وأجاب عنه: بأن مقدّمات هذا القياس معلومة فلا تحتاج إلى غامض فحص، ولكن ليس الأمر كذلك فإن منها ما يعلمه المكلف قبل الخطاب كالقول بأن الحكيم لا يرخص في فعل ما فيه علة الحكم وزيادة، وكالقول بمنافاة الإستخفاف والأذى العظيم(1).
ومنها ما العلم به مقارن للخطاب كالقول بأن الخطاب خرج مخرج التعظيم، فإذا كان الأمر كذلك كانت هذه المقدمات متكاملة للعاقل عند سماع الخطاب، وبها يكمل قياس الأولى، ويمكن في الجواب عن هذا أن يقال: إن من هذه المقالات ما لا يعلمه من يعلم أن هذا الخطاب يوجب المنع من ضربهما والإستخفاف بهما؛ لأن جفاة الأعراب بل أوفى منهم معرفة وأكثر لأهل العلم مخالطة لا يعلمون أن الحكيم سبحانه لا يجوز منه أن يرخص في فعل ما فيه علة الحكم والزيادة، ولا يخطر ذلك ببالهم ولا توابعه، ولو قلت له: لا تنهر والديك ولا تقل لهما أف؛ لعلم أن ظاهر هذا الخطاب يوجب المنع من ضربهما والإستخفاف بهما.
فأما ما ذكره شيخنا من أنك قد تنهى عن الأدون وتأمر بالأعظم ولا تكون مناقضة، فذلك لا يمنع مما قلناه؛ لأن ظاهر الأمر يقضي بأن السارق يستحق الإهانة عند العقلاء فيمنع من أذاه الأدون ويؤمر بالأعلى بهذه المقدمة بخلاف الوالدين؛ فإن الظاهر فيهما عند جميع العقلاء استحقاق التعظيم فيطابق الخطاب فيهما الظاهر، ويستفاد منه ما لا يستفاد من ظاهر الخطاب الآخر؛ فصح ما قلناه.
__________
(1) - هكذا في النسخة وقد ظنن فوق كلمة العظيم بكلمة [التعظيم] ولعله الأولى أي أن الإستخفاف والأذى ينافيان التعظيم.

فصل: في الإستحسان
حكى شيخنا رحمه الله تعالى إكثار المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب، قال: وربما تقل الفائدة في ذكره وجملته أن القول بالإستحسان مذهب أصحاب ح، واختيار الشيخ أبي عبدالله، وظاهر مذهب أصحابنا.
وتكلم شيخنا رحمه الله في تصحيحه في لفظه ومعناه، وحكى الخلاف في ذلك عن الشافعي وبشر المريسي، وقد ظن كثير ممن أنكر الإستحسان أنه حكم بغير دلالة بل هو حكم شهوة النفس واختيارها، وهذا باطل بما نبينه إن شاء الله تعالى، وقد حصل المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة أن الإستحسان هو العدول عن أن يحكم في الحادثة بحكم نظائرها لدلالة تخصها، وهذا مما ظنه مخالفوهم؛ لأنه أليق بأهل العلم، ولأن أهل المقالة أعرف بمقالتهم ومعاضد أسلافهم، ولأنهم قد نصوا على مسائل الإستحسان في الكتب فكان المعلوم فيها ما ذكرنا عنهم.
منها: أنهم ذكروا أنه لا فرق بين قول القائل: جعلت مالي صدقة في سبيل الله تعالى، وبين قوله: جعلت ملكي صدقة في سبيل الله، من جهة القياس، إلا أنهم استحسنوا أن يحمل قوله: جعلت مالي صدقة على الأموال التي تجب فيها الزكاة لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة:103]، فعدلوا عن القياس في هذا الموضع إلى الإستحسان الذي هو موجب الآية.

