وأما المقالة الرابعة: وهي أنه سبحانه لا يجوز أن يقتصر بالمكلف على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما، والقياس أدناهما، فبطلانه بما يعلم أن بعض ما ورد به التعبد عند الجميع أعلى من بعض؛ لأن منه ما علم من دين النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ضرورة، ومنه ما علم بالدلالة وهذا لا خلاف فيه، ولا شك أن ما يعلم ضرورة أجلى مما يعلم بالدلالة، فإذا جاز من الله سبحانه التعبد بهما على سواء، -وإن كان أحدهما أجلى من الآخر- جاز أن يتعبد بالقياس وإن كان النص أجلى منه.
وأما المقالة الخامسة: وهي أن التعبد بالقياس يؤدي إلى وجوب التعبد بالأمور المتضادة الشاقة، وذلك لا يجوز فسيأتي الكلام عليها -فيما بعد إن شاء الله تعالى- عند الكلام على أن كل مجتهد مصيب؛ لأنه كما يمكن أن يتعلق بها نفاة القياس يمكن أن يتعلق بها من منع كون كل مجتهد مصيباً، فالجواب عن ذلك واحد.
وأما المقالة السادسة: وهو أن التعبد بالقياس جائز إلا أنه لم يرد في الشريعة، فلا بد من الإستدلال على أنه قد ورد فيبطل ما قالوه، وينبغي لنا أن نقدم الكلام على أن التعبد بالقياس جائز، والدليل على ذلك وجهان، وهما: العقل والسمع.
أما العقل: فما قد تقرر في العقول أنه يجب على الإنسان القيام من تحت حائطٍ مائل إذا غلب في ظنه سقوطه، وإن جوز السلامة في الوقوف والهلاك في النهوض، وكذلك المتجنب لسلوك طريق يغلب في ظنه أن اللصوص فيها، وسلوك طريق لا يظن كونهم فيه، وإن جَوَّز أن لا يكونوا في الذي يغلب في ظنه كونهم فيه، ويكونوا في الطريق الذي لا يظن كونهم فيه، والعمل على ما قدمنا جائز في العقول، وإن كان المرجع به إلى الظن كما نقول في القياس.
وأما السمع: فالحكم بشهادة الشهود من الظن بصدقهم، وتولية الأمراء والقضاة إذا غلب في الظن سدادهم، والتوجه إلى جهة عند ظن القبلة فيها، والحكم بقصد من النفقة بحسب الظن، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.
فإذا تقرر هذا لم يمتنع أن يتعبد الله سبحانه المكلف أن يحكم في الفرع بحكم الأصل الثابت إذا غلب على ظنه عند أمارة صحيحة ينصبها له بأنه يجب رده إليه، وإثبات مثل حكمه فيه من حيث تعلقت المصلحة بذلك، إذ ليس فيه أكثر من أنه تعبد بطريقة الظن، وقد بينا جوازه عقلاً وشرعاً، والتكليف إنما يقبح إذا كان بما لا يطاق أو بما لا يعلم، ولا يعلم سببه، أو بما لا تزاح فيه علة المكلف، أو بأن لا يلطف به فيما له فيه لطف، فإذا تعرى من هذه الوجوه حسن، ولا شك في تعري القياس من هذه الوجوه فيجب القضاء بورود التعبد به، وموضع استيفاء الكلام في هذه الجملة أصول الدين، فلا وجه لذكره فوق ما ذكرناه هاهنا، فهذا هو الكلام على جواز ورود التعبد بالقياس، وسيأتي الكلام على أنه قد ورد.
مسألة:[الكلام في أن الدليل قد ورد على التعبد بالقياس]
عندنا أن التعبد بالقياس قد ورد وقد دل على جواز وروده العقل كما قدمنا، والسمع كما نبينه الآن.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، ـ أعني ورود التعبد بالقياس من طريق السمع ـ.
وحكى عن الشيخ أبي الحسين البصري أن ذلك يعرف بالعقل والسمع، وكان يذهب إليه، ونحن نختاره، وقد قدمنا الكلام في جواز ورود التعبد به عقلاً.
وحكى أن بعض من نفى القياس قال: لم يرد دليل بأنه تعبد بالقياس ولو ورد دليل لقلت به، ومنهم من قال: جميع هذه الأحكام مبين وليس للقياس موضع، فأما هذا القول فلا يحتاج في إبطاله إلى دليل لركاكته وظهور فساده.
