مسألة:[الكلام في أن طرد العلة لا يدل على صحتها]
طرد العلة لا يدل على صحتها عند شيوخنا، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ذلك، ويحكي أنه المحكي عن أبي الحسن والشيخ أبي الحسين البصري.
وقال بعض الشافعية طردها يدل على صحتها، ومعنى طردها عندهم هو جريانها في فروعها.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن جريانها في معلولاتها هو فعل المعلل، فكأن قائل هذا القول قال الذي يدل على صحة علتي أن أجري حكمها في أمثالها، ولا شك أن إجراء حكمها في أمثالها لا يدل على صحتها؛ لأن لخصمه بهذه الطريقة أن يقول: إن علتك هذه فاسدة؛ لأني لا أجري حكمها في أمثالها.ودليل آخر: وهو أن جريان العلة في فروعها إنما يصح بعد ثبوت كونها علة على ما شرطنا أولاً بالدلالة، فإذا لم يكن يصح إلا بعد صحة العلة فكيف تكون دلالة على صحّتها، ولأنه لو كان لا يقضى بصحة الحكم إلا بجريانها ولا تجري إلا بعد جريانها ولا تجري إلا بعد صحتها، وقف كل واحد منهما على صاحبه، وذلك يوجب أن لا يصح واحد منها، ويؤدي إلحاقها بباب المحال، فثبت أن الإستدلال على صحة العلة بجريانها لا يجوز.

فصل:[في أن الوصف لا يصح كونه علة حكم الأصل إلا والحكم موجود]
وذكر شيخنا رحمه الله أن الوصف لا يصح كونه علة حكم الأصل إلا والحكم موجود فينبغي أن ينظر القايس هل الحكم موجود في الأصل أم لا؟ فإن كان الحكم موجوداً في الأصل صحّ كون الوصف علّة في الحكم سواء سلم له خصمه أو نازعه؛ لأن تسليم الخصم لا يدل على صحة المذهب ما لم تقم عليه دلالة.
فأما إذا كان الحكم موجوداً في بعض الأصل دون بعض لم يمكن القايس رد الفرع إلى جميع الأصل، وإنما يرده إلى ما يثبت فيه الحكم دون ما عداه إلا أن يمنع من ذلك مانع من إجماع وغيره.
مسألة:[الكلام في أن التعليل بمجرد الإسم لا يجوز]
لا خلاف بين أهل العلم أن تعليل حكم الأصل بمجرد الاسم لا يجوز كمن يعلل تحريم الخمر بأن العرب سمتها خمراً؛ لأنه لا تأثير لذلك في التحريم؛ لأن الأسامي تابعة للمواضعة التي اختارها المتواضعون، والتحليل والتحريم إنما يقعان للمصالح والمفاسد، ولا يجوز كونها تابعة لاختيار الخلق، ويجوز تعليق التحريم بكونه خمراً ويراد بذلك فائدة قولنا خمراً لأن المرجع بذلك إلى صفات عليها الخمر يصح تعليق الحكم بها عند المجتهد.
وقال شيخنا رحمه الله تعالى: ويجوز تعليل الحكم بحكم شرعي لأنه لا يمتنع أن يكون لبعض الأحكام الشرعية تأثير في بعض فيبنى على ذلك حكم آخر نحو قولنا: طهارة مزيلة للحدث وغير ذلك، ولا يمتنع أن يكون المؤثر في الحكم مجموع صفات كثيرة، كما لا يمتنع أن يكون المؤثر فيه صفات قليلة، وذلك ثابت؛ لأنه لا يمتنع أن يكون لكل واحدة من الصفات قسط من التأثير في قوة ظن المجتهد، كما أن لخبر كل واحد من المخبرين قسط من التأثير في تقوية ظنه، بل في حصول العلم به، ولأن ذلك إذا جاز في القليل جاز في الكثير.

