلاث لا يجوز، وكذلك فلا يصح أن يقال إنما نسبنا إليه ذلك لأنه لم يثبت عنده ما عداهما ولا ندري في أيهما الحق من غير أن يقويا عنده، أو يقال إنهما قويا عنده ولكن لم يترجح أحدهما على الآخر، وذلك لا يصح؛ لأنا قد قدمنا أن من هذه حاله يكون شاكاً في المسألة والعمل على الشك لا يجوز.
فلا يجوز أن يقال إن له في المسألة قولاً فضلاً عن قولين، وذلك لا يصح أن يقال في من شك في العالم هل هو حادث أو قديم أن له في العالم قولين.
فإن قيل: إن له قولين بمعنى أنه قال أحدهما في القديم والثاني في الجديد، لم يصح أيضاً إضافة قولين إليه على هذا الوجه، وإنما له قول واحد وهو الجديد الذي رجع إليه دون القديم الذي رجع عنه.
فإن لم يعلم التاريخ بينهما قلنا له في المسألة قول هو أحد هذين القولين إلا أنا لا نعلمه بعينه لجهل التاريخ بينهما، ومما يجوز أن يتوهم أنهم أضافوا إليه القولين لأجله، أنه قال قولين بَيَّن فيهما طريقتين للإجتهاد للمجتهد ليعمل فيهما بما يؤديه اجتهاده إليه، وعلى هذا لا يجوز إضافة اعتقاد أحد القولين إليه على التخيير ولا على الجمع.

فإن قيل: إنه ذكر قولين في المسألة على حالين ويريد أنه قال بأحدهما على حال وبالآخر على حال أخرى، هذا لا يصح، لأنه يوجب أن يكون له في المسألة قول واحد إذ الحادثة التي تختص بحال تخالف التي تختص بحال آخر وهما يجريان مجرى مسألتين، كما يفتى من يمكنه الصلاة قائماً بالقيام، ومن لم يمكنه الصلاة قائماً بالقعود، فلا يقال له في الصلاة قولان أحدهما أنه يجب على المصلي تأديتها قائماً والثاني يوجب عليه تأديتها جالساً، وكذلك فإن من يذهب إلى أن النية تجب في طهارة التيمم ولا تجب في طهارة الماء، لا يصح أن يقال له في نية الطهارة مذهبان:
أحدهما: أنها واجبة.
والثاني: أنها غير واجبة، وما أمكن أن يقال فالجواب عنه يجري هذا المجرى.
فصل: في كيفية إضافة المذهب إلى العالم
وحقيقة المذهب: هو كل قول صادر عن دلالة أو أمارة أو شبهة أو تقليد، لأنه لا يقال في العلم الضروري إنه مذهب، ولا في التبخيت إنه مذهب، فمتى ظننا اعتقاد الإنسان على هذا الوجه أو عرفناه ضرورة أو بدليل مجمل أو مفصل قلنا إنه مذهبه، وقد يدلّ الإنسان على مذهبه في المسألة بوجوه أربعة:
أحدها: أن يحكم في المسألة بعينها بحكم معين.
وثانيها: أن يأتي بلفظ عام يشمل تلك المسألة وغيرها نحو أن يقول الشفعة لكل جار.
وثالثها: أن يعلم أنه لا يفرق بين مسألتين وينص على حكم إحداهما فيعلم أن حكم الأخرى عنده ذلك الحكم كالطهارتين، وقد مثله شيخنا بأن يقول: الشفعة لجار الدكان فيعلم أنه عنده لجار الدار.
ورابعها: أن يعلل الحكم بعلة في عدة مسائل فيعلم أن مذهبه شمول ذلك الحكم لتلك المسائل سواء قال بتخصيص العلة أو لم يقل، وهذا عندنا مما يمكن فيه النظر؛ لأنه لا يمتنع أن يعترض تلك العلة في بعض المسائل ما لا يقوي ظنه بصحتها في بعضها مع قوله بتخصيص العلة فلا يحصل لنا القطع بذلك.

