وجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإعتبار معناه ومعنى القياس واحد بدلالة أنك لا تقول: قست الأمر بالأمر، ولم أعتبر أحدهما بالآخر، ولا اعتبرت أحدهما بالآخر، ولم أقس أحدهما على الآخر، بل يصير من قال ذلك مناقضاً جارٍ مجرى قوله: قست وما قست، أو اعتبرت وما اعتبرت.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يمنع من الإستدلال بهذه الآية، ويقول تحمل على الإستدلال العقلي وعلى الإستدلال بالنصوص، ونحن نقول إن هذا قصر للدلالة، وتحكم فيها وذلك لا يجوز؛ لأن الآية وإن حملت على ذلك فإنه لا يمتنع حملها عليه، وعلى ما ذكرنا إذ لا منافاة بينهما ولا ما يجري مجرى المنافاة؛ لأنا متعبدون بذلك جميعاً، وكل واحد من القولين مأخوذ من ظاهر الآية، فلا وجه لقصر فائدة الآية على أحدهما دون الآخر.
ومما يؤيد ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، عقيب قوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه أمرنا أن نحكم بما أنزل، والإنزال من قبل الله سبحانه وتعالى إذا أطلق أفاد القرآن الكريم في عرف الشريعة، فلو لم يكن الأمر بالقياس مُنَزَّلاً لكان الحكم به يكون حكماً بغير ما أنزل الله وذلك لا يجوز، وقد دلت السنة على الأمر بذلك وأنه مأمور بالقياس من قبل الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما أتى به الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الشرعيات قطعنا على أنه منزل من عند الله سبحانه كما تقدم بيانه في الأخبار التي قدمنا ذكرها، فلا وجه لإعادتها.

فصل: في قسمة القياس الشرعي
اعلم: أن القياس الشرعي ضربان: واجب، وندب.
والواجب من ذلك ضربان: واجب على الأعيان، وواجب على الكفاية.فالواجب على الأعيان: هو قياس من نزلت به حادثة من المجتهدين، أو كان قاضياً فيها، أو مفتياً ولم يقم غيره مقامه وضاق الوقت، فإن النظر فيها يجب عليه مضيقاً معيناً.
والواجب على الكفاية: هو أن يكون من أهل الإجتهاد ثم تنزل الحادثة، ولكن في الحضرة من العلماء من ينوب عنه فيها ويقوم مقامه في الفتوى.
والندب: هو القياس فيما لم يحدث من المسائل مما يجوز حدوثه ليكون الجواب عنها معداً لوقت الحاجة، وهذا التفصيل في قسمة القياس ذكره شيخنا رحمه الله تعالى، فأوردناه كما ذكره.
فصل: في وجود العلة في الأصل والفرع والكلام في كيفية حكمها عند ذلك
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن القايس قد يعلل الفرع بأوصاف لا يُسَلِّم خَصْمُهُ وجودها في بعض الفرع، فيكون له أن ينازعه في ذلك، وقد لا يسلم وجودها في بعض الفرع فيمتنع - القياس - من قياس جميع الفرع بتلك العلة، وإن رام القايس أن يقيس ما وجدت فيه تلك العلة من الفرع دون ما لم توجد فيه العلة جاز ذلك إذا أمكن أن يكون بعض ذلك الفرع معللاً دون بعض، وقد يعلل القايس الأصل بعلة لا توجد في جميع الأصل دون خصمه، أولا توجد في بعضه، فله أن يمنعه من رد الفرع إلى جميع ذلك الأصل، فإن رده إلى الموضع الذي وجدت فيه تلك العلة جاز ذلك إلا أن يمنع مانع من تعليل بعض الأصل دون بعض، وذلك كمنع أصحاب الشافعي من قياس الجص على البر بعلة أنه مكيل، بقولهم إن علة تحريم التفاضل في البر هي علّة واحدة شائعة في جميع البر، والكيل غير شائع في جميع البر إذ لا يتأتى في الحبة والحبتين.