[الكلام في تعليل الحكم بجميع صفات الأصل]
فأما تعليل الحكم بجميع صفات الأصل فقد اختلفوا فيه.
فمنهم من قال بجواز ذلك وصحته.
ومنهم من منع منه.وحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف المانعين منه.
فمنهم من منع منه لأنه يوجب أن لا تتعدى العلة وذلك هو قول أبي الحسن وأبي عبدالله.
ومنهم من منع من ذلك لوجه آخر، وهو أنه لا يجوز أن يكون لجميع أوصاف الأصل تأثير في ثبوت الحكم؛ لأنه يجوز أن يكون في أوصاف الأصل ما لا تأثير له يتعلق به الحكم، وذلك هو قول قاضي القضاة وأبي الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه: أن جميع أوصاف الأصل لا تخلو إما أن تكون وجه المصلحة أو دلالة عليها، ولا يجوز تعليق جميع أوصاف الأصل بالتأثير فيهما لأنا نعلم أنه لا تأثير لكون الخمر حمراء أو بيضاء أو جسماً أو مطعوماً على الإطلاق في تحريمها من جهة الشرع ولا من جهة العقل، وما لم يدل عليه أحد هذين الأصلين قضي بفساده.
فأما منع من منع من ذلك لأنه يؤدي إلى أن لا تتعدى العلة، وهو أبو عبدالله وأبوالحسن فلا يصح؛ لأن التعليل بالعلة التي لا تتعدى يصح المنع من التعدي، وتلك فائدة ظاهرة لا يفيدها النص، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أوصاف العلة إذا كان بينها وصف لا تأثير له]
وإذا كان بين أوصاف العلة وصف لا تأثير له في الحكم حتى لو عدم في الأصل لم يعدم الحكم، فإنا نعلم بذلك أنه لا يجوز كون العلة بمجموع تلك الأوصاف بل ينبغي أن يرفض منها ذلك الوصف؛ لأنه لو وجب أن يثبت في العلة ما لا يضر عدمه لوجب إثبات ما لا نهاية له من الأوصاف ومعلوم خلافه، فإن انتقضت العلة بفرع من الفروع متى أزلنا ذلك الوصف عن العلة فسدت العلة ولا يجوز ضم الوصف إليها لتسلم من النقض.

قال شيخنا رحمه الله تعالى: لأن العلة يجب أن يعلم صحتها أولاً؛ لأن حكم الأصل متعلق بها لأنها مؤثرة فيه، ثم تجري في الفروع، فإذا كان وصف منها غير مؤثر في حكم الأصل لم يجز كونه في جملة علته فوجب إسقاطه، وإذا سقط وانتقض ما عداه لم يجز كون مجموع الأوصاف علة، ولا ما عدا ذلك الوصف.
[الكلام في عكس العلة]
ويفارقُ عدمُ التأثير عكس العلّة، فإن عكس العلة لا يوجب فسادها عندنا.
ومعنى عكس العلة: هو أن يوجد حكمها في بعض المواضع مع عدمها وليس ذلك بممتنع؛ لأن العلة إن كانت وجه المصلحة فقد ثبتت المصلحة لوجه آخر كما أن الشيء يقبح لوجه ويقبح لوجه آخر، وإن كانت أمارة لذلك فقد يكون لثبوت الحكم أمارتين وأكثر من ذلك.
فأما عدم التأثير: فهو لأن لا يؤثر وصف من الأوصاف في الحكم، ويكون التأثير لغيره فلا يجوز ضم ما لا تأثير له إلى ما له تأثير.
مسألة:[الكلام في الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول هل يقاس عليه أم لا؟]
الخبر إذا ورد بخلاف قياس الأصول؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس في ذلك.
فمنهم من قال: يجوز القياس عليه على أي وجه ورد، وهم الشافعية، وجماعة من الحنفية، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، وقال به القاضي في بعض المواضع، واختاره السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام.
وذهب السيد الإمام المؤيد بالله قدس الله روحه إلى أنه لا يجوز القياس عليه.
وذهب أبو عبدالله وأبو الحسين إلى أنه لا يجوز القياس عليه إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يرد معللاً كما روي في الهر ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
والثاني: أن يحصل الإتفاق على تعليله وإن اختلف في علته.
وثالثها: أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقاً للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفاً للقياس على أصول أخر.

