وإن كانت أمارة على الحكم وعلى وجه المصلحة فالأدلة والأمارات لا تفسد بالإتفاق غير مدلولها، وإن قال بالثاني لم يصح أيضاً، وذلك لأن العلة الشرعية إذا دلت عليها الأمارة غلب على ظننا أنها وجه المصلحة، وإن لم تتعد؛ لأن وجوه المصالح قد تختص نوعاً واحداً، وقد تتعداه كما نقوله في وجوه القبح والحسن، فهذا جل ما أتى به شيخنا، ومثل المسألة بتعليل الشافعي في الدراهم والدنانير بكونها ثمنين للأشياء.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أن استنباط العلل الشرعية والعمل بمقتضاها في الأصول إنما علم حسنه ووجوبه بفعل من الصحابة وإجماعهم على ذلك فلا يجوز أن نعتبر فيه غير طريقهم، ولا نسلك غير منهاجهم؛ لأن خلاف ذلك يكون اتباعاً لغير سبيلهم ومخالفة لهم، وذلك لا يجوز؛ لأن المعلوم من حالهم أنهم لما عللوا الأصول واستنبطوا العلل ليجمعوا بها بين الفروع وبينها فيجرون عليها أحكامها، فمن جوز أن ينتزع من الأصل وصفاً لا يتعدى إلى فرع يكون قد سلك في القياس طريقة لم يسلكها الصحابة، ولم تؤخذ عنهم ويكون ذلك إثباتاً لما لم يثبتوه ويتعرى عن غرضٍ مثله، وذلك لا يجوز من حيث أنه يكون عبثاً والعبث قبيح فلا يجوز فعله، فلو جاز والحال هذه لجاز تعليل القرامطة والباطنية؛ لأنهم يعللون أصول الشريعة كالصلاة وصيام شهر رمضان والحج وغير ذلك أنها لا تتعدى ولا يريدون به إثبات حكم في الفرع، وذلك لا يجوز ولا يلزم مثل ذلك في العلة الثابتة بالنص والإجماع أو دلالة العقل؛ لأنها إذا كانت معلومة استفيد منها أن المصلحة في حكم الأصل متعلقة بها، وهذه الفائدة تخرج التعليل عن كونه قبيحاً من حيث كان لا يجري والحال هذه مجرى العبث، والمستنبطة بخلاف ذلك؛ لأنها إذا كان طريق ثبوتها الظن دون العلم لم نستفد منها هذه الفائدة، فإذا عريت عن هذه الفائدة وعن فائدة استجلاب حكم الفرع كان التعليل عبثاً ولا فائدة فيه.

وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى أن تعذر تعديها وإجراء الحكم عليها يكون فائدة يخرجها عن العبث وذلك لا يصح؛ لأن تعذر تعديها هو بعينه الموجب لتعريها عن الفائدة فكيف يكون هو الفائدة؟ هل هذا إلا كقول من يقول: إن تَعَرِّي الشيء عن غرض مثله وتميزه بذلك فائدة تخرجه عن باب العبث، فكما أن ذلك لا يجوز كذلك هذا.
فأما ما ذكره رحمه الله تعالى من أن ذلك لا يخلو، إما أن يكون المنع منه لأنها لم تتعد إلى فرع مختلف فيه، أو لأنها لم تتعد إلى فرع أصلاً، ثم فرع الكلام على هذين النوعين، فقد بيّنا أن المنع من ذلك بغير هذين الوجهين، وهو أن القائل بذلك سلك غير طريق الصحابة في القياس، وذلك لا يجوز، ولأن العلة التي لا تتعدى يمكن الإستدلال بها على نقيض ما دلت عليه وقلبها وذلك يقضي بفسادها على ما يأتي بيانه.
مسألة:[الكلام في اختلاف العلة والحكم تغليظاً وتخفيفاً]
اعلم أن العلة قد تكون حكماً شرعياً ويكون حكمها أيضاً شرعياً؛ فإذا اختلف موضوعها، وموضوع حكمها، فكان أحدهما مبنياً على التغليظ، والثاني على التخفيف، هل يكون ذلك أمارة تقتضي أن لا تعتبر أحدهما بالأخرى أم لا؟
فالأولى عندنا: أن الدليل إذا قام على صحتها وأمكن العمل باشتراك الفرع والأصل في علة الحكم، وأنها مؤثرة فيهما معاً جاز اعتبار أحدهما بالآخر، وإنما الكلام في أن الدليل على ذلك هل يوجد أم لا؟ وذلك يخرج إلى كشف المسائل والكلام فيه ما قلنا.
مسألة:[الكلام في أنه هل يجوز إثبات الأسامي بالقياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز إثبات الأسامي بالقياس أم لا؟
فمنهم من جوزه مطلقاً، وذلك قول جماعة من أصحاب الشافعي منهم أبو العباس بن سريج.
ومنهم من منع من ذلك على الإطلاق وذلك طريقة أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من فصل القول في ذلك، فقال: لا يجب ابتداء الأسامي بالقياس.