وحكى شيخنا رحمه الله تعالى انفصال أصحابنا عن ذلك بأن المحرم من البر علته واحدة وهو ما يتأتى فيه الكيل دون ما لا يتأتى فيه؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نهى عن بيع البر إلا كيلاً بكيل، فأجاز بالكيل ما منع منه بغير كيل، والذي يجوز بيعه إذا تساوى في الكيل هو ما يتأتى فيه الكيل دون ما لا يتأتى فيه الكيل، فيجب أن يكون ما يتأتى فيه الكيل هو ما يحرم بيعه إذا تفاضل في الكيل، فهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى من انفصال أصحابنا في كتابه في أصول الفقه، وفي المذاكرة إلا أن هذا الإنفصال لا يستقيم عندنا؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حرم بيع البر بالبر إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وأخبر أن من زاد أو ازداد فقد أربا، فكان هذا التحريم عاماً شاملاً دخل تحته القليل والكثير، فالإتيان بعلة خاصة لبعضه دون بعض لا يجوز لأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين باطلين:
إما إجراء الحكم في البعض بغير علة، وإما إخراج بعض ما تناوله النص بغير دلالة، وكل واحد من هذين الأمرين لا يجوز.
فأما الإنفصال عما ذكرت الشافعية، فإنما يصح عندنا بأن نقول إن الحبة والحبتين والحبات، وإن لم يتأت فيها الكيل على الإنفراد فهو متأت في ذلك مع الإنضمام فعلتنا شائعة في جميع البر؛ لأن كله مكيل جنس، وعلى أن مثل ما ألزمونا يلزمهم في علتهم؛ لأن الطعم أو الإقتيات لا يتأتى في كل جزء من أجزائه على الإنفراد، وإنما يتأتى فيه ذلك بانضمام بعض أجزائه إلى البعض، وإن لم يطعم منفرداً أطعم مضموماً، لذلك نقول، وإن لم يتأتّ الكيل في الحبة والحبتين منفردة يتأتى فيهما مضمومة؛ لأن الوسق وما فوقه مجموع أجزاء لا يتأتى في كل واحد منها على انفراده الطعم، ومجموع حبات لا يتأتى فيها ذلك منفردة -أعني الكيل- فمهما انفصلوا به انفصلنا بمثله، فأما الكلام في ترجيح أحد العلتين على الأخرى فسيأتي فيه الكلام إن شاء الله تعالى.

فصل:في طريق وجود العلة في الأصل والفرع
اعلم أن طريق وجود العلة فيهما قد تكون أمارة تُفْضِي إلى الظن، وقد تكون دلالة تقضي بوجودها فيهما، أو ضرورة، ولا فرق بين هذه الأقسام في صحة القياس؛ لأنه إذا جاز أن يعلق الحكم بما ظنه علة الحكم جاز أن يعلق الحكم بما ظن وجوده من علة الحكم، ألا ترى أنا نظن مجيء المطر إذا ظننا بخبر من ظاهره الصدق وجود الغيم، كما نظن ذلك وإن علمنا وجود الغيم فإذا جاز لنا التسوية بين الأصل والفرع إذا ظننا اشتراكهما في الأوصاف جاز ذلك مع العلم المكتسب لاشتراكهما في الأوصاف، وكان جواز ذلك في العلم الضروري باشتراكهما في الأوصاف أحق، وهذا التفصيل ذكره شيخنا وهو مستقيم عندنا.
فصل: الكلام في أنه لا بد للقياس من علة وطريق إليها
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى أنه لا بد للقياس من علة وأنه لا بد أن يكون إليها طريق وهذا صحيح عندنا؛ لأن القياس على غير علة -تجمع بين الأصل والفرع- يكون لاحقاً بالتبخيت، وما لا يجوز استعماله في الشريعة من العمل على ما لا يوجب العلم ولا الظن، وذلك لا يجوز.

