ثم الذي يعلم بالمشاهدة لا يخلو: إما أن يعلم أنه علة الحكم الشرعي أو لايعلم، والمظنون لا يخلو إما أن يظن بأمارة شرعية أو بأمارة عقلية، والشرعية لا تخلو إما أن تكون نصاً أو تنبيه نص أو إستنباطاً.
فإن كانت العلة معلومة بالمشاهدة كالوزن، وكانت العلة الأخرى مظنونة كخروج الذهب والفضة عن حكم الموزونات لأنهما ثمن الأشياء، ولم يحصل العلم بأن الحكم الشرعي لازم لتلك العلة كانت العلة المظنونة إذا كان الطريق إليها شرعياً، وعلم أنها شرعية أولى من العلة المعلومة إذا لم يعلم معها الحكم الشرعي.
فأما تمثيل شيخنا رحمه الله تعالى بأن يكون البر مكيلاً أو مطعوماً، وكون الوضوء طهارة عن حدث فبعيد التمثيل في هذا الباب؛ لأن الترجيح إنما يقع بين العلتين المتنافيتين على حكم واحد فتثبته إحداهما وتنفيه الأخرى فيرجح بينهما، ولسنا نرجح بين علّة الطهارة وعلة الربا، وإنما نرجح بين علتي الطهارة بالماء في وجوب النية، ولو طولنا الكلام في هذا الباب لطال إلا أن هذه الإشارة كافية لمن كان له في البحث والتوفيق نصيب، وهو أنك تعلم أن العمل على العلم أقوى إذا كان يفيد حكماً شرعياً؛ فإن لم يفد الحكم الشرعي لم يكن لكونه معلوماً من جهة العقل تأثير، وكان العمل على الظن المفيد للحكم الشرعي أولى؛ لأنا قد تركنا معلوم العقل لمظنون الشرع، ولا تأثير لعلم العلة ما لم يعلم تأثيرها في الحكم.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الأصل والفرع]
فأما ترجيح العلّة بما يرجع إلى حكمها؛ فهو ضربان:
أحدهما: يتعلق بحكمها في الأصل.
والآخر: يتعلق بحكمها في الفرع.

[ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الأصل]
أما المتعلق بحكمها في الأصل، فهو ضربان:
أحدهما: أن تكون طريق ثبوت أحد الحكمين أقوى من طريق ثبوت الأخرى في أصله، نحو أن يدل على حكم الأصل دليل قاطع، ويدل على حكم الأصل الآخر أمارة، وإنما كان ذلك وجهاً يقتضي الترجيح لأن الوصف لا يكون علة حكم الأصل إلا وحكمه ثابت، فإذا كان حكم أحد الأصلين أقوى ثبوتاً [كان ما تبعه من العلة ومن حكم الفرع أقوى ثبوتاً(1)].
والضرب الثاني: أن يكون طريق ثبوت إحداهما في أصلٍ الشرعَ، وطريق ثبوت الأخرى في أصله العقل، وإنما كان ذلك أصلاً في الترجيح؛ لأن القياس الشرعي دلالة شرعية، والقياس الذي حكمه شرعي هو أشد مطابقة للأدلة الشرعية، ولأن العلة التي حكمها شرعي تكون ناقلة عما في حكم العقل.
وقد بينا في باب ترجيح الأخبار أن الناقل عن حكم العقل أولى لأن الحكم العقلي الذي يجوز أن يرد الشرع بالنقل عنه إنما يثبت بشرط أن لا ينقل عنه شرع؛ فإذا نقل عنه الشرع لم يكن له ثبات ولا استقرار، وليس ثبوت الحكم الشرعي مشروطاً بأن لا ينقل عنه العقل فكان الشرعي أولى من هذا الوجه.
وقد اعترض شيخنا رحمه الله تعالى ذلك بأن قال:
فإن قيل: كيف يجوز أن يستخرج من حكم عقلي علة شرعية؟
وأجاب: بأن ذلك يجوز إذا لم ينقل عنه الشرع فتستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلها عنه الشرع؛ فأما إذا كان أحد الحكمين نفياً والآخر إثباتاً، وكانا شرعيين، فقد ذكر قاضي القضاة أنه لا تكون إحدى العلتين أقوى من الأخرى.
وذكر الشيخ أبو الحسين البصري أنه لا بد في النفي والإثبات من أن يكون أحدهما عقلياً والآخر شرعياً(2).
__________
(1) ـ يوجد هنا بياض في النسخة، وما بين المعكوفين زيادة من المعتمد.
(2) ـ هكذا في الأصل، وفي المعتمد (سمعياً).

وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه قد يكون الحكمان شرعيين وإن كان أحدهما نفياً والآخر إثباتاً له كإثبات العتاق ونفيه، وهذا وجه مستقيم في العتاق الطارئ على الرق الشرعي؛ لأن الرق الشرعي ثابت بالشرع فما نقل عنه فهو شرعي؛ فأما نفي الرق أولاً فهو عقلي لا محالة فالمثبت للرق في تلك الحال أولى؛ لأنه ناقل.
[ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الفرع]
وأما المتعلق بحكم العلّة في الفرع فضروب:
منها: أن يكون أحد الحكمين حظراً والآخر إباحة؛ فمتى كان الحظر شرعياً كان أولى من الإباحة، فكانت علته أقوى لأن الحكم الشرعي أقوى من حيث هو ناقل، ولأن الأخذ بالحظر أحوط كما تقدم بيانه في ترجيح الأخبار وإن كان الحظر عقلياً والإباحة شرعية، فكل واحد منهما فيه وجه ترجيح فالواجب الرجوع إلى ترجيح آخر، هذا الذي ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه.
وعقلنا عنه في المذاكرة أن الإباحة متى كانت شرعية فهي أولى من الحظر العقلي لكونها ناقلة، وكونه أحوط إنما هو وجه ترجيح متى كان مساوياً للإباحة في الثبوت بأن يكونا معاً شرعيين.
فأما متى كانت شرعية دونه فإنها تكون أقوى ثبوتاً منه؛ لأن ثبوته مشروط بأن لا ينقل عنه شرع والحكم الشرعي ثابت لا بشرط، فلذلك كانت أقوى، وهذا عندنا هو الصحيح لما ذكر من تعليله رحمه الله تعالى وإن كان الحظر والإباحة شرعيين على قول من كثر كونهما شرعيين معاً فالحظر أولى؛ لأنه أحوط لأنه قد شارك الإباحة في الثبوت لكونه شرعياً، واختص بوجه قوة وهو أنه أحوط.
فأما عند الشيخ أبي الحسين البصري فإن هذا القسم الأخير مستحيل لأنهما لا يجوز كونهما شرعيين عنده؛ بل لا بد من كون أحدهما عقلياً والآخر شرعياً، والصحيح عند شيخنا ما قدمنا روايته عنه من أن ذلك لا يجوز.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين إثبات عتاق وحكم الأخرى نفيه، فقد اختلفوا في ذلك:

فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري أن المثبتة للعتاق أولى.
وعند القاضي والحاكم وجماعة من العلماء أنهما سواء، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره؛ لأن إثبات العتاق وهو شرعي وطريانه على الرق الذي هو شرعي يوجب كون الحكمين شرعيين، فلا يقع لأحد العلتين مزية على الأخرى فلا يجوز الترجيح بينهما، وكون المثبت للعتاق أحوط يمكن بأن يقال بأن إزالة الملك محظورة فيستوي الوجهان في باب الحيطة.
وقد علل شيخنا رحمه الله تعالى هذه الدلالة في باب الأخبار بما لا وجه لإعادته، وذكرنا في باب الأخبار ما يشتمل بصحة ما قلناه.
ومنها: أن يكون حكم أحدهما إسقاط حد، وحكم الآخر إثباته، فقد اختلفوا في ذلك:
فعند الشيخ أبي عبدالله وعيسى بن أبان والشيخ أبي الحسين البصري أن المسقط للحد أولى.
وقال القاضي: المثبت للحد أولى، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ما قاله الشيخان أبو عبدالله وأبو الحسين ويحتج لذلك بأنه قد أخذ علينا إسقاط الحدود بالشبهات كتعارض البينتين؛ فإذا تعارضت العلتان في ذلك كان تعارضهما صحة شبهة كما ذكرنا في تعارض الخبرين واختيارنا ما ذهب إليه القاضي؛ لأن إثبات الحد حكم شرعي، ونفيه مبني على حكم العقل، والناقل أولى كما تقدّم الكلام في نظائره، ولم يؤخذ علينا إسقاط الحد بالشبهة في الجملة، إنما أخذ علينا دفعه عند وقوعه في العين المخصوص بالشبهة؛ فأما في الجملة فأخذ علينا طلب الأحكام الشرعية وقبولها والإجتهاد في إثباتها.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين أزيد من حكم الأخرى، نحو أن يكون حكم إحداهما ندباً، ويكون حكم الأخرى إباحة، فالتي حكمها الندب أولى؛ لأن الندب يتضمن شيئاً من معنى الإباحة الذي هو الحسن، ويزيد عليها فيكون أولى إذا كان الجميع شرعياً واختص الندب بزيادة شرعية، وهي كون فعله أولى، وهذا الوجه ذكره شيخنا، وهو الذي نختاره.