وقال محمد بن شجاع البلخي: إذا كان الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول غير مقطوع به لم يجز القياس عليه، فاقتضى قول هذا أن الخبر المقطوع به وإن ورد بخلاف قياس الأصول جاز القياس عليه، وما ذكره قاضي القضاة في موضع آخر وأبو الحسين البصري أنه إن كان مقطوعاً به جاز القياس عليه، وإن لم يكن مقطوعاً به ولم تكن علّته ثابتة بنص ولا تنبيه نص فقد اختلفا في ذلك.
فذهب قاضي القضاة إلى أنه يجوز القياس عليه كما يجوز القياس على سائر الأصول.
وذهب الشيخ أبو الحسين إلى أن ذلك موضع اجتهاد.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى تصحيح المذهب الأول، ويجوز القياس على الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول سواء كان مقطوعاً به أو غير مقطوع، وسواء اتفقوا على العلة أم لم يتفقوا، وإن لم يوافق قياسه قياس بعض الأصول، وإن لم يرد معللاً، ولا منبهاً على علته، وكان يستدل على ذلك: بأن الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول مشاركاً للأصول فيما لأجله جاز القياس عليها فيجب أن يشاركها في جواز القياس عليه، ومعنى ذلك أن القياس إنما جاز عليها لورود التعبد بالقياس، وكونه ممكناً فيها فإذا شاركها هذا الخبر في ذلك كان جارياً مجراها وجاز القياس عليه.
وعندنا أن الخبر إذا كان مقطوعاً به، أو اتفق على تعليله، أو ورد التنبيه على علّته، أو وافقه قياس أصل يعضده وقوى الظن بصحته جاز القياس عليه وإلا لم يجز.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الأصول إذا صارت معلومة أو مقاربة للمعلومة بفروعها وعللها لا بد أن تكون صارت أحكامها معلومة، فإذا ورد خبر غير معلوم ثم لم يتفق على تعليله ولم يرد نص على علته، ولا تنبيه نص(1)، لم يحصل الظن بصحته ولا يجوز العمل على ما لا تظن صحته.
__________
(1) ـ في النسخة: ولا تنبيه ولا نص، وليس بمستقيم مع ما تقدم ولعلها ما أُثبت، والله أعلم.

وكان شيخنا رحمه الله تعالى يجيز القياس عليه ويوجب الرجوع إلى الترجيح، ولا شك في سقوط قياس الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول إذا رجح بينه وبين قياس الأصول؛ لأن لتقريرها تأثيراً في قوة الظن لصحتها إن لم يحصل العلم بصحتها، وكذلك لكثرتها وتظاهرها وإجماع الأكثر من العلماء، بل أهل الحق من العلماء على وجوب القياس عليها ثم تستقرى الأخبار الواردة بخلاف قياس الأصول فما وجد فيه الشرط الذي شرطنا جاز القياس عليه؛ لأنه جارٍ مجرى الأصول، وما لم يوجد فيه لم يجز القياس عليه، فما يصح القياس عليه لما قدمنا خبر الهر؛ لأن التنبيه على علته قد ورد.
ومما لا يصح القياس عليه خبر من أكل ناسياً في شهر رمضان؛ لأنه وإن ورد بلفظ التعليل فليس بتعليل على الحقيقة؛ لأن قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فإن الله أطعمك وسقاك(1))) لا يصح كونه تعليلاً لأن المريض المباح له الأكل، وكذلك الحائض يجب عليهما القضاء مع وجود هذه العلة؛ لأن الله أطعمهما وسقاهما ولم يسقط عنهما القضاء، وكذلك خبر الأفواه لا يجوز أن يقاس عليه سائر المجوفات كحرافيف الأذن وما شاكل ذلك، وكذلك خبر نبيذ التمر والقهقهة وسائر الأخبار الجارية هذا المجرى.
__________
(1) ـ أخرجه بألفاظ متقاربة في: سنن البيهقي الكبرى (4/229) رقم (7862)، وسنن الترمذي (4/384) رقم (2040)، والدارقطني (2/179) رقم (34)، ورواه الإمام الأعظم زيد بن علي في المجموع (120) بلفظ مقارب وهو بإسناده إلى علي -عَلَيْه السَّلام- قال: ((من أكل ناسياً لم ينتقض صيامه فإنما ذلك رزق رزقه الله عز وجل إياه)).