وأما الدليل على أن التعبد بالقياس قد ورد فوجهان، وهما السنة والإجماع:
أما السنة: فما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الأخبار في ذلك، وذلك ظاهر في قوله لمعاذ(1) حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله))، والكلام في هذا الخبر يقع في وجهين: أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به.
أما الكلام في صحته: فلأنه مما تلقته الأمة بالقبول(2) فكانوا بين قائل به، أو متأول له، وذلك يوجب علمهم به كما في الأخبار المتعلقة بأصول الشريعة.
__________
(1) ـ معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي السلمي، أبو عبدالرحمن، كان من أعيان الصحابة في العلم والفتوى والحفظ للقرآن، أسلم وله ثمان عشرة سنة، شهد العقبة الأخيرة وبدراً وما بعدها، وبعثه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلى اليمن يعلم القرآن والأحكام، وكان يزوره في الأسفار، وأخذ بيده فقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك)) وكان أمة حنيفاً قانتاً. توفي في طاعون عمواس بالأردن سنة ثمان عشرة. انظر: لوامع الأنوار (ط2) (3/180).
(2) - هذا الحديث مشهور عند أئمة أهل البيت -عليهم السلام- والمحدثين، قال الحافظ ابن كثير: هو حديث حسن مشهور، اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس، وقد ذكرت له طرقاً وشواهد في جزء مفرد. ذكره محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم والقواصم (1/282)، وأخرجه أحمد في مسنده (5/236)، وأبو داود في سننه (3592)، والترمذي (1327)، والطيالسي (1/286)، وابن سعد (2/347)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (188)، والبيهقي (10/114)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/55) كلهم من طريق شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن ذلك لا يدل على كونه معلوماً، قال: لأنه يجوز أن لا يردوه لأنهم لا يعلمون بطلانه ولا يقطعون على صحته فيتأولونه لهذا السبب.
وعندنا: أن تلقيهم له بالقبول مع استفاضته بينهم يدل على أنه معلوم لهم؛ لأنه متعلق بأمر كبير فلو لم يعلموه مع ذلك وهو أن يلزمهم أمراً يكرهونه ويقضون بقبحه وهم يعلمون أن نفي صحته يقطع عنهم أصل الكلام في هذا الباب لكان طعنهم في صحته أقرب إلى مرادهم من ارتكاب تأويله فيقولون: هذا خبر لا يقطع على مقتضاه؛ لأنه غير معلوم لنا فلما لم يقل ذلك قائل علمنا أنه معلوم لهم في الأصل كما علمنا بهذه الطريقة سائر أخبار أصول الشريعة.
هذا، وإن جوزنا أن لا يكون اليوم معلوماً لنا لدثور السير وتطاول الزمن، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يسلك في الإستدلال بهذا الخبر طريقة الإستدلال بأخبار الآحاد، فيقول: القياس والإجتهاد من باب العمل، وقد ثبت وجوب استعمال أخبار الآحاد فيما يتعلق بالعمل، والكلام عندنا فيه ما قدمنا، فهذا هو الكلام في صحة الخبر.
وأما الكلام في وجه الإستدلال به: فلأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أقر معاذاً على العمل بالقياس والإجتهاد، فلو لم يكن واجباً لكان إقراره له على ذلك قبيحاً، والقبيح لا يجوز عليه - عليه وآله السلام - لأن تجويزه عليه يرفع الثقة به، فيجب النفور عنه، ولا يجوز على الله تعالى أن يبعث من يعلم من حاله ذلك على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين بل تصويبه به؛ لأنه لما قال أجتهد رأيي، قال عَلَيْه السَّلام: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم))، فكان ذلك أبلغ من مجرد الإقرار عند من يعرف الخطاب.
فإن قيل: إنه أراد بقوله: أجتهد رأيي أطلب علم ذلك من الكتاب والسنة.
قلنا: هذا باطل لوجهين:
أحدهما: أنه - عليه وآله السلام - قال له ذلك بعد قوله: فإن لم تجد في الكتاب والسنة، ولا يعقل أن يكون في مقابلته فإن لم تجد في الكتاب والسنة طلبت في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك يكون خلفاً من القول.
والثاني: أنه قال: أجتهد رأيي، ولا يكون ما أخذه من الكتاب والسنة رأياً له ولا لغيره في حياة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإنما يكون نصاً وتوقيفاً، وليس بعد الكتاب والسنة من الأدلة الشرعية إلا الإجماع، وهو غير معتبر في حياة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، والقياس والإجتهاد ولا يجوز أيضاً أن يجعل ما أخذه من دلالة الإجماع رأياً له ولا يسميه الإجتهاد أيضاً؛ لأن الإجتهاد يتضمن المشقة، وليس فيما أخذ من الإجماع مشقة.