ومنها: أنه لا فرق بين الحدث المعتمد في الصلاة وبين حدث المسبوق في أن كل واحد منهما يفسد الصلاة من جهة القياس إلا أنهم عدلوا في حدث المسبوق للخبر وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من قاء في صلاته أو رعف فلينصرف عنها وليتوضأ وليبنِ على صلاته ما لم يتكلم(1))).
ومنها: أنه لا فرق في فساد الصوم بين الأكل تعمداً ونسياناً من جهة القياس؛ لأن وجود ما ينافي الصوم لا فرق بين أن يكون حاصلاً من قبلنا أو من قبل الله سبحانه من جهة القياس، إلا أنهم عدلوا عن القياس فيما يوجد منه على سبيل النسيان للخبر وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن أكل ناسياً: ((تم على صومك فإن الله أطعمك وسقاك)).
ومنها: أن القياس يمنع من سلم الموزون في الموزون إذا كان رأس المال ثمناً توجد إحدى علّتي الربا فيه، إلا أنهم جوزوه استحساناً بدليل يخصه وهو الإجماع على جوازه.
__________
(1) - رواه أبو خالد رضي الله عنه عن الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام في المجموع الفقهي (120) بلفظ: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام:" في الرجل تخرج منه الريح أو يرعف أو يذرعه القيء وهو في الصلاة فإنه يتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته، فإن تكلّم استأنف الصلاة، وإن كان قد تشهد فقد تمت صلاته"، وأورده ابن بهران في كتاب جواهر الأخبار والآثار في نواقض الوضوء (1/87)، وقال عقيبه: روى هذين الخبرين في الموطأ، وأخرجه بألفاظ متقاربة في: سنن الدار قطني (1/155) رقم 17، وسنن ابن ماجه(1/385) رقم 1221، وسنن البيهقي الكبرى (1/142) رقم 652.

ومنها: أن القياس كان يوجب جواز عقد السلم وإن وقع الإفتراق قبل قبض رأس المال؛ لأنه ليس من عقود الصرف، وإنما هو عين بدين، ولكنهم عدلوا عن القياس فيه لدلالة الخبر وذلك أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ((نهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم)) والسلم والسلف واحد لا فرق بينهما، وهذا يقتضي افتقار عقد السلم إلى أن يكون رأس المال مقبوضاً ليصح كونه سلفاً.
وهذه الوجوه تدلّ على أنهم لم يعدوا في الإستحسان النص، وطريقة الإجتهاد، والإجماع أو أقوى القياس وهذه الوجوه يجب اتباعها عندنا.
وقد اختلف أهل العلم في حدّه:
فحدّه بعضهم: أنه العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، وهذا الحد يبطل باستحسانهم العدول عن القياس إلى النص كما فعلوه في حكم الصائم، وكذلك استحسانهم العدول عن القياس إلى دلالة الإجماع في حكم السلم، وكاستحسان أصحابنا في فم الهر أنه يطهر من دون الغسل ليوم وليلة؛ فإنهم إنما تركوا القياس في الأفواه للخبر.
وحدّه بعضهم: بأنه ترك طريقة إلى أخرى أولى منها لولاها لوجب الثبات على الأولى، ويقرب من هذا حد أبي الحسن، وهو قوله: إن الإستحسان هو أن يعدل الإنسان عن الحكم في المسألة بمثل ما يحكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى من الأولى يقتضي العدول عن الأول، ويلزم على هذا أن يكون القياس الذي يعدل عن الإستحسان إليه استحساناً.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فيجب أن نعتمد في حده ما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري، وهو: أن الإستحسان ترك وجه من وجوه الإجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه، وهذا الحد صحيح إلا أنه يمكن أن يعترض: بأن من حق الحد أن يكون أظهر من المحدود، وهذا الحد أغمض من المحدود؛ فالصحيح في حده حينئذ أن يقال: الإستحسان هو العدول عن الحكم في الحادثة بحكم نظائرها بدلالة تخصها هي أقوى فيها من الأولى عند المجتهد، وبهذا القدر يتم الكلام في حد الإستحسان ومعناه.