فأما من لم يقل بتخصيص العلة وعلمنا قوله في مسألة بمجرد ثبوت تلك العلة علمنا مذهبه في جميع ما وجدت فيه تلك العلة متعرية عما يمنع من ثبوتها في الأصل، فإذا لم يقل بتخصيص العلة وقال النية واحدة في التيمم لأنه طهارة عن حدث، علمنا أن مذهبه في الوضوء وجوب النية لوجود هذه العلة؛ لأن كلام العالم كما يدل على مذهبه فكذلك تعليله من طريق العادة والعرف.
فأما إذا نص في المسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبهاً يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين، فإنه لا يجوز أن يضاف إليه مثل قوله المنصوص في المسألة الأخرى نحو أن ينظر فيها غير نظره في المسألة الأخرى، أو يعتمد فيها غير تلك الطريقة فيقول بخلاف ما تضمنته، فهذه طريقة القول في المذهب وكيفية إضافته إلى العالم.
مسألة:[الكلام في جواز تفويض الله إلى المكلف التحليل والتحريم]
اختلف أهل العلم في جواز تفويض الله سبحانه إلى المكلف التحليل والتحريم والإباحة باختياره.
فمنع أكثرهم من ذلك، وهو قول جماعة الحنفية، وكثير من الشافعية، وإليه ذهب أبو هاشم وأبو عبدالله وقاضي القضاة وأبو الحسين البصري والحاكم.
وحكي عن الشيخ أبي علي أنه أجاز ذلك للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم خاصة ذكر ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93]، ثم رجع عن هذا.
وحكي عن مؤيس بن عمران وجماعة من البصريين أنه تعالى قد فوض إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أن يحكم بما شاء لعلمه أنه لا يختار إلا الصواب، ثم فعل بعد ذلك مثله لصالح أمته فإذا سئل عن مسألة ليس فيها نص فله أن يفتي بما شاء.
وحكي عن الشافعي تجويز ذلك في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، والقول الأول هو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.

والذي يدل على صحته: أن هذه الشرائع مصالح، والمصالح لا يجوز أن تكون موقوفة على اختيار العباد، فلا يجوز أن يفوض الأمر في ذلك إليهم، إذ لا هداية لهم إلى العلم بها لكونها من جملة الغيب الذي استأثر الله سبحانه بعلمه.
يبين ذلك ويوضحه: أن المكلف قد يختار الصلاح وقد يختار الفساد على وجه السهو والعمد؛ فلو أباح الله للمكلف أن يحكم بما يختاره لكان فيه إباحة الحكم بما لا يأمن كونه فساداً، ومتى قيل: إنه يأمن ذلك لقوله تعالى له: إنك لا تحكم إلا بالحق.
قلنا: لا يجوز أن يقول له ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يستمر من المكلف اختيار الصلاح دون الفساد من غير علم بأعيان الصلاح، كما لا يجوز أن يتعبد الأمي بالكتابة المحكمة إذ يستحيل حصول ذلك منه بالإتفاق؛ لأن حصوله على ذلك الوجه ينقض كون الفعل المحكم دلالة العلم، ومعلوم أن ما أدى إلى ذلك قضي بفساده إذ قد تقررت لديه صحته، وكذلك الأخبار بالصدق يستحيل حصوله بالإتفاق على وجه الإستمرار ممن لا يعلم مَخْبَرُهُ، وفي تجويز هذا رفع الثقة بنبوة الأنبياء عَلَيْهم السَّلام التي تكون معجزتهم الخبر بالغيب على وجه الصدق مستمراً.
ولأنه لو جاز لشخص أن يعلم بالغيب مستمراً من غير علم بالمخبر لجاز من غيره من الأشخاص بل من سائر الأشخاص، لأن ما يحصل بالإتفاق لا تفترق فيه أحوال الناس، إذ لا يرجع فيه إلى دلالة ولا أمارة، فكذلك يرفع العلم بنبوة الأنبياء، وبنقض معجزاتهم، وذلك لا يجوز على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين، ولأن ذلك يؤدي إلى أن يتعبد نبي أو أنبياء لا تظهر عليهم أعلام النبوة بأن يعلم الله من حال المكلف أنه لا يصدق إلا الصادق، وذلك باطل، ولأنه لو جاز ذلك في العالم لجاز في العامي؛ لأن ما يحصل بالإتفاق لا تختلف فيه أحوال العباد، وذلك خارج عما عليه الأمة ويؤدي إلى الحكم بالأهواء وتعطيل الشرائع وذلك لا يجوز.

