، فورثهم عمر، ولم يورثهم علي عَلَيْه السَّلام، ومما يؤيد ما ذكرناه ما ظهر منهم من إطلاق القول بالرأي كما روي عن أبي بكر في الكلالة: (أقول فيها برأيي)، وعن عمر: (أقضي فيها برأيي)، وعن عثمان: (نتبع رأيك فرأيك رشيد)، وعن علي عَلَيْه السَّلام: (اجتمع رأيي ورأي عمر في حديث أم الولد) حتى قال له عبيدة(1) السلماني: (رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك).
والرأي إذا أطلق في مسائل الشرع أفاد القياس والإجتهاد إذ لا يجوز حمله على غيرهما من الحدس والتبخيت، فصح بما قلناه أن التعبد بالقياس والإجتهاد وردا في الشريعة على أبلغ الوجوه.
مسألة:[الكلام في جواز تعبد النبي(ص) بالقياس والإجتهاد عقلاً]
ذهب أكثر العلماء إلى أنه كان يجوز تعبد الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالقياس والإجتهاد عقلاً، كما أنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم تعبد بذلك في الآراء في الحروب، وربما مر لأبي علي خلافه، واختيارنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن التعبد باستعمال القياس إنما يرد بتعلق المصلحة به، ولا يمتنع أن تتعلق مصلحة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بذلك كما تعلقت مصلحتنا فتعبد به كما تعبدنا، ولأن ذلك ظهر لنا من أمره عَلَيْه السَّلام في الحروب وآراء الدنيا؛ فجاز بمثله في سائر الأمور، وليس يمنع من ذلك إلا قول من يقول إنه لا يجوز أن يقتصر سبحانه بالمكلف على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما، فيقول: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متمكن من ورود الحكم عليه بحكم الحادثة فلا يحتاج إلى القياس.
__________
(1) ـ عبيدة –بفتح العين المهملة- ابن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني –بفتح السين المهملة، وسكون اللام- وسلمان قبيلة من مراد، أسلم قبل وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بسنتين ولم يلقه، توفي سنة (72هـ).

قلنا: إنه لا يمتنع تعلق المصلحة بتعبده بالقياس دون النص كما تعلقت المصلحة بتعبده بذلك في آراء الحروب وأمور الدنيا فلا يكون للمنع من ذلك وجه يصرف إليه، فثبت جواز ورود تعبده بذلك، وسيأتي الكلام في أنه هل تعبد أم لا؟ فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في جواز العمل بالإجتهاد في عصر النبي (ص)، وتفصيل ذلك]
اختلف أهل العلم هل كان يجوز العمل بالإجتهاد في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أم لا؟ وهل الغائب والحاضر في ذلك سواء أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أنه ذكر في الشرح أن أكثر القائلين بالقياس والإجتهاد أجازوا تعبد من غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالقياس والإجتهاد في عصره، والأقلون منعوا منه.
وحكى أن أبا علي قال في كتاب الإجتهاد: لا أدري هل كان يجوز لمن غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في عصره أن يجتهد أم لا؟ قال: لأن خبر معاذ من خبر الآحاد.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن لهم أن يجتهدوا إذا ضاق زمان الحادثة عن استفتاء النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولا يمكنهم سوى ذلك، ولأنه لا فرق في العقول بينهم وبين من لا يعاصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأحسب أنا قلنا له: فما تقول في المجتهد إذا سئل عن الحادثة بقرب المدينة.
قال: كان فرضه النظر فيها والإجتهاد.
قلنا: فإن كان في جانب المدينة.