وأما الكلام في تسميته: فاعلم أن الأسامي لا يثمر النزاع فيها إذا قد صحت المعاني؛ لأنها تعود إلى اختيار المسمين، ولا يحسن في ذلك الإعتراض، ويمكن أن يحتج على صحة هذه التسمية بأنهم لما كانوا إذا عدلوا عن الحكم في الحادثة بحكم نظائرها لدلالة تخصها خصت عقولهم بحسن ذلك العدول بل بوجوبه جاز أن يسموا ذلك استحساناً لإفادة ذلك بحسنه، كما أن في الإستقباح لكراهتنا لما يقضي العقل بقبحه؛ فإذا كان الدليل حسناً جاز وصف الإستدلال بأنه استحساناً، وبهذا يتم العلم بمعنى الإستحسان وصحة حده وتسميته.
وأما الكلام في الدلالة على صحة استعماله؛ فلأنه لو لم يصح لكان المانع من صحته لا يخلو من وجوه:
إما أن يكون لأن الأقيسة الشرعية وطرق الإجتهاد لا يجوز أن يرجح بعضها على بعض، وهذا مما قد دل الدليل على فساده بما قد تبين في غير موضع من أن الترجيح معتبر في العلل وطرق الإجتهاد.
وإما أن يكون المنع منه لأن تخصيص العلة غير جائز، وهذا أيضاً فاسد؛ لأنا قد بينا فيما تقدم الكلام في جواز تخصيص العلة الشرعية.
وإما أن يقع الخلاف فيما يجعله المستدل وجهاً للإستحسان ويوجب كونه أقوى من القياس المعدول عنه، والكلام في كيفية وقوعه وصحة وجوهه التي وقع عليها عند مثبته مبين في الكتب؛ لأنه لا يتعلق بأعيان المسائل، وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أن الإستحسان أحد أدلة الشرع على الفروع وأنه لا مانع من إثبات الأحكام به، وكان رحمه الله تعالى يستدل على صحته بأنه ترجيح طريق شرعي على طريق آخر شرعي، والترجيح بين الطرائق الشرعية جائز في الشرع، فجاز الإستحسان.

فصل:[في تعارض العلل وتنافيها]
ذكر شيخنا في تعارض العلل وتنافيها:
اعلم أن وصفنا بأن العلل متعارضة متنافية قد يفهم منه أنها متضادة تضاداً يستحيل معه اجتماعها كتضاد السواد والبياض، وهذا غير ثابت في العلل الشرعية؛ لأن الأكل والكيل والطعم قد اجتمعن في البر، وعلل كل قوم من أهل العلم تحريم التفاضل بواحدة منهنّ.
وإنما التضاد عند أهل اللغة يفيد اختلاف الأحكام، ولا فرق عندهم بين التضاد والإختلاف، وقد يفهم منه أنه لا يجتمع كونها عللاً وذلك ضربان:
أحدهما: أن لا يجتمع كونها مؤثرة في أحكامها لتنافي أحكامها.
والثاني: يرجع إلى أمر سوى تنافي أحكامها، وهو أن لا يوجد في الأمة من علل ذلك الأصل بعلتين بل كل منهم علله بعلة واحدة، فالمتنافي أحكامها لا بد أن يكون أصلها أكثر من واحد أو يستحيل أن يكون أصلها واحداً.
إلا أنه لو كان أصلها واحداً لكان قد اجتمع في الأصل الواحد حكمان متنافيان، وذلك محال، وإذاً ثبت أن أصل العلتين المتنافيتين الحكم إثنان فصاعداً.
مثاله: وجوب النية ونفي وجوبها في إزالة النجاسة بعلة أنها طهارة بالماء ورده إلى التيمم بعلة أنه طهارة عن حدث.
وإن امتنع كونها متضادة لعلة سوى تنافي أحكامها فبأن لا يكون في الأمة من علل ذلك الأصل بعلتين كل منهم علله بعلة واحدة.
مثاله: تعليل التفاضل في البر بكونه مكيلاً ومأكولاً ومقتاتاً، وليس كل منهم علله بتعليل واحدة منها ولا باثنتين منها، ومتى تنافت العلل واشتبه القول في فروعها وجب الرجوع إلى الترجيح، فينبغي أن يتكلم قبل ذلك في غلبة الأشباه.