فأما إذا علم أن أهل اللغة وضعوا اسماً لمعنى أو صفة ولم يخصوا به نوعاً أو جنساً، ثم وجد ذلك المعنى في موضع آخر جاز أن يقاس عليه، ولا يجوز إثبات الاسم اللغوي قياساً على الشرعي، وذلك هو قول جماعة من المتكلمين منهم القاضي وأبو رشيد وأبو الحسين البصري، والحاكم واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه لا بد للقياس من أصل يرجع إليه في تصحيح حكم الفرع وإلا لم يكن قياساً، والإبتداء في إثبات الأسامي بالقياس لا يصح؛ فإذا علم أن أهل اللغة وضعوا اسماً لمعنى أو صفة كما شرطنا أولاً، ثم وجد ذلك المعنى على الوجه الذي ذكرنا فإنه يجوز أن نقيسه عليه ويجرى عليه ذلك الاسم، كما نقول فيمن علم من أهل اللغة أنهم سموا ما حلَّه البياض من الأجسام أبيض لمجرد حلول البياض فيه، فإذا زال البياض عنه لم يسموه أبيض؛ فإنا إذا وجدنا جسماً غائباً منهم والبياض حال فيه، فإنا نسميه أبيض قياساً على تسميتهم.
فأما إثبات الأسماء اللغوية بالأقيسة الشرعية لإثبات الأحكام الشرعية فذلك لا يجوز، لأن اللغة متقدمة على الشرع فلم يأت الشرع إلا بعد تقررها، بل لم يتوصل إلى معرفة الأسامي الشرعية إلا بعد معرفتها؛ لأن الله سبحانه خاطبنا بها فلو أثبتناها بالأقيسة الشرعية لكنا قد جعلنا الفرع على ثبوت الشيء أصلاً فيه، وذلك لا يجوز كما لا يجوز أن نقيس البر على الأرز في التحريم.
وأما إثبات الأسامي الشرعية بالقياس فجائز، كما قدمنا في إثبات الأسامي اللغوية بالقياس على الوجه الذي ذكرنا.
ومعنى ذلك: أن نعلم أن أهل الشرع سموا مسمى باسم مخصوص باختصاصه بصفة، ونجد تلك الصفة ثابتة في غيره فنسميه بذلك الاسم قياساً.

ومثاله: أن يعلم أنهم سموا غسل أعضاء مخصوصة على بعض الوجوه وضوءاً، فنجد على تلك الصفة والوجه غسلاً في مكان آخر فنسميه وضوءاً، ويجري عليه حكم الوضوء.
فأما أبو العباس بن سريج فإن كان منع من إثبات الأحكام في الفروع بالعلل فذلك باطل؛ لأنّا قد بينا صحة إثبات الأحكام في الفروع بالعلل، بل ذلك هو الصحيح ألا ترى أنا نعلل تحريم الأرز بدليل أنه مكيل جنس ولا نعتبر ذلك بتسميته براً ولو اعتبرناه لما أفاد.
وإن أراد أن العلل قد يتوصل بها إلى الأسامي في بعض المواضع ثم يتوصل بتلك الأسامي إلى الأحكام وتكون العلل شرعية والأسماء لغوية كما يقول أبو العباس: إني أُثبت اسم الزنا بوطي البهيمة بعلة أنه وطي غير مستباح، فوجب أن يسمى زنا كوطي الآدمية ثم أوجب الحد بالدلالة الشرعية، وهي قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وأُثبت اسم الخمر المطبوخ المسكر بعلّة ما فيه من الشدة المطربة الموجبة للسكر، ثم أستدل على تحريمه بالنص الوارد بتحريم الخمر، وأثبت كون الشفعة تركة قياساً على سائر التركات ثم أستدل على كونه موروثاً بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12].
والذي يدل على بطلان ما ذهب إليه أبو العباس في هذه المسائل: ما قدمنا من أنه لا يجوز إثبات الأسامي اللغوية بالقياس إلا إذا علمنا أنهم قصدوا بذلك الاسم مسمى يختص بمعنى أو صفة، ثم وجدنا ذلك المعنى في غيره، فإنا نقيسه عليه.