مسألة:[الكلام في أن كل مجتهد مصيب في الفروع]
اختلف أهل العلم في المجتهدين في الفروع؛
فمنهم من قال: كل مجتهد فيها مصيب في اجتهاده وفيما أداه إليه اجتهاده، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الهذيل، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، والسيدين المؤيد بالله وأبي طالب عَلَيْهما السَّلام.
وذكر أنه المحكي عن أبي الحسن، وحكاه عن أصحاب أبي حنيفة، وحكى غيره عنهم خلاف ذلك.
وحكى سفيان بن سحبان عنهم أن الحق في واحد، وكلام الشافعي يختلف، واختلف أصحابه فمنهم من قال: الحق في واحد والمخطئ معذور، ومنهم من قال: كل مجتهد مصيب، ويضيف ذلك إلى الشافعي وسوى فيه بين اجتهاده والحكم، وإن كان أحدهما أخطى الأشبه عند الله وسنذكر الأشبه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ما ذهبت إليه مشائخنا من أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي ما أداه إليه اجتهاده وهو الذي نختاره.
ومنهم من ذهب إلى أن الحق في واحد، وأن ما عداه باطل، وحكاه شيخنا عن الأصم(1) وبشر المريسي وابن علية(2)
__________
(1) ـ الأصم: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم، من المعتزلة من الطبقة السادسة،، وكان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم؛ خلا أنه كان يخطي علياً -عَلَيْه السَّلام- في كثير من أفعاله ويصوب معاوية في بعض أفعاله.
قال القاضي: ويجري منه حيف عظيم على أمير المؤمنين، وله تفسير عجيب، وكان أبو علي إذا ذكره قال: لو أخذ في فقهه ولغته لكان خيراً له. انظر كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.
(2) ـ إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، المعروف بابن علية، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، قال ابن معين: كان ثقة مأموناً ورعاً تقياً وأثنى عليه غيره. انظر الجداول (خ).

، وأن الحق قولهم، وتجاوز الأصم إلى أن قال: حكم الحاكم ينقض به(1) وقال: المخطئ في ذلك كالمخطئ في أصول الدين، وبنوا ذلك على قولهم إن على أعيان المسائل أدلة قاطعة توصل إلى العلم، وبطلان قولهم هذا حاصل لأهل العلم بما يجري مجرى الضرورة فلا يحتاج فيه إلى إفراد دلالة.
وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس إلى أن الحق في واحد، وقال بعضهم: الحق في واحد والمجتهد مصيب في اجتهاده.
فالذي يدل على صحة ما ذهب إليه مشائخنا من أن قول كل واحد من المجتهدين حق صواب:
ما تواتر به النقل من الصحابة أنهم لما اختلفوا في مسائل الفروع نحو مسألة الإيلاء ومسألة الحرام وغيرهما من المسائل اختلفت أقاويلهم فيها، وكان كل واحد منهم يتولى من خالفه كما يتولى من وافقه على حسب علمهم في اختلافهم في القِرَآن، وكان كل منهم لا يمنع صاحبه من قوله الذي اختاره ولا يخطي المستفتي منه في فتواه.
يبين صحة هذا: أنهم لو كانوا منكرين على الغير اختياره لوجب أن يعتقد كل منهم في من خالفه أن حكمه غير جائز فيما يحكم به، وأن العامي لا يجوز له أن يستفتيه، وقد علمنا من طريق الأخبار المتواترة أنهم لم يكونوا يسلكون هذه الطريقة فيما بينهم؛ لأن بعضهم كان لا يمنع من تولية الحكم من يخالفه في الإجتهاد بل لو حكم عليه بغير اجتهاده لانقاد له وأمضاه.
__________
(1) ـ قال في المعتمد: وقالوا -أي الأصم وبشر المريسي وابن علية-: إن على الحق دليلاً يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق ويجب نقض الحكم بما خالف الحق) انتهى.