فأما أنه لا بد من طريق إليها: فلأن القول بغير ذلك يؤدي إلى تجويز التعبد بما لا يمكن وذلك لا يجوز أيضاً، ثم القايس لا يخلو: أما أن يُثْبِتَ الحكمَ في الفرع تبعاً لثبوته في الأصل، أو لا يثبته تبعاً له، فإن لم يثبته تبعاً له كان مبتدياً بالحكم غير قايس، وإن أثبت الحكم في الفرع تبعاً لثبوته في الأصل ولم يعتبر شبهاً بين الأصل والفرع، لم يكن بأن يتبع الفرع هذا الأصل بأولى من أن لا يتبعه إياه، أو لا يتبعه أصلاً آخراً، ويجب أن يكون لذلك الشبه تَعلُّقٌ بالحكم وتأثير فيه، وإلا لم يكن القياس بأن يعتبر بذلك الشبه بأولى من أن لا يعتبر به، ويعتبر شبه آخر بين الفرع وبين أصل آخر أو لا يعتبر شبهاً أصلاً، وطريق العلّة الشرعية ليس إلا الشرع فقط؛ لأن طريق العلة الشرعية متى لم يكن نصاً أو إجماعاً إنما هو كيفية ثبوت حكمها وتأثيرها فيه نحو أن يثبت حكمها معها في الأصل وينتفي بانتفائها، ولا يكون ثم ما يكون تعليقه به عند المجتهد أولى، ومعلوم أن ذلك موقوف على الشرع وكيفية ثبوته بحسب العلّة حاصلان بالشرع فقط، والنص والإجماع طريقان شرعيان، وهذا التفصيل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
فصل: في أقسام العلل الشرعية
اعلم أن العلل الشرعية تنقسم إلى معلوم وغير معلوم، وغير المعلوم ينقسم إلى: مستنبطةٌ وغير مستنبطة.
فالمعلومة: هي كل نص من الله سبحانه، أو نص من رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو نص من الأمة متواتر، أو طريقة من الإستنباط يوصل النظر فيها على الوجه الصحيح إلى العلم.
وغير المعلومة: تنقسم إلى استنباط وغير استنباط؛ فالاستنباط: هو ما لا يرجع فيه إلى نصّ ولا إجماع وإنما نعرفها بتأثيرها في حكمها عند البحث.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أنها تنقسم ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون الوصف مؤثراً في قبيل ذلك الحكم ونوعه في الأصول، فيكون أولى بأن يكون علة من وصف لا يؤثر في نوع ذلك الحكم، ولا يؤثر فيه بعينه؛ لأن العلة تؤثر في الحكم فما لا يؤثر في الحكم لا يكون علة، وذلك كالبلوغ فإنه مؤثر في رفع الحَجْر فكان أولى بأن يكون علة في رفع الحجر في النكاح من الثيوبة؛ لأن الثيوبة لا تؤثر في جنس هذا الحكم الذي هو رفع الحَجْر.
وثانيها: أن يوجد الحكم في الأصل عند حصول الصفة وينتفي عند انتفائها، وذلك يقتضي أن لتلك الصفة من التأثير في ذلك الحكم ما ليس لغيرها.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أن هذه الطريقة معتمدة في المؤثرات العقلية.
وحكى قاضي القضاة أن الشيخ أبا عبدالله كان لا يعتمدها ويقول: يجب أن يقوى بغيرها، وكان شيخنا يصحح ما ذهب إليه أبو عبدالله، ويحتج له بأن الشرط قد ينتفي المشروط بانتفائه، ويثبت بثباته في الأصل، وإن لم يكن علة فيه، فيجب أن يقال إن العلة هي ما يثبت الحكم بثبوته وينتفي بانتفائه، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى، فيصح بذلك كونها علة في العقليات موصلة إلى العلم.
وأما في الشرعيات فإنه رحمه الله تعالى صححها، وإن لم يشرط فيها هذا الشرط، قال: لأن مدار أكثر العلماء في الشرعيات على الظن، وهذه وإن تعرت من هذا الشرط يحصل بها الظن المقارب للعلم، فيعمل عليها إلا أن عندنا اشتراط أن لا يكون ثم ما تعليق الحكم به أولى [لأنه إذا(1)] لم يغلب في ظنه صحة العلة فلا يغلب في ظنه صحة الحكم، ولا يجوز العمل على ما هذا حاله عقلاً ولا شرعاً.
__________
(1) - هناك في الأصل المصور إشارة لم تبن فأثبتنا هذه الزيادة ليستقيم الكلام.