ومنها: أن تكون إحدى العلتين قد شهدت به الأصول نحو أن يكون جنس ذلك الحكم ثابتاً في الأصول، مثل تحريم المثلة في الجملة، فالعلة المحرمة لمُثْلَةٍ مخصوصة أولى من المبيحة لها لأن الشريعة في الجملة تشهد لها، وهذا ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
ألا يمكن أن يقال: إن العلة التي توجب مثلة مخصوصة أولى من حيث كانت ناقلة والناقل أولى، وهذا لا يبعد عندنا صحته، ونحو أن يكون الكتاب والسنة قد شهدت لها أو بعضها فإن وقعت صريحة فهي الأصل في الدلالة بمقتضاها ولا وجه لذكر الترجيح لها، وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها لوضوح دلالة القياس على دلالتها.
ويقع الترجيح بقول الصحابي؛ لأنه أعلم بمقاصد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكذلك إذا عضدت العلةُ علة أخرى وكان دليلهما مختلفاً، فإن ذلك يقتضي الترجيح كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض، وكما يرجح الخبر على خبر آخر بكثرة رواته، ولذلك كانت العلة التي لا تخصص العموم أولى من التي تخصصه؛ لأن لفظ العموم يشهد لها، وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده، وهو الذي نختاره.
وذكر قاضي القضاة في الشرح أن هذا القول مخالف لما ذكرناه في الأصول لأن كلا المعللين قد اتفقا على مطابقة ذلك الأصل لإحدى العلتين، ولم يقع الإتفاق بينهما على ذلك في هذا الموضع؛ لأن أحد المعللين يقول ما أراد الله عز وجل بالعموم ما تناولته العلة المخصصة.

وكان شيخنا رحمه الله يجيب عن ذلك بأنهما سواء، قال: لأن أحد المعللين وإن لم يقل ذلك فإن العموم يشهد لمطابقة إحدى العلّتين، فكانت أولى، وبعد فعنده يعني القاضي وهو عند الجميع أنه متى اقترن بالقياس خبر مجمل رجح به مع أن أحد المعللين يمكنه أن يقول في ذلك الخبر المجمل إنه ما أريد ما يخالف علتي، وقوله ذلك في المحتمل أمكن من قوله في العموم، ولا يلزم عليه ما يقوله من يذهب إلى القول الأول من أن العموم إذا كانت العلة الأخرى مخصصة له لم يسلم ظاهره، وإذا لم يسلم ذلك لم يصح أن يكون شاهد العلة المطابقة له؛ لأن العلة الموجبة لتخصيصه إذا عارضتها العلة الأخرى لم يسلم العموم لتعارضهما؛ فإذا شهد لأحدهما مع سلامته صحت سلامته بشهادته للعلة التي طابقته.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين يتبعها في جميع فروعها دون الأخرى، وقد اختلف من أجاز تخصيص العلة في الترجيح بذلك؛ فبعضهم لا يرجح به، وبعضهم يرجح به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يصححه أعني الترجيح، واختيارنا هو الأول.
وكان رحمه الله تعالى يحتج لقوله بأن لزوم الحكم بها أكسبها شبهاً بالعلل العقلية ويؤذن بلزومها لها في الأصل فكانت أولى.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: ما قد ثبت أن قيام الدلالة على صحة العلة الشرعية هو ثبوت تأثيرها في الحكم على الوجه الذي ذكرنا في تصحيح العلل، فإذا اجتمع فيها حكم الأصل وانبنى عليه حكم الفرع لتأثير العلة في حكم الأصل صحت العلة ولم تؤثر كثرة فروع الأخرى ولا يراعى أمر سوى ما ذكرنا في تصحيح العلة؛ لأنها لم تعتمد في الأصل إلا بصحتها، وقلة فروعها لا ينقض أصلها ولا يوجب ترجيح ذات الفرع عليها، وكون الأخرى أعم منها يرجع إلى كثرة مواضعه، وكثرة مواضعها لا يؤثر في قوة أصلها.