قال: فكذلك، فكأنه كان يرى أن حضرة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مقامه أو مسجده أو مكانه الذي يكون فيه، ووضع في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه ما يدل على خلاف هذه المقالة، وكان يقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى ذكر أن خبر معاذ وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقته الأمة بالقبول، فمنهم من احتج به، ومنهم من تأوله، فصح التعلق به في جواز التعبد بالقياس لمن غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأنه عَلَيْه السَّلام صوب معاذاً وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)) فلو لم يجز الإجتهاد لمن غاب عنه لما صوَّبه ـ عَلَيْه السَّلام ـ.
فأما إذا أمكن المجتهد مراسلته عَلَيْه السَّلام، فالقول فيه كالقول فيمن حضره إذا أمكنه سؤاله، وقد أجاز اجتهاد قوم من القايسين إلا أن يمنع من إجتهاده مانع، ومنع منه آخرون منهم الشيخان أبو علي وأبو هاشم.
وأجاز قوم لمن بحضرته عليه وآله السلام أن يجتهد إذا أذن له النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في ذلك وهو قول الشيخ أبي الحسين البصري.
وذهب أبو رشيد إلى أنه يجوز للمجتهد الإجتهاد بحضرة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وأشار إليه القاضي، وحكى عن محمد بن الحسن.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يصحح في هذه المسألة ما قاله أبو الحسين من أنه لا يجوز لمن حضر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم الإجتهاد قبل سؤال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كما نقول في سالك بَرِّيَة لا يأمن الهلاك فيها إن سلك غير سبيلها وبحضرته من يرشده أن يعمل برأي نفسه في سلوكه يجب عليه الرجوع إلى من يرشده.
فأما من قبل الشرع فيجوز أن يسأل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيكله إلى اجتهاده لتعلق مصلحته بذلك.

واختيارنا في هذه المسألة: أن جواز التعبد بالقياس والإجتهاد في محضر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يكون إلا لمن غاب دون من حضر؛ لأن الأدلة التي قدمنا ذكرها من خبر معاذ وغيره تناولت الغائب دون الحاضر فلا تستعمل في غير ما تناوله، وإنما الكلام في مقدار الغيبة التي يجوز معها الإجتهاد في حياته عليه وآله السلام.
فذكر شيخنا رحمه الله تعالى في المذاكرة ما قدمنا ذكره، وروينا عنه على غالب الظن ووضع في كتابه أن ذلك لمن لم يمكنه مراسلته عَلَيْه السَّلام في أمر الحادثة.
واختيارنا في أمر الغيبة: أنه إن كان في موضع يتحمل في وصول النبي ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ ومراسلته سفراً، كان فرضه الإجتهاد والقياس.
وإن كان في موضع دون ذلك وجب عليه الرجوع إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإنما قلنا ذلك؛ لأن أدلة الإجتهاد قد دلت على وجوب استعماله في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن غاب عنه، وأقل الغيبة في العرف الشائع ما يسمى سفراً وأكثرها لا يقف على حد معين، فلا يجوز الإقتصار منه على قدر دون قدر بغير دليل، وإمكان المراسلة قائم في البعد والقرب على سواء بأن تصدر الحوادث ثم يطلب أجوبتها منه عليه وآله السلام، فلما لم يكن ذلك إخترنا أن المجتهد إذا قد صار مسافراً صار غائباً، ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قال له: ((بم تحكم إن لم تجد في الكتاب والسنة))، قال: أجتهد رأيي، ولم يفصل بين من سأله في طريقه وبين من يسأله من مستقره وغاية مراده، فإذا سُئِل وهو من أهل الإجتهاد لزمه فرض الحادثة فيتعيّن عليه الجواب.