مسألة:[الكلام في أن إثبات أصول الشرائع بالقياس لا يجوز ابتداء]
اتفق أهل العلم أن إثبات أصول الشرائع بالقياس لا يجوز ابتداء وإن أمكن استعمال طريقة القياس فيه، وذلك كإثبات صلاة سادسة، وحج بيت آخر، وصوم شهرٍ آخر إلى غير ذلك، وإنما اختلفوا في سائر الفروع.
فمنهم من ذهب إلى أن المقادير نحو الكفارات، والنصب، والحدود، وما شاكل ذلك جارية مجرى أصول الشرائع المبتدأة فلا يجوز إثباتها بالقياس، وهو الذي حكاه شيخنا عن أبي حنيفة وأصحابه ومن طابقهم.
ومنهم من قال: إن الكفارات، والنصب، والمقادير، والحدود المنقولة، ووقوع الفعل على صفة بعد تقرر أصولها في الشريعة يجوز إثباتها بطريقة القياس، وحكاه شيخنا عن الشافعي وأصحابه، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إليه.
والذي يدل على صحته: ما قدمنا من الدلالة على وجوب استعمال طريقة القياس ما أمكن إذا تكاملت شرائطه، وقد أمكن استعمال طريقة القياس في هذه الأبواب فوجب القضاء بصحته.
أما أن استعمال القياس واجب ما أمكن، فقد تقدمت الدلالة على ذلك بما لا طائل في إعادته.
وأما أن استعمال القياس ممكن في هذه المسائل؛ فلأنا متمكنون من معرفة العلل التي لأجلها ثبتت الأحكام في هذه المسائل، فإذا وجدنا هذه العلل في مسائل أخر أجرينا عليها تلك الأحكام، وإلا انتقض كونها عللاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى وجود المؤثر وزوال الموانع، فلا يظهر التأثير، وذلك لا يجوز فلو لم نقل بذلك أدى إلى رفع حكم القياس عن جميع المسائل، وقد بينا الدلالة على صحة استعمالها فيجب أن يقضى بفساد ما أدى إلى فساده من الأقوال.
فأما أنها تلحق بالأصول المبتداة فغير مسلم؛ لأن الأصول المبتدأة لا مجال للعقل فيها، ولا يمكننا معرفة عللها على التفصيل من حيث كانت غيوباً استأثر الله سبحانه بعلمها، فإذا تقررت الأصول وأمكننا معرفة علة وجوب شيء منها ووجدنا ما شاركه في تلك العلّة قضينا بمشاركته به في الحكم إذا علمنا أن وجه المصلحة فيهما واحد، ثم يجب عند ذلك استقراء المسائل مسألة مسألة، فما أمكن استعمال طريقة القياس فيه على ما ذكرنا قضي بوجوب القياس فيه، وما لم يمكن لم يجز استعمال طريقة القياس.

وقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قطعوا أن استعمال طريقة القياس في المسائل التي قدمنا ذكرها غير ممكن.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: أن أموال التجارة إنما وجب تقدير نصابها بأن تبلغ قيمتها مائتي درهم؛ لأنها أموال وجبت فيها الزكاة ولا نصاب لها في عينها فيجب تقويمها بما تجب فيه الزكاة وله نصاب في نفسه، وهو مائتا درهم، وقد وجب الإخراج عن الجملة بقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، ثم علمنا أن هذه العلة قائمة فيما أخرجت الأرض من الخضراوات وما شاكلها؛ لأنها أموال وجبت فيها الزكاة ولا نصاب لها في نفسها فوجب تقويمها، لأنها قد شاركت أموال التجارة في علة الحكم فيجب أن تشاركها في الحكم وإلا عاد على أصل تلك العلة بالنقض والفساد، وقد ثبت صحتها، ولأن المنع من ذلك بغير دليل يؤدي إلى رفع حكم القياس عن الأصل بغير دليل وذلك لا يجوز، فمن أين يصح للحنفية دعوى القطع على أن استعمال طريقة القياس فيما ذكرنا غير ممكن وقد بينا بما قدمنا أنه واقع والوقوع فرع الإمكان؟!
مسألة:[الكلام في المنع من إثبات وجوب الوتر بالقياس]
فأما إثبات الوتر واجبة بطريق القياس (1) فإنا منعنا من جوازه لتعذر العلم بصحة العلة التي يثبت بها أصل القياس؛ لأن العلم بصحة علة ذلك الأصل يجب تقديمه على القياس، وعلة حكم الأصل غير معلومة في ذلك، فلا يجوز القياس على علة غير معلومة يستوي فيها الأصل والفرع.
__________
(1) - قال الإمام المؤيد -عليه السلام- في شرح التجريد في سياق إثبات سنية الوتر وبطلان وجوبه: فإن قاسوه على الواجبات من الصلوات بكونه مؤقتاً، كان ذلك منتقضاً بصلاة العيدين وبركعتي الفجر، على أنا نقيسها على النوافل بعلة أن لا أذان فيه ولا إقامة.