يبين ذلك أن أحد العمومين لا يصير أقوى من الآخر بأن يكون التخصيص الذي تناوله أقل مما تناوله الآخر فيكون ما أريد به من الفوائد أكثر مما أريد بالآخر فكذلك العلتان.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى أصلها]
فأما الترجيح بما يرجع إلى الأصل؛ فبأن تكون إحدى العلتين منتزعة من أصول كثيرة، والأخرى منتزعة من أصل واحد أو اثنين، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي اختلاف الناس في ذلك، وأن منهم من رجح بذلك، ومنهم من لم يرجح.
وقال قاضي القضاة: لا يرجح به إذا كانت طريقة التعليل واحدة، وإن كانت طريقته غير واحدة رجح به.
وذكر الشيخ أبو الحسين البصري أنه إن كانت علل الأصول كثيرة وأماراتها كثيرة فذلك وجه ترجيح، وإن كانت العلة واحدة وأماراتها واحدة، وكان الأصل نوعاً واحداً وإنما أشخاصه كثيرة فإنه لا يرجح بذلك، وإن كانت الأصول أنواعاً كثيرة وقع الترجيح بها.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد هذا القول، وهو الذي نختاره؛ لأن علل الأصول متى كانت كثيرة وأماراتها مختلفة فالترجيح بذلك يقع بشهادة العلل بعضها لبعض، ومتى كانت العلة واحدة ونوع الأصل واحد واشخاصه كثيرة لم يقع بذلك ترجيح لأن النوع واحد، فلا يعلم أن آحاد بعض الأنواع أكثر من آحاد النوع الآخر، ومتى كانت الأصول أنواعاً كثيرة فإن الترجيح يقع بها وإن كانت علتها واحدة؛ لأن الأصول الكثيرة تكون شاهدة لإحدى العلتين ويكون حكمها أشد ثبوتاً في الأصل من حكم الأخرى وذلك مقوٍ للظن.
ومثال ذلك: تعليل اشتراط النية في الوضوء بكونه عبادة يشترط في بذلها النية دليله التيمم قياساً على الكفارات فإن اختلاف أنواع الكفارات يوجب قوة هذه العلة وتكون أولى من العلة الأخرى التي يرد بها الوضوء إلى إزالة النجاسة في نفي اشتراط النية وهذا القول فيه نظر، والله الهادي.

فصل:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى فرعها]
وأما ترجيح العلة الراجع إلى فرعها فمعناه أن تكون فروع إحدى العلتين أكثر من فروع الأخرى فتكون أعم من الأخرى، وقد اختلفوا في الترجيح بذلك.
فذهب قوم إلى أن ذلك وجه ترجيح ورجحوا المتعدية على القاصرة بذلك، وهو قول الشافعي وقاضي القضاة.
وذهب آخرون إلى أن ذلك لا يرجح به، وهو قول أصحاب أبي حنيفة وأبي عبدالله وأبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
وكان يحكي أن الأولين احتجوا لصحة مذهبهم: بأنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى، ويمكن أن يجابوا عن ذلك: بأن ثباتها في فروعها وتعلق فروعها بها فرع على رجحانها ليصح استعمالها فكيف يصح أن يكون ترجيحاً لها ومن حق الترجيح أن يؤثر في الأصل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن كثرة فروعها يرجع إلى كثرة مواضعها التي وجدت فيها، وكثرة مواضعها التي وجدت فيها لا تؤثر في أصلها كما قلنا في العمومين إذا كان أحدهما أكثر فروعاً من الآخر، ولأن قولهم هذا يؤدي إلى اعتبار تأثير الفرع في الأصل، وهذا مخالف لطريقة أهل العلم والدلالة فلا يجوز اعتباره.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى الأصل والفرع]
فأما ترجيح العلة بما يرجع إلى الأصل والفرع، وهو أن تكون إحدى العلتين يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه كردّ كفارة إلى كفارة، والأخرى يُرَدُّ بها الفرع إلى ما ليس من جنسه كرد الطهارة إلى الكفارة.
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يرى أن رد الشيء إلى جنسه أولى على كل حال، وذكر أن ذلك مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري وأكثر الشافعية.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يرجح به.
وكان رحمه الله تعالى يحتج لصحة الأول: بأن الشيء أكثر شبهاً بجنسه منه بغير جنسه والقياس يتبع الشبه، فكونه من جنسه يقوي الظن، وإن لم تكن تلك الوجوه علة، قال: وبالجملة إن رد الشيء إلى جنسه أولى.