وإنما الإجتهاد والرأي يستعمل فيما طريقه النظر، وقياس بعض الأمور ببعض لوجه من التعليل لأجل المشابهة والطرائق الرابطة فيمتحن فيه نظره وتعبده بغيره، وهذا هو معنى القياس والإجتهاد، وهو الذي يجوز صدور الأحكام الصحيحة عنه، ويجوز تصويب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن فعله.
فأما التخمين والتبخيت فلا يجوز من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولا من غيره فضلاً عنه عَلَيْه السَّلام، وهو القدوة في أمر الدين ولا يجوز تصويب من سلكهما في تعرف الأحكام والشرائع؛ لأنه لا يؤمن إفضاؤهما بمستعملهما إلى القبيح، وذلك لا يجوز، ومن ذلك قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمعاذ وأبي موسى(1)، وقد أنفذهما إلى اليمن: ((بم تقضيان؟))، قالا: إن لم نجد الأمر في السنة قسنا الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به، وهذا تصريح منهما بالعمل على القياس، وإقرار منه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لهما عليه.
وكذلك قال لابن مسعود رضي الله عنه: ((ثم اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما اجتهدت رأيك)).
ووجه الإستدلال بهذه الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وآله أقره بل أخبره أنه يعمل بالقياس في بعضها، وأمر بالعمل بالقياس في بعضها، وهو عَلَيْه السَّلام لا يقر على أمر ويأمر به إلا وهو واجب.
أما أنه عَلَيْه السَّلام أقره عليه في بعضها وأمر به في بعضها؛ فذلك ظاهر في ألفاظها.
وأما أنه لا يقر على ذلك ويأمر به إلا وهو واجب؛ فلأنه لا واسطة بين وجوب العمل بالقياس وحظر العمل به في أقوال الأمة.
فالقول بأن العمل به جائز غير واجب قول مخالف لسبيلها، وذلك لا يجوز كما قدمنا في باب الإجماع.
وأما دلالة وجوبه من قبل الأمر به، فقد تقدم الكلام فيه في باب الأوامر والنواهي، وأن الأمر يقتضي الوجوب.
__________
(1) ـ أبو موسى الأشعري، عبدالله بن قيس، قدم مكة قبل الهجرة فأسلم ثم قدم مع جعفر بعد فتح خيبر. أحد الحكمين وخديعة عمرو له مشهورة، روي عن علي -عَلَيْه السَّلام- أنه كان يقول في أبي موسى: صبغ بالعلم صبغاً وسلخ منه سلخاً، وكان أمير المؤمنين يلعنه في القنوت ومعاوية وعمراً. توفي سنة اثنتين أو أربع وأربعين. انظر: لوامع الأنوار (ط2- 2/456، 460)، و(3/209)، والجداول.
وما يدل على وجوب العمل بالقياس من قبل السنة بطريق التنبيه على استعماله قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لعمر وقد سأله عن القُبْلة هل تفطر الصائم أم لا؟ فقال: ((لا تفطره أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته(1))) وقوله للخثعمية وقد سألته عن الحج عن أبيها، فقال: ((نعم أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه؟))
قالت: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضى(2))).
ووجه الإستدلال بهذين الخبرين: أنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نبه على وجوب استعمال طريقة القياس، فلو لم يكن العمل بالقياس واجباً لم ينبه عليه.
__________
(1) ـ أخرجه أحمد في المسند (1/21) رقم (138)، وأبو داود (3172) رقم (2385)، والنسائي في السنن الكبرى (2/198) رقم (3048)، وابن حبان (8/313) رقم (3544)، والحاكم (1/596) رقم (1572)، وابن خزيمة (3/245) رقم (1999)، والدارمي (2/22) رقم (1724).
(2) ـ أخرجه: البخاري (3/300، و(4/5606)، ومسلم (9/97، 98)، وأحمد في المسند (1/466) رقم (3367)، والنسائي (5/89)، ومالك في الموطأ (1/359)، والطبراني في الكبير (11/109) رقم (11200) والصغير (1/405) رقم (1484).