وثالثها: أن تجمع الأمة والقايسون على تعليل أصل، ويختلفوا في تعليله فيبطل جميع ما يجعلونه علة فيه إلا علة واحدة، فإنا نعلم صحتها؛ لأنها لو فسدت لخرج الحق عن أقاويل الأمة، وهذه العلة التي يحصل العلم بها من طريق الإستنباط، فهذا هو الكلام في العلل المستنبطة.
وغير الإستنباط: هو ما يتأتى من علل الأحكام عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من طريق الآحاد، ولا يحصل لنا العلم بخبرهم بأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نصّ على علّة الحكم أو أشار إليها أو نبه عليها، وكذلك ما أتانا عن الأمة بهذه الطريقة.
وقد قسّم شيخنا رحمه الله تعالى الألفاظ المنبهة على علّة الحكم على أربعة أقسام، وجعل لكل قسم منها مثالاً:
أحدها: أن يكون في الكلام لفظ غير صريح في التعليل يعلق الحكم بعلته [كتعليق(1)] الحكم على علته بلفظ الفاء نحو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، فإنه يدل على أن العلة في قيام وليه بالإملاء هو أنه لا يستطيع أن يملَّ هو.
وثانيها: أن يعلم الحكم من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عند أن يصفه المحكوم عليه موصوفاً بصفة فنعلم أن تلك الصفة علة الحكم نحو أن يسأل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن ذلك الحكم ويذكر صفة لذلك الشيء مما يجوز كونه علة مؤثرة في ذلك الحكم، فيجيب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عند سماعه بجواب، [نحو أن(2)] يقول قائل: يا رسول الله: (أفطرت)، فيقول: ((عليك الكفارة))، فيعلم أن الكفارة وجبت عليه لأجل الإفطار إذ لو لم يكن الإفطار مؤثراً في ذلك لما أوجبها عند سماعه، كما لا يجوز إيجابها عليه إذا سمع أنه نسي أو تحدث.
__________
(1) ـ هذه الكلمة من المعتمد نظراً لعدم وضوح الكلمة في الأصل.
(2) - هذه زيادة.

وثالثها: أن تكون الصفة مذكورة على حد لو لم تكن علة لم يكن لذكرها فائدة، نحو أن يكون الكلام مذكوراً بلفظ إن كما روي أنه عليه وآله السلام امتنع من الدخول إلى قوم وعندهم كلب فقيل: إنك تدخل إلى آل فلان وعندهم هر، فقال: ((ليست الهرة بنجسٍ إنها من الطوافين عليكم والطوافات(1)))، فلو لم يكن لكونها من الطوافين تأثير في طهارتها، لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارتها فائدة، إلى غير ذلك من أقسام هذا الضرب التي يطول ذكرها في هذا الموضع.
ورابعها: أن يقع النهي عن فعلٍ ما أباحه لنا لأجل منعه لنا عن فعل واجب علينا، فنعلم أن العلة في كونه محرماً كونه مانعاً لنا عن الواجب، وإن لم يصرح بذلك كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، لما أوجب علينا السعي ثم نهانا عن البيع المانع من السعي علمنا أنه إنما نهانا عنه؛ لأنه مانع من الواجب.
__________
(1) ـ لو لم يكن ذكر النجاسة للتعليل للزم إخلاء السؤال عن الجواب، وتأخير البيان وذلك بعيد جداً فيحمل على التعليل دفعاً للإستبعاد. تمت قسطاس.
وقد رواه الإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع (1/138) رقم (163)، والإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء.
وأخرجه البيهقي (1/246) رقم (1098)، وأحمد (5/303)، والنسائي (1/55)، والدارقطني (1/70)، والحاكم (1/159)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/270)، والدارمي (1/187)، وابن خزيمة (1/54) رقم (103)، وابن حبان (4/114) رقم (1299)، والترمذي (1/153) رقم (92)، والطبراني في الأوسط (1/116) رقم (364).