وعندنا: أن هذا الإطلاق لا يستمر؛ لأن الظن إنما يقوى بقوة صحة العلة الشرعية سواء رجعت إلى الجنس أو إلى غيره، ولا يمتنع أن يكون الراجع إلى غير الجنس أقوى ثبوتاً عند المجتهد فيغلب على ظنه ثبوت حكمها دون الأخرى، فإذاً لا تأثير للجنس والشبه كما يعتبر من الصورة اللازمة الجنس قد يعتبر بالحكم الذي لا يلزمه بل اعتبار الحكم أولى لاختصاصه بالشرع، إذ الحكم الشرعي إذا أمكن اعتباره في أمارة ما طريقه الشرع كان اعتباره أولى، فإذاً لا تأثير لرده إلى الجنس، فلا يكون برجوع أحدها إلى الجنس والحال هذه مرجحاً.
مسألة:[الكلام في أنه لا تتساوى الأمارات عند المجتهد]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز أن تستوي عند المجتهد الأمارات حتى لا يترجح بعضها على بعض أم لا؟
فمنع من ذلك الشيخ أبو الحسين، وقال: لا بد من ترجيح، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى ذلك عن الشيخ أبي الحسين البصري، وأجاز ذلك آخرون، وهو الظاهر من مذهب شيخنا، وهو الذي نختاره.
ثم اختلفوا في الحكم عند الإستواء من قال بجوازه:
فمنهم من قال: تطرح الأمارات المتكافية ويرجع إلى طريق سواها إن وجد وإلا رجع إلى طريقة العقل، وهو قول جماعة من الفقهاء، واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وهو الذي دل عليه ظاهر كلام شيخنا، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: يكون المجتهد عند تساوي الأمارتين مخيراً في حكميهما وهو قول أبي علي وأبي هاشم والقاضي، وينبغي لنا أن نبدأ بالكلام في جواز التساوي، ثم نتبعه بالكلام في حكم المتساوي.

فأما الذي يدل على جواز وقوع التساوي: فلأنه لا مانع يمنع من ذلك لأن الموانع المعقولة من التساوي لا تعدوا طريق العلة أو مكانها أو حكمها، ولا مانع من تجويز تساويهما فيما يرجع إلى كل واحد مما ذكرنا، ولأنا نعلم من نفوسنا تساوي الأمرين الراجعين إلى الأمارات في مثل ذلك لتساوي الأمارات كالأمن والخوف في طريق تريد سلوكه وبنصه لنا على كل واحد من الجائزين منه أمارة حتى يتوقف وينتظر أمراً آخراً، وكذلك في آراء الحروب وغيرها، وأقوى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه إذ لا يصح المنع من العلم بما نجده من نفوسنا.
وكان أبو الحسن يمنع من ذلك الذي هو تساويهما لأمر يرجع إلى حكمهما، وهو أن تساويهما يوجب الرجوع إلى التخيير والرجوع إلى التخيير لا يجوز، قال: لأنه لا لفظ منهما يدل على التخيير، ولأن الأمة مجمعة على بطلانه.
والجواب على هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لا يؤدي إلى التخيير أعني القول بتساويهما، وإنما يؤدي إلى إطراحهما على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله.
والثاني: أن امتناع جواز التخيير عنده بينهما لا يمنع من صحة تساويهما؛ لأن التخيير ليس بمحال في نفسه على القطع فيكون ما أدى إليه قضى باستحالته إذ لو كان محالاً لما صحّ اعتقاده فضلاً عن أن يكون مذهباً لمن اختاره من أهل العلم.
وأما أن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز التخيير في الأحكام؛ فلا سبيل إلى تصحيح هذه الدعوى بل خلافها مأثور من أهل العلم، وأن المروي عن أبي حنيفة التخيير في زكاة الخيل بين دفع دينار عن كل فرس في رأس الحول وبين تقويمه ودفع ربع عشر ثمنه.
وكذلك الحسن البصري قال بالتخيير بين غسل الرجلين ومسحهما مسحاً عميماً لتساوي الأمارات عنده.
وحكى عن عبيدالله بن الحسن العنبري(1)
__________
(1) ـ عبيدالله بن الحسن بن الحصين العنبري، مات سنة ثمان وستين ومائة. انظر: المنية والأمل.

36 / 41
ع
En
A+
A-