مسألة:[الكلام في عدم جواز ورود التعبد بالقياس في جميع الشرعيات]
لا يجوز ورود التعبد بالقياس في جميع الشرعيات، ويجوز ورود النص في جميعها.
أما جواز ورود النص في جميعها فذلك ظاهر؛ لأنه لا يمتنع أن ينص الله سبحانه على أحكام الأنواع والأجناس لجواز تعلق المصلحة بذلك.
وأما القياس فلا يجوز ورود التعبّد به في جميع الشرعيات؛ لأنا قد قدمنا أن لا بد من الرجوع في القياس إلى أصل معين، فإذا تعبدنا بالقياس في الأصل احتاج الأصل إلى أصل لأنه مقيس أيضاً فيتصل بذلك ما لا يتناهى وذلك لا يجوز، وإن قيس بعضها على بعض لم يكن الأصل بأن يكون أصلاً أولى منه بكونه فرعاً والفرع أصلاً، فيؤدي ذلك إلى أن لا يبن الفرع من الأصل، وذلك لا يجوز، ولأنه لا يقاس إلا على أصل معلوم الصحة، ولا تعلم صحته، ولا يصح القياس عليه، إلا باعتبار غيره ليكون أصلاً له، وذلك الغير لا تستقر صحته إلا بعد صحة غيره ليكون فرعاً لذلك الغير معلوم بعد تقرر علمه بوقف بعضها على بعض وكان لا يصح العلم بشيء منها.
فأما قياسها على الأصول المتقررة في العقل فلا يجوز ذلك؛ لأنه لا مدخل للعقل في معرفة ما هذا حاله؛ لأن التعبد إنما يقع للمصلحة، والمصلحة غيب استأثر الله سبحانه بعلمه فلا سبيل للعقول إلى المعرفة به.
مسألة:[الكلام في النص على علة الحكم قبل ورود التعبد بالقياس هل هو تعبد بالقياس بها أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النص على علة الحكم قبل ورود التعبد بالقياس هل هو تعبد بالقياس بها أم لابد من تعبد زائد؟
فمن نفاة القياس من قال: إن النص على علة الحكم يوجب إجراء الحكم على ما وجدت فيه تلك العلة، وهو أبو إسحاق النظام ومن طابقه على ذلك من نفاة القياس، وغيرهم من الفقهاء، وهو قول الظاهرية، وأبي الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه.
وحكى عن الجعفرين وبعض الظاهرية أن النص على العلة ليس بتعبد بالقياس بمجرده وإنما يجب إجراء الحكم إذا قد ورد التعبد بالقياس.
قال: وذهب إليه الشيخ أبو عبدالله وقاضي القضاة ثم حكى اختلافهما بعد ذلك.

فقال قاضي القضاة: إذا ورد التعبد بالقياس تعدت العلة ولا يحتاج إلى دليل يخص تلك العلّة.
وقال أبو عبدالله: لابد من اشتراط ذلك.
وحكى عن أبي هاشم وأبي الحسن أن ذلك يجري مجرى ذكر جميع ما هي علة فيه ولكن لم يثبت أنه قبل ورود التعبد بالقياس أم بعده.
وكان يحكي أن الشيخ أبا عبدالله قال بأن النص على العلة لا يكون تعبداً بالقياس إذا كانت علة في الفعل؛ فأما إذا كانت علة في الترك فإن النص عليها تعبد بالقياس، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل آخر.
ومثال المسألة: أن يقول الله سبحانه أوجبت أكل السكر كل يوم؛ لأنه حلو؛ فكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن ذلك يوجب أن الحلاوة فيه وجه المصلحة في وجوبه في كل يوم؛ لأنه قصر التعليل عليها مع اختلاف أحوالنا، ولا يجوز حصول وجه الوجوب أو الحسن أو القبح ولا يؤثر، كما لا يجوز حصول الفعل ظلماً ولا يكون قبيحاً.
قال: وبعد فإن قَدْراً من الرفق لا يجوز أن يصلح الصبي وهو على صفة مخصوصة ولا يصلحه مثله متى كان الصبي على تلك الصفة، فإذا ثبت ذلك صح ما قلناه من كون الحلاوة مؤثرة في كل موضع فيجب لأجل ذلك أكل العسل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم من الكلام في أن التعبد إنما يكون للمصلحة لما يعلم الله سبحانه من المصلحة، ولا يمتنع أن تتعلق المصلحة بفعل الحكم المنصوص على علته على الإنفراد وإن ضم إليه ما يشاركه في ذلك كان مفسدة، فإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يحمل غير المنصوص عليه على ما ورد به النص إلا إذا دلت الدلالة على إثبات القياس، فإنما نقطع عند ذلك على حصول المصلحة في مجموعها وارتفاع المفسدة.

وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن التعليل يدل على أن الحلاوة وجه المصلحة، غير مسلّم في الفعل؛ لأنا نقول: وجه المصلحة فيه كونه لطفاً للمكلف في فعل ما يجب عليه فعله وترك ما يجب عليه تركه، فما شاركه في هذه العلة وجب أن يشاركه في الحكم هذا فيما نص على علته قبل ورود التعبد بالقياس.
وما ذكر رحمه الله تعالى بعد ذلك أن قدراً من الرفق لا يجوز أن يصلح الصبي وهو على صفة مخصوصة إلا ويصلحه مثله وهو على تلك الصفة، لا يلزم عليه ما ذهب إليه؛ لأنا نقول: إن قدراً من الرفق قد يصلح الصبي، ثم إذا انضاف إليه مثله لم يمتنع مصيره مفسدة، وعلى هذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، فأخبر أن الزيادة على ذلك القدر من جنسه لو زيد لصار مفسدة، وهذا كما ترى ظاهر، ولأن الإنسان قد يتصدق بدرهم لعلةٍ، ولا يتصدق بدرهم آخر، وإن استويا في كونهما إحساناً ولا مضرة عليه في واحد منهما، وهذا بخلاف ما يترك لعلة؛ لأنه لا يصلح أن يتعبد المكلف بترك ذلك الفعل بصفة تخصة ولا يتعبد بترك ما يشاركه فيها لقيام الدلالة على أن من ترك فعلاً من الأفعال لصفة تخصه؛ فإنه يترك لا محالة جميع ما يشاركه في تلك الصفة ويتعذر خلاف ذلك، والتعبد لا يجوز وروده بما يتعذر.
ومثاله: ما يعلم أن العاقل لا يجوز أن يترك سلوك طريق مخصوص لكون اللصوص فيه أو السباع، ثم يسلك طريقاً آخر فيه هذا المخوف، وكذلك لا يجوز أن يترك أكل الطعام؛ لأن فيه السم، ثم يأكل طعاماً آخر فيه السم، وهذا الأصل الذي قدمنا يبنى عليه أن تخصيص العلة لا يجوز إن كانت علة للترك، ويجوز إن كانت علة للفعل.

مسألة:[الكلام في صحة استعمال القياس على كل أصل]
ذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس يصح على كل أصل سواء ورد النص على القياس عليه بعينه أو لم يرد، وسواء اتفقوا على تعليله أم لم يتفقوا على ذلك.
وحكي عن بشر بن المريسي(1)المنع من القياس على أصل إلا أن تجمع الأمة على تعليله.
وعن قوم أنه يجب أن ينص لنا على وجوب القياس عليه، واختيارنا هو الأول(2).
والذي يدل على صحته وجهان:
أحدهما: أن التعبد بالقياس إذا ورد على الإطلاق وجب استعماله في كل أصل يصح القياس عليه وإلا أدى إلى حصره بغير دلالة وذلك لا يجوز، ولأنه لو كان، لا يخلو: إما أن يجوز استعماله على كل أصل وقد قدمنا ذكره، أو لا يستعمل في شيء، أو يستعمل في شيء دون شيء، ولا يجوز أن لا نستعمله في شيء من الأصول؛ لأنا قد قدمنا الدلالة على وجوب استعماله بما لا سبيل إلى نقضه، ولا يجوز أن نستعمله في بعض دون بعض لفقد المخصص، فلم يبق إلا وجوب استعماله في كل أصل يمكن استعماله فيه إلا ما خصه الدليل.
وأما الوجه الثاني: فإجماع الصحابة على استعمال طريقة القياس على أصول لم يرد عليها نصّ ولا أجمع على تعليلها، وذلك أنه لما وقع الإختلاف بينهم قاس كل منهم على أصل صحّ عنده القياس عليه مع أنهم خالفوه في القياس عليه، ولو كان منصوصاً عليه لذكر لهم النص ليجب عليهم الرجوع إلى أصله في القياس لمكان النص، فأما لو وقع الإجماع على تعليله لم يفترقوا فيه.
__________
(1) ـ بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، أبو عبدالله الحنفي، الفقيه المتكلم، كان من المرجئة وإليه تنسب المرجئة، توفي سنة (219هـ).
(2) ـ أي الذي ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين من أن القياس يصح على كل أصل.