فأما إذا وجدناهم سموا مسمى لمعنى من المعاني إذا كان من قبيل مخصوص فلا يجوز القياس عليه، ألا ترى أنهم سموا ما اجتمع فيه البياض والسواد أبلق، إذا كان من جنس الخيل، فلا يجوز لنا تسمية الغراب الذي يجتمع فيه البياض والسواد أبلق، ولا الثور؛ فإذا كان ذلك كما ذكرنا لم يمتنع أن يسموا العصير التي دون المطبوخ خمراً دون المطبوخ، وكذلك لا يمتنع تسميتهم للوطي زنا إذا كان في حيوان مخصوص كالآدميين، وكذلك لا يمنع تسميتهم للثابت من الحقوق تركة عيناً أو ديناً دون ما لم يثبت، والمثبت بهذا القياس والحال هذه مثبت للحكم بغير دلالة، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في أن إثبات الحكم بالقياس يصح وإن لم يرد النص بإثباته]
ذهب الشيخ أبو هاشم إلى أنه لا يجوز إثبات الحكم بالقياس إلا فيما ورد النص بإثباته فيه على جملة أو تفصيل، فيكون القياس تفصيلاً لتلك الجملة كما نقوله في الجد لو لم يكن مذكوراً بالنص هل كان يجوز توريثه بالقياس مع الأخ، وكذلك الأخ لو لم يكن وارثاً بالنص هل كان يصح توريثه بالقياس مع الجد أم لا؟
فعند أبي هاشم: لا يصح.
وذهب قاضي القضاة إلى أن إثبات ذلك بالقياس يصح، وإن لم يرد به النص مجملاً ولا مفصلاً، وهو مذهب الفقهاء، واختاره الشيخ أبو الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن الأدلة التي تدل على وجوب استعمال القياس لم تفصل بينما تقدمه النص وبين ما لم يتقدمه نص، والفصل بغير دلالة لا يجوز، ولا دلالة على الفصل بين ذلك لا شرعية ولا عقلية، ولأن الصحابة أجمعت على استعمال القياس فيما لم يتقدم فيه النص بجملة ولا تفصيل، وذلك ثابت في قياسهم في مسألة الحرام، ولم يتقدم فيه حكم شرعي راموا تفصيله بل أثبتوا بمقايستهم أصل الحكم، وكذلك القول في كتابة الطلاق، وقد قاس مثبتوا القياس الأرز على البر وإن لم يتقدم فيه نص بتحريم إلى غير ذلك.

مسألة: في قلب العلة والكلام في معناها وحكمها
فمعنى قلب العلة: أن تعليل المعلل الحكم بعلة يروم إثبات حكم الفرع بها قياساً على الأصل فيعتمد النافي لذلك الحكم فيقلب تلك العلة بعينها على المعلل الذي هو خصمه، ويثبت بها نقيض ذلك الحكم، وذلك كأن يعلل الحنفي وجوب الصوم على المعتكف، بأن الإعتكاف وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلا بد من ضم أمر آخر إليه وهو الصوم، دليله الوقوف بعرفة، فيقول الشافعي علتي علتك ودليلي دليلك، والذي يدل على أن الصوم غير واجب على المعتكف أنه وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلم يكن من شرطه الصوم، دليله الوقوف بعرفه.
واعلم أن كل قياس أدى الإستدلال به مع اعتبار علته وشرطه إلى نقيض حكمه الذي فرعه منه المستدل، أو إلى المنع من صحته فإنه يجب القضاء بفساد ذلك القياس غير أن ذلك لا يتأتى في القياس الصحيح أبداً، وإنما يتأتى هذا القلب في هذه المسائل؛ لأن عللها لن تعتبر صحتها بتأثيرها في الأحكام فأمكن أن تقلب.
فأما في العلل التي تؤثر في الحكم فإنه لا يصح أن يثبت لها نقيض حكمها فيما يعلم على التفصيل.
فأما فيما يعلم على الجملة فقد يمكن أن يفسر أحد الخصمين الجملة بنقيض ما يفسرها الخصم الآخر، كأن يقول الحنفي: الإعتكاف ليس في مكان مخصوص على وجه القربة فلا بد من اعتبار معنى ما يضم إليه هو الصيام دليله الوقوف بعرفة، فيقول الشافعي: الإعتكاف وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلا بد من اعتبار معنى ما هو إليه دليله الوقوف بعرفة.
مسألة: في تخصيص العلة
اعلم أن العلة قد يوجد معناها في فرع من دون حكمها، وقد يوجد لفظها ومعناها في فرع من دون حكمها، فالأول هو المعبر عنه بكسر العلة، وذلك كأن ترفع وصفاً من أوصاف العلة ظناً أنه لا تأثير لذلك الوصف، وأن الذي يجوز أن يؤثر في الحكم ما عداه ثم ينتقض ما عداه.