وبعضهم يعتقد إمامة صاحبه مع أنه يخالفه في مثل ذلك، فلو كان الحق في واحد لكان المخالف له مخطياً، والساكت عن النكير مخطياً، والمتولي لمن فعل الخطأ مخطياً أيضاً، فكان يقع في ذلك اتفاق الصحابة على الخطأ، وذلك لا يجوز، ولا يمكن أن يقال إنما لم ينكروا ذلك؛ لأن المخطئ معذور؛ لأنه إذا لم يكن مصيباً كما ذكرنا لم يكن معذوراً إذ هو متمكن من الوصول إلى الحق وقَصَّرَ دونه فجرى مجرى من هو متمكن من الوصول إلى العلم فاقتصر على الظن، أو متمكن من الوصول إلى النص فاقتصر على القياس، ولا شك في خطأ من فعل ذلك إليهم إلا أن يقال إنه معذور على أنه لا سبيل له إلى الوصول إلى الحق بوجه من الوجوه، فهذا يسقط عنه تكليف إصابة الحق، إذ التعبد بغير الممكن لا يجوز لأنه جارٍ مجرى تكليف ما لا يطاق، فيرجع القول إلى رفع تكليف الإجتهاد، وذلك ما لم يقل به قائل، أو إلى القول بأن كل مجتهد مصيب وهو الذي قلناه سيما إذا كان في المسائل ما يعظم فيه الأمر، ويكثر فيه الجرم؛ لأن فيها ما يتعلق بإراقة الدماء وأخذ الأموال فأخطأ في ذلك وهو متمكن من الإصابة وهذا يؤدي إلى القطع، على أن في جملة الصحابة من أقدم على كبيرة ببعض هذه الأقاويل التي اختلفوا فيها، وأن الباقين تركوا إنكار ذلك، وهذا لا يجوز عليهم على ما قدمنا في غير موضع، إلا أن يكون مرادهم بأنه معذور أنه لم يكلف إلا ما أداه اجتهاده إليه، فقد وافقونا في المعنى؛ لأن الفعل الواقع من المكلف على الوجه الذي كلف لا بد من أن يكون حقاً، ولسنا نريد بقولنا إن كل واحد من هذه المذاهب حق غير هذا المعنى.

مسألة:[الكلام في الحوادث التي اختلف فيها المجتهدون هل لها حكم عند الله تعالى هو الأشبه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الحوادث التي اختلفت فيها المجتهدون، هل لها حكم عند الله تعالى هو الأشبه حتى لو نص الله سبحانه وتعالى لنص عليه، أم لا؟
فمنهم من قال: لا بد من أن يكون في الحادثة حكم هو الأشبه، فإن أصابه المجتهد فذاك بتوفيق الله تعالى، وإن لم يصبه فقد أدى ما تُعبِد به؛ لأن الله تعبد بالإجتهاد في طلبه دون إصابة عينه، وقد أدى ما كلف.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى هذا القول عن أبي الحسن، وأبي علي، أولاً، وعيسى بن أبان، وسفيان بن سحبان، وهو المحكي عن محمد بن الحسن إلا أنه عبر عن الأشبه بالصواب عند الله، وذكر أن أبا الحسن ذكر أن ذلك مذهب أصحاب أبي حنيفة، وحكى عنهم أن أحد المجتهدين مصيب، والثاني مخط معذور.
فأما الشافعي فذهب إلى الأشبه على ما حكى عنه أبو حامد المروزي(1)والقاضي، وممن قال بالأشبه: الشيخ أبو إسحاق بن عياش(2).
وذهب أبو الهذيل وأبو هاشم وقاضي القضاة والسيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام وأبوالحسين البصري والحاكم إلى أنه لا معنى للقول بالأشبه وهو الذي كان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
واحتج من ذهب إلى المذهب الأول: بأن المكلف طالب ولا بد للطالب من مطلوب معين، إذ يستحيل طلب الأمر الذي لا يتعين، كما نعلم فيمن يتحرى جهة القبلة أنه لا بد له من جهة لو أصابها لأصاب الحق إلا أنه يعذر إذا أخطأها.
__________
(1) ـ أبو حامد المروزي هو أحمد بن بشر بن عامر القاضي، توفي سنة (362هـ).
(2) ـ أبو إسحاق بن عياش: هو إبراهيم بن عياش البصري، قال القاضي: وهو الذي درسنا عليه أولاً وهو من الورع والعلم والزهد على حد عظيم، أخذ عن أبي هاشم وأبي علي بن خلاد وأبي عبدالله البصري، وله كتاب في إمامة الحسنين ـ عليهما السلام ـ وكتب غيرها.

37 / 41
ع
En
A+
A-