مسألة:[الكلام في هل كان النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- متعبداً بالإجتهاد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل كان متعبداً بالإجتهاد أم لا؟
فمنهم من قال: لم يكن متعبداً بذلك في شيء من الشرعيات وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله، وهو الذي نختاره.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي يوسف أنه قال: كان عليه وآله السلام متعبداً بذلك وتأوله الشيخ أبو علي على الحروب وأحكام الدنيا، وهو اختيار القاضي في بعض المواضع.
وجوّز الشافعي في رسالته أن يكون في الأحكام الشرعيات ما قاله عليه وآله السلام اجتهاداً.
وجوز قاضي القضاة ذلك في مواضع ولم يقطع عليه، وإليه ذهب الشيخ أبو الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده، ويحتج له بأنه لا دلالة في العقل ولا في الشرع توجب القطع على أنه تعبد، ولا على أنه عَلَيْه السَّلام لم يتعبد بذلك فيجب التوقف، إذ لا يجوز القطع بغير دلالة واختيارنا هو المذهب الأول.
والذي يدل على صحته: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لو تعبد بالإجتهاد في شيء من الشرعيات لجازت مراجعته فيه ومعلوم أن مراجعته في الشرعيات لا تجوز، فثبت أنه لم يتعبد بالإجتهاد في شيء منها.
أما أنه لو تعبد بالإجتهاد في شيء من الشرعيات لجازت مراجعته؛ فلأن ذلك حكم كل مجتهد، وهو عليه وآله السلام وغيره في ذلك سواء، ولأنه قد تقرر جواز مراجعته فيما صح تعبده بالإجتهاد فيه كآراء الحروب وأمور الدنيا من دفع المضار وجلب المنافع.
وأما أن مراجعته في الشرعيات لا تجوز؛ فذلك معلوم لنا من دين المسلمين كافة أن أمرهم معه عليه وآله السلام في الشرعيات مبني على القبول والتسليم من غير منازعة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم:3ـ4].

ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه أخبرنا أن جميع ما ينطق به وحي يوحى، وذلك لا يحمل على غير الشرعيات، فلو كان فيها ما صدر عن اجتهاده عليه وآله السلام لما أطلق عليه أنه وحي يوحى؛ لأن اجتهاد الرأي لا يكون وحياً، فوجب بما ذكرنا القطع على أنه عَلَيْه السَّلام لم يتعبد في الشرعيات بشيء من ذلك، وإن كان ذلك يجوز من جهة العقل كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في أن القياس دين مأمور به]
اختلف أهل العلم في القياس هل هو مأمور به ودين، أم ليس مأمور به ولا هو دين؟
فذهب قوم إلى أنه لا يوصف بذلك.
وذهب قوم إلى أنه دين، وأنه مأمور به، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه مأمور به ودين من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، على معنى أن الله تعالى نصب عليه الأدلة والأعلام.
وكان يحكي عن الشيخ أبي الهذيل أنه منع أن يطلق عليه اسم دين الله تعالى، قال: لأن اسم دين الله لا يقع إلا على ما هو ثابت مستمر.
وكان أبو علي يصف ما كان منه واجباً بذلك وبأنه إيمان دون ما كان منه ندباً.
وقاضي القضاة يصف بذلك واجبهُ وندبهُ، وذلك اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ذلك، ويحتج له بأن الدين في الشريعة هو الإسلام، والإسلام في الشريعة هو الإيمان لا فرق بين شيء من ذلك، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، فلو كان الدين والإيمان غير الإسلام لم يصح قبولهما من فاعلهما، ومعلوم أنهما مقبولان بالإتفاق، فثبت أن الإيمان والإسلام والدين ألفاظ تتعلق في الشريعة على معنى واحد، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن القياس دين الله تعالى، وأنه مأمور به: قول الله سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، وما شاكلها من الآي التي فيها ذكر الإعتبار.

31 / 41
ع
En
A+
A-