فأما الصلاة بإيماء الحاجبين فيمكن أن يعلم علة أصله؛ لأنه قد تقرر وجوب الصلاة في الأصل على مقدار ما يمكن من تلك الأفعال إلا الإيماء بالحاجبين فوجب؛ لأنه إشارة تفيد تعظيم المشار إليه ممكنة للمتعبد بالتعظيم، فوجب القضاء بوجوبها دليله الإيماء.
مسألة:[الكلام في تعليل حكم الأصل بعلتين]
وإذا علل حكم الأصل بعلتين لم يخل إما يكن المؤثر فيه مجموعهما، أو كل واحدة منهما وإن انفردت، فإن كان المؤثر فيه مجموعهما، ولم تكن واحدة منهما تؤثر فيه على الإنفراد كان مجموعهما علة، ولم تكونا علتين.
وإن كانت كل واحدة منهما مؤثرة فيه وجب القضاء بصحتها وإجراء حكمها في الفروع التي يمكن جريان الأحكام فيها، ولا مانع من ذلك؛ لأنهما إن كانا وجه المصلحة فلا يمتنع كون الشيء مصلحة لوجهين، وإن كانا أمارة المصلحة فلا يمتنع أن يقوم على الشيء أمارات أو أكثر كما نعلمه في الغيم المخصوص وسماع الرعد ومشاهدة البرق أن كل واحد منها أمارة تقضي غالب الظن بوقوع المطر.
ثم لا يخلو أن تدل كل واحدة منها على حكم أو لا تدل؛ فإن دلت كل واحدة منها على حكم الأصل قضي بصحتها ولم يمتنع ذلك؛ لأنه قد يقوم على الشيء دليلان وأكثر، وكذلك الدليل على حكم الأصل سواهما من نص أو إجماع لمثل ما قدمنا؛ لأن المعتبر في صحة العلل هو التأثير على الوجه الذي ذكرنا أن تكون دلالة؛ لأنه يجوز أن تكون الدلالة غيرها.
فأما إذا كان أحد العلتين الدليل على حكم الأصل دون الأخرى، فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فمنهم من أجاز تعليل الحكم بالعلة التي ليست بدلالة على حكم الأصل وأجراه مع العلة التي تجري مجرى علة حكم الأصل مع النص الدال على ثبوته، فكما أن النصّ على حكم لا يمنع من تعليله بعلّة إذا دلت عليه دلالة على تعلق حكمه بها فكذلك العلة الدالة على حكم الأصل يجب أن لا تمنع من صحة تعليله بعلة أخرى إذا دلّت عليه دلالة.

ومنهم من لم يجز تعليل الحكم بها بل قضى بفساده، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول إن دل على صحتها نص أو تنبيه، وجب القضاء بصحتها وإلا وجب القضاء بفسادها.
واعلم أن الكلام فيها يبنى على ما قدمناه، فما كان له تأثير في علة الأصل قضي بصحتها سواء كان هو الدليل عليه أو غيره، وما لم يكن له تأثير في ذلك قضي بفساده؛ لأن اعتبار غير ذلك يخرج العلة عن معناها، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في صحة العلة إذا لم تتعد]
اختلف أهل العلم في العلة إذا لم تتعد.
فمنهم من صححها على الإطلاق، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعية والقاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وكان يذهب إليه.
ومنهم من قضى بفسادها على الإطلاق وهم أكثر الحنفية.
ومنهم من صححها في حال دون حال.
ثم اختلف هؤلاء:
فمنهم من قال: إن كانت معلومة أو معللة بالإجماع صحت، وإن كانت مستنبطة لم تصح، وحكاه شيخنا عن أبي عبدالله، والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال بفسادها إلا أن يدل عليها نص، وهو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
وكان شيخنا يستدل لما يذهب إليه بأن المنع من ذلك كان لا يخلو من أن يكون لأحد وجهين: إما لأنها لم تتعد إلى فرع مختلف فيه، أو لأنها لم تتعد إلى فرع أصلاً.
قال: فإن كان الأول كان فسادها وصحتها قد وقفا على اختيار الناس للإختلاف في الفرع والإتفاق فيه، وهذا فاسد لأن العلة إن كانت وجه المصلحة فوجوه المصالح إذا حصلت في الشيء اقتضت كونه مصلحة، وإن لم يقع الإتفاق عليه أو وقع.

33 / 41
ع
En
A+
A-