مسألة:[الكلام في اعتبار الشبه بين الأصل والفرع في القياس]
لا خلاف بين مثبتي القياس في اعتبار الشبه بين الأصل والفرع، والشبه: هو ما يحصل به الإشتباه بين الأصل والفرع.
والإشتباه: هو اشتراك الشيئين في صفة من الصفات ووجه من الوجوه، وهذه الصفة وهذا الوجه هو الشبه.
فمنهم من ذهب إلى اعتبار صورة الفعل وهيئته فيه، وهو طريقة ابن علية فإنه كان يحمل القعدة الثانية على القعدة الأولى في أنها غير واجبة بعلة أنها قعود من الصلاة، ويحمل القراءة فيها على تسبيح الركوع والسجود في أنها ليست بواجبة بعلة أنها ذكر في الصلاة.
ومنهم من لا يعتبر الصورة والهيئة، وإنما يعتبر ما يجري مجرى الصفة اللازمة للأصل نحو كونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو الحكم الذي يخص الفعل نحو كونه عبادة مخصوصة.
وحكى شيخنا أن الشافعي اعتبر الأحكام وذلك في رده(1) لعبد إذا قتله عبد إلى الحر في وجوب القود من حيث كان يقول القود من باب العبادات، والعبادات فيها حكم العبد والحر سواء.
وكان شيخنا رحمه الله يمثله بردة العبد إلى المملوكات في تقدير قيمته بالقيمة بمشابهته لها في أحكام كثيرة إلا أن هذا المثال إنما يصح في باب غلبة الأشباه وسيأتي الكلام فيه.
فالصحيح في تمثيله ما قدمنا، والصحيح عندنا أن نعتبر كل ما له تأثير في الحكم ولا فرق في ذلك بين اعتبار الصورة والأحكام والجنس وغير الجنس وبين غلبة الأشباه وبين غيرها.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أكثر الحنفية، ومذهب كثير من المتكلّمين كأبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، وأبي الحسين البصري، والحاكم، واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام.
والذي يدل على صحته: ما قدمنا من أنه لا يجوز العمل في الشرعيات فيما تقدم فيه العلم إلا بما يقتضي غالب الظن، وإذا كان للشبه تأثير في الحكم غلب في ظننا صحة ذلك الحكم لثبوت ذلك الشبه، وقد تقدم الكلام في أن العمل على غالب الظن في الشرعيات واجب.
__________
(1) - نخ: رَدَّتِه.

مسألة:[الكلام في قياس غلبة الأشباه]
فأما غلبة الأشباه: فهي أن يكون الشبه أقوى من شبه آخر فهو أولى لأن يعلق الحكم به لقوة أمارته، وقوة الأمارات أمر ظاهر لا إشكال فيه، والقياس ينقسم إلى قسمين: قياس معنى، وقياس غلبة الأشباه.
فقياس المعنى: يرجع إلى أصل واحد يشبهه لا يعارضه شبه آخر، وإن عارضه كان خفياً كرد العبد إلى الأمة في تنصيف حد الزنا.
وقياس غلبة الأشباه: هو مثل قياس الشافعي العبد المقتول على الأموال لمشابهة الأموال له في أحكام كثيرة مع مشابهته للحر في أنه متعبد وأنه إنسان إلى غير ذلك.
فهذه الأشباه كما ترى متعارضة كل واحد منها يساوي صاحبه أو يقاربه في قوة الظن عند المجتهد، ويخفي فضل قوة أحدهما على الآخر إلا بعد الإجتهاد، ولا يخلو قياس غلبة الأشباه: إما أن يرجع الحكم فيه إلى أصل واحد أو إلى أصلين.
فإن رجع إلى أصلين جاز أن يكون الفرع واحداً ويشبه بأحد الشبهين أحد الأصلين، ويشبه بالشبه الآخر الأصل الآخر، كما ذكرنا عن الشافعي في العبد المقتول أنه يشبه الحر في تحديد بدله(1) من حيث كان مكلفاً، ويشبه المملوكات في نفي تحديد بدله (2) من حيث كان مملوكاً، ومقوماً في أموال التجارة، ومقسوماً في التركات، وترجع الوصية فيه إلى الثلث، وكالوضوء يشبه التيمم في وجوب النية فيه من حيث كان طهارة عن حدث، ويشبه إزالة النجاسة في نفي وجوب النية فيه من حيث هو طهارة بالماء.
وإن رجعا إلى أصل واحد، فقد يكون الفرع اثنين، وقد يكون واحداً.
فإن كانا اثنين فإن كل واحد منهما يشبه الأصل بأحد الشبهين دون الآخر كالرمان والجص فإن أحدهما يشبه البر من حيث كان مأكولاً وهو الرمان، والآخر يشبهه من حيث كان مكيلاً وهو الجص.
__________
(1) - بمعنى أنه يلزم فيه دية الحر لا غير.
(2) - بمعنى أنه يلزم قيمته بالغة ما بلغت دون النظر إلى الدية.