مثاله: أن يعلل معلل وجوب صلاة الخوف بأنها صلاة يجب قضاؤها كصلاة الأمن، فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم فيرفعه من أوصاف العلة، ثم ينتقض ذلك بصوم الحائض، فإنه يجب قضاؤه وليس بواجب وينبغي للمعلل إذا أراد أن يجيب عن ذلك أن يبين أن لكون العبادة صلاة في الحكم المعلل تأثيراً، وأن الصلاة تخالف الصوم في هذا الباب.
والكلام في هذه المسألة ينبني على أن هذا الوصف المتروك إن كان له تأثير في الحكم وجب ضمه لتصحيح العلة، وإن لم يؤثر في الحكم لم يكسر العلة إطراحه.
فأما العلة إذا انكسرت بأمر يختص الفرع ولا يمكن تصحيحه بما هو موجود في الأصل، فإن ذلك يقضي بفساد العلة لا محالة؛ فإن أمكن تصحيح العلة من نفسها بذكر وجه من وجوهها قضي بصحتها وإلا كان كسرها مؤذناً بفسادها.
مسألة:[الكلام في نقض العلة]
وأما نقض العلة وهو المعبر عنه بتخصيص العلة، فقد اختلف أهل العلم في جواز تخصيص العلة على ثلاث فرق:
فذهب المتقدمون من أصحاب أبي حنيفة إلى جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة وهو قول مالك، ونصره الشيخ أبو عبدالله، وحكاه عن أبي الحسن، واختاره السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام، وظاهر كلام شيخنا رحمه الله يقضي بأنه كان يعتمده ويرجحه، وإن كان قد احتج للمذهبين جميعاً، وربما يجري في كلام ش، وربما يجري خلافه، قال شيخنا: وهو الأظهر وأحسب أنه يعني المذهب الأول.
وذهب قوم إلى أنه يجوز تخصيص العلة المنصوصة ولا يجوز تخصيص العلة المستنبطة وهو قول ش، وهو مذهب طائفة من أصحابه.

وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة، وذلك هو قول جماعة من أصحاب ش، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، وتأولوا مسائل الإستحسان على وجوه، وهو اختيار القاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وعمدتهم: أن كون العلة علة يوجب إطراحها وجريانها في فروعها فإذا وجدت في بعض الفروع ولم يوجد حكمها انتقض كونها علة ووجب القضاء بفسادها لذلك.
واختيارنا هو المذهب الأول.
والذي يدل على صحته: أن العلل الشرعية ليست بعلل حقيقية موجبة للأحكام؛ لأنها قد كانت موجودة قبل الشرع مع انتفاء تلك العلة، فلو كانت عللاً حقيقية لما وجدت معلولاتها مع انتفائها كما نعلمه في العلل العقلية، وإنما هي أمارات يحصل عندها الظن بالأحكام، والأمارات لا تمنع أن يقع في إيجابها للظن تخصيص بأن يقترن ببعضها أمر يمتنع أن يحصل لأجله من الظن ما يجب حصوله عند أمثاله من الأمارات، وهذا أمر يعلمه العاقل من نفسه، ألا ترى أن الأحوال التي يختص بها زيد من ظاهر الستر والعفاف والأمانة تكون أمارة لنا في وقوع الظن بعدالة من يزكيه، ثم يحصل في هذه الأمارة تخصيص حتى لا يتبعه الظن في بعض الأحوال، إذ لو قيل لنا في بعض من يزكيه إنه ابنه، أو ذو رحم منه، أو من بينه وبينه مودة وخلطة، فربما لم يحصل عند تزكيته له من الظن ما حصل من التزكية لغيره من الأجانب، فقد ثبت بهذه الجملة أن حصول الظن عند الأمارات يجوز أن يحصل فيه تخصيص، فلا يقع من الظن عند أمارة مخصوصة ما يقع عند أمثالها.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يمثل ذلك بما نعلم أنا إذا رأينا مركوب القاضي على باب الأمير فإن ذلك أمارة قوية لكون القاضي في دار الأمير، وقد نرى مركوب القاضي على باب الأمير فلا نظن كونه في دار الأمير، بأن نرى المركوب مع غلام غيره، فيجوز أنه استعاره.