مسألة:[الكلام في الإختلاف في تعليل الأصل]
فأما إذا اختلفوا في تعليل الأصل فعلله بعضهم ولم يعلله البعض الآخر، ثم اختلف معللوه فعللوه بعلتين، ثم فسد أحد العلتين، فإن فسادها لا يغير الحق في الأخرى؛ لأنه ليس في فسادها خروج الحق عن أيدي الأمة؛ لأن الذين اختلفوا في التعليل في الأصل هم بعض الأمة.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فكذلك لا يكون في سلامتها من وجوه الفساد ما يدل على صحتها.
واعلم أن الكلام ينبغي أن يحقق، ونحن إنما فرضنا الكلام في علة شرعية، ولا تكون علة شرعية إلا بأن تؤثر في الحكم حتى يثبت بثبوتها، ويزول بزوالها كما قدمنا، وإذا أُجري عليها هذا الحكم ثم لم يعترضه من الوجوه التي توجب فساد العلل وجه فإنا نقضي بصحتها لسلامتها من وجوه الفساد وكونها على الوجه الذي قدمنا، ولا يكفي في ذلك مجرد سلامتها من الوجوه التي تقضي بفسادها كما لا يكفي في كون الخبر صدقاً مجرد سلامته مما يقضى بكونه كذباً؛ لأنه قد لا يقتضي أمراً بكونه كذباً، ولا يجوز لنا القطع على كونه صدقاً، فإذا لم يدل دليل على صحتها في الأصل لم يطلق عليها اسم العلّة الشرعية بل يقال: علة فاسدة، أو علة غير صحيحة، أو علة لم تقم دلالة على صحتها على سبيل التوسع والمجاز في تسميتها علة.
وكان شيخنا يؤمي إلى أن قاضي القضاة قضى بصحة العلة الشرعية إذا لم يعلم فسادها، وإن لم تقم دلالة على صحتها؛ لأن التعبد بالقياس واجب ما أمكن.
إلا أنا نقول: إن العلة إذا لم تقم الدلالة على صحتها كان القياس عليها غير ممكن؛ لأن تعليق الحكم بما لا دليل على صحته يفتح باب الجهالات، وإن لم يظهر عليه من الأدلة ما يقضي بفساده.

مسألة:[الكلام في مجاورة الحكم لأحد الأوصاف]
ذكر بعض من تكلم في أصول الفقه أن كون الحكم مجاوراً لأحد الوصفين دون الآخر دلالة على أن ما جاور الحكم هو العلة دون الآخر.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى لا يصحح هذا القول بل يقضي بفساده؛ لأنه إن كان الحكم المجاور للوصف يحصل الحكم عند حصوله وينتفي عند انتفائه، سواء وجد الوصف الآخر أو لم يوجد، ولا شك أنه العلة دون الوصف الآخر؛ لأنا قد بينا فيما تقدم أن ذلك معنى العلّة.
قال: وإن لم يوجد بوجود وصف آخر ولا ينتفي بانتفائه فلا يجوز أن تعد تلك طريقة أخرى سوى ما قدمنا، وإن أراد أن الحكم قد يتجدد عند تجدد أحد الوصفين ولا بد من تقدم ثبوت الوصف الآخر، فذلك لا يدل على أن أحد الوصفين هو العلة وحدهُ؛ لأنه ليس يكفي حصوله وحده كالرجم المتجدد استحقاقه عند تجدد الزنا ليس يكفي فيه الزنا إلا بعد تقدم الإحصان فوجب اعتبارهما، وأن الإحصان شرط لا علة؛ لأنه لا يجوز أن يستحق عليه العقوبة.
وكلام شيخنا في هذا التعليل يحتمل كما ترى لأنه قال: لا يكون أحد الوصفين علة وَحْدَهُ ثم صرّح بعد ذلك بأنه شرط وهو الصحيح؛ لأن العلة هي ما يؤثر في الحكم، والإحصان لا تأثير له فيه؛ لأن العقوبة لا تستحق عليه كما تقدم.

32 / 41
ع
En
A+
A-