وإن كان الفرع واحداً فهو كالأرز المشبه البر من حيث كان مأكولاً، ومن حيث كان مكيلاً، ومن حيث كان مقتاتاً، فيقع النظر في أي هذه الوجوه أولى بالتأثير فتكون علّة الحكم فما لم تدل عليه أمارة قضي بفساده، وما تساوى في دلالة الأمارات عليه عدل به إلى الترجيح، وهذان القياسان المتقدمان عندنا في الصحة سواء؛ لأن كل واحد منهما يستفاد به الحكم ويرجع في تأثير علته إلى غالب الظن المعتبر في الشرعيات على سواء، فكان حكمهما ثابتاً في الشرع على سواء، وإن كان أحدهما أغمض من الآخر فلا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر إذ هما يقعان في أمرين مختلفين.
ثم ينبغي أن نذكر وجوه الترجيح كما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى ليكون من أراد الترجيح عرف علته وحكمه.
فصل: في حدِّ الترجيح وفائدته وذكر أقسامه
اعلم أن الترجيح هو الشروع في تقوية إحدى الطريقتين الشرعيتين على الأخرى، وذلك لا يصح الترجيح إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفردت كل واحدة منهما؛ لأدت إلى الحكم؛ لأنه لا يصح ترجيح طريق على ما ليس بطريق.
وأما فائدة الترجيح: فهي أن يُقَوِّي الظن الصادر عن إحدى الأمارتين عند تعارضهما ولذلك لا يصح الترجيح بين الأدلة لأنها لا تتعارض؛ لأن تعارضها موقوف على تنافي مدلولاتها، وفي تعارضها ثبوت مدلولاتها على تنافيها، ولأن الأدلة لا تقتضي الظن فلا يمكن القول بأن أحد الظنين أقوى، ولأن الترجيح يقتضي التمسك بما يثبت فيه الترجيح، واطراح ما لم يثبت فيه الترجيح، والدليل لا يجوز إطراحه.
فأما قسمة ترجيح العلة: فهو ينقسم إلى ما يرجع إلى طريقها، وإلى ما يرجع إلى حكمها، وإلى ما يرجع إلى مكانها، وهو الأصل والفرع، وإلى مجموعها، وسيأتي الكلام في كل واحد من هذه الأقسام في أثناء المسائل بمشيئة الله تعالى وعونه وهذا الفصل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه في أصول الفقه فأوردناه كما ذكره.

مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى طريقها]
أما ترجيح إحدى العلتين على الأخرى بما يرجع إلى طريقها: فهو أن تكون طريق وجود أحدهما أقوى من طريق وجود الأخرى في أصلها أو في فرعها، أو تكون طريق إحدى العلتين في الأصل أقوى من طريق صحة الأخرى في أصلها.
وإنما تكون طريق وجودها في الأصل أو الفرع أقوى من طريق وجود العلة الأخرى بأن يكون أحدهما يعلم وجوده بالحس والصورة نحو كون البر مكيلاً أو مطعوماً، وكون الأرز مكيلاً أو مطعوماً.
ويكون وجود الأخرى معلوماً بالإستدلال نحو أن يكون حكماً شرعياً كقولنا طهارة عن حدث وغير ذلك.
أو يكون وجود أحدهما معلوماً بدليل ووجود الأخرى مظنوناً بأمارة، أو يكونا جميعاً مظنونين بأمارتين غير أن أمارة وجود أحدهما أقوى ولا شكّ أن ذلك وجه ترجيح؛ لأن الوصف لا يكون علة في الأصل ولا في الفرع إلا وهو موجود فيهما فإذا كان علمنا أو ظننا لوجود وصف فيهما أقوى، من علمنا أو ظننا بوجود الوصف الآخر، فقد صار لكونه علة حكم الأصل والفرع أقوى من علمنا أو ظننا لكون الآخر علة حكم الأصل والفرع.
وأما التي يكون طريق كونها علة حكم الأصل أقوى: فهي التي يكون طريق كونها علّة حكم صريح نص، ويكون طريق الأخرى تنبيه نص، وطريق الأخرى الإستنباط، وتكون أمارة إحداهما أقوى من أمارة الأخرى، وإنما كان ذلك ترجيحاً لأن ما قوي طريقه قوي الظن له والإعتقاد لصحته، فإذاً أقسام هذه المسألة تنحصر في أقسام صورتها أن تقول: لا تخلو طريق العلة: إما أن يكون معلوماً أو مظنوناً.
فإن كان معلوماً فلا يخلو: إما أن يعلم بالمشاهدة وما هو في حكمها أو بغيرها.
فإن علم بغير المشاهدة فلا يخلو: إما أن يكون بالنص أو الإجماع؛ فإن علم بالنص فلا يخلو إما أن يفتقر إلى الإستدلال أو لا يفتقر إلى الإستدلال.

35 / 41
ع
En
A+
A-