فإن قيل: إن تعليلكم هذا يوجب أن العلة ليست مجرد الأمارة بل هي الأمارة مع تعريها من الأمر المانع من وقوع الظن عند أمثالها، فالموضع الذي توجد فيه الأمارة مع فقد الظن يعلم أنها لم تكن أمارة من حيث اقترن بها ما يمنع من كونها أمارة للظن، فلا يكون قد حصل في الأمارة تخصيص بهذا، وهذا يؤدي إلى أن القول بتخصيص العلة غير صحيح، وأن مذهب الجميع في ذلك واحد.
قلنا: إن الظن الذي يحصل عند وجود أمثال هذه الأمارة يتعلق بمجردها من غير أن يخطر بالبال حال المانع، وإنما يؤثر حال المانع في وقوعه عند بعضها، فمنع من أن يوجد، وهذا يبين أن المانع إنما يؤثر في انتفاء وقوعه عند بعض الأمارات في بعض الحالات؛ فأما وقوعه حيث يقع فإنما يتعلق بمجرد الأمارات، ونحن نعلم ذلك من أنفسنا ولا يمكنهم أن يقولوا إن تجويز المانع يجب أن يقدح في وقوعه عندنا؛ لأنا نعلم أن هذا التجويز لا يمنع منه كما أن العلة الثابتة بالطريقة التي تثبت بها العلل لا يقدح في الظن بكونها علة، وتعليق الحكم بها تجويز وجوب علة أخرى تترجح عليها، وإن كانت لو وجدت لم يحصل الظن بحكم العلّة الأولى، وإذا ثبت ما ذكرنا لم يمتنع أن يتعلل الحكم الشرعي بعلة ثم يقترن بمثلها في بعض المواضع ما يخرجها من كونها علة لمانع يخص ذلك الموضع.
مثال ذلك: ما يقوله أصحاب أبي حنيفة إنه إذا ثبت أن ما لا يكون حدثاً خارج الصلاة لا يكون حدثاً، اقتضت هذه الأمارة الظن أن القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء، فمتى ورد نصّ يخصّ القهقهة بأنها ناقضة له حصل عندها من الظن ما لا يحصل عند تجردها، وهذا يبين أن تخصيص العلة الشرعية جائز.
وكان شيخنا رحمه الله يمثل ذلك: بأنّا نعلم أن تحريم بيع الموزونات ببعض نسأ كالحديد والنحاس وما شاكلهما مع الوزن، ويجوز مع ذلك بيع سائر الموزونات بالذهب والفضة نسأ مع ثبوت العلة فيهما وهو الوزن.

مسألة:[الكلام في فحوى الخطاب هل هو قياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في فحوى الخطاب هل هو قياس أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنه قياس وذلك هو قول الشيخ أبي الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نصره في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه.
وذهب جماعة إلى أنه ليس بقياس، وهو قول القاضي والحاكم.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، هل المنع من ضربهما وشتمهما يثبت بالقياس أم لا؟
فعند أبي الحسين ومن طابقة كما قدمنا أن ذلك لا يثبت إلا بقياس الأولى؛ لأنه إذا منع من التأفيف لكونه إذىً ينافي التعظيم فلا شك في كون شتمهما وضربهما أبلغ في باب الإستحقاق ومنافاة التعظيم من التأفيف بهما، فإذا منع من الأدون كان المنع من الأعلى في هذا الباب أولى.
وذكر قاضي القضاة أن المنع من ضربهما معقول من ظاهر اللفظ لا من جهة القياس، ولا بد من اعتبار عادة أهل اللغة في ذلك، واختيارنا في هذه المسألة ما ذكره القاضي.
والذي يدل على صحته: أن القياس نوع من الإجتهاد في عرف العلماء، وذلك يفيد كلما لم يحصل العلم به أو الظن إلا باعتبار العلل، ورد الفروع إلى الأصول وملاحظة الأشباه كما قدمنا، ولا يريدون بذلك ما يمكن أن يسلك فيه طريقة القياس؛ لأن ما به أصل من الأصول إلا ويمكننا أن نسلك فيه طريقة القياس كالصلاة والصيام وغيرهما.
فطريقة القياس وإن أمكن استعمالها فيه كان قياساً والعلم بالمنع من ضربهما حاصل لكل عاقل من أهل اللغة العربية سمع النهي عن التأفيف بهما ونهرهما من رد الفرع إلى الأصل واعتبار الشبه والعلة الرابطة بينهما.
وقد كان شيخنا رحمه الله يحكي أن القاضي احتج للمنع من ذلك بأن هذا القبيل لو كان من باب القياس لما علمه إلا من يعلم القياس وسلك طريقته دون من لا يعتبر القياس من نفاة القياس وغيرهم من المهملين، ومعلوم خلافه.

34 / 41
ع
En
A+
A-