أما أنه نبه على ذلك: فظاهر الخبرين يقضي به؛ لأنه شبه تقبيل الصائم بغير إفضاء إلى قضاء وطره من الجماع بالمضمضة بالماء، ولا يفضي إلى بلوغ غرضه من الشرب، وإذا كانت المضمضة والحال هذه لا تفطر فكذلك القبلة، وهذا هو معنى القياس، وكذلك شبه دين الله سبحانه بدين العباد في خبر الخثعمية، فإذا وجب قضاء دين العباد عليها لحرمة الولادة، فوجوب قضاء دين الله أولى، والحكم فيه ألزم، وهذه الأخبار كما ترى محض القياس، فلولا أن استعماله واجب لما أمر به النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد أمر به، فثبت أنه واجب، وهذه الأخبار وإن لم تبلغ درجة خبر معاذ في الإستفاضة والتواتر؛ فإن كثرتها وإتيانها من طرق شتى يوجب قوتها ويقضي بوجوب العمل عليها لما قد تقرر من خبر معاذ، فهي كالجاذبة إليه والرافدة له.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: وإن كانت هذه الأخبار غير معلومة فإن القياس والإجتهاد من باب الأعمال والإعتماد على خبر الآحاد واجب في باب الأعمال كما قدمنا، ثم تفرع الكلام فيه إلا أن هذا القول يمكن اعتراضه بأن القياس والإجتهاد من أصول الشريعة وأركانها المهمة، ولا يجوز إثبات أصول الشريعة بأخبار الآحاد كما نعلمه في الصلاة والصوم وسائر الأركان دائماً يجب العمل بأخبار الآحاد فيما قد تقرر أصله بطريقة معلومة فهذه دلالة السنة.
وأما دلالة الإجماع: فلأن الصحابة لما اختلفت بعد وفاة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم سلكوا طريقة القياس والإجتهاد، فكانوا بين سالك لها وبين راض بها، وذلك يتضمن معنى الإجماع، وإجماعهم حجة، وهذه الدلالة تنبني على أصول:
أحدها: أن الصحابة اختلفوا بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص.
وثانيها: أنهم كانوا بين سالك طريقة الإجتهاد وبين راضٍ بها.
وثالثها: أن ذلك يتضمن معنى الإجماع.
ورابعها: أن إجماعهم حجة.
فأما الذي يدل على الأول: وهو أن الصحابة اختلفوا بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص.
فأما أنه لم يوجد فيها نصّ: فلأنه لو وجد لاحتج به بعضهم على بعض، وكان النص يرفع الخلاف، فلما لم يوجد اختلفوا.
وأما أنهم اختلفوا: فذلك معلوم لجميع أهل العلم من حالهم؛ لأنهم لما سئلوا عن الجد مع الأخ قال علي عَلَيْه السَّلام لزيد بن ثابت: (يقتسمان المال نصفين)، وقال أبو بكر وابن عباس: (المال للجد دون الأخ).
وأما الذي يدل على الثاني: وهو أنهم سلكوا في ذلك طريقة القياس؛ فلأنهم سلكوا فيه مسلك التعليل وإجراء الحكم على ما وجدت فيه علة الأصل، وذلك ظاهر لأن علياً عَلَيْه السَّلام شبه الجد والأخ بجدولي نهر وغصني شجرة، وذلك لاستوائهما في التعصيب؛ لأن الجد بينه وبين الميت الابن والأخ بينه وبين الميت الأب؛ فالأخ ابن ابنه والجد أبو أبيه أعني الميت، وهذه طريقة القياس والإجتهاد على أوفر الوجوه.
ومن جعل المال للجد دون الأخ جعله بمنزلة ابن الابن، وابن الابن يحوز المال على الأخ؛ لأنه ابن أبيه.
قال: فإذا حازه ابن الابن وبينه وبينه درجة فيما سفل جاز أن يحوزه الجد وبينه وبينه درجة فيما علا، فهذه طريقة القياس والإجتهاد.
وأما أن من لم يعلم بها رضيها؛ فلأنه لم يعلم من أحد منهم نكير على من سلكها، ولا كان للسكوت وجه يصرف إليه سوى الرضى؛ لأن الظاهر من أمرهم المراجعة في مسائل الشريعة وقبول بعضهم من بعض، وإنكار من لم يرض من ذلك أمراً على من رضيه حتى المخدَّرات لشياع العلم منهم وقبولهم له ببركة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم سيما فيما يخص الشريعة، فعلمنا أن سكوت من سكت دلالة على الرضا.
وأما أن ذلك يتضمن معنى الإجماع: فقد قدمنا الكلام فيه، وهو أن القول أو الفعل إذا ظهرا في الأمة، وكانوا بين عامل عليه وساكت عن النكير سكوتاً يدل على الرضى كان إجماعاً لا محالة.
وأما أن إجماعهم حجة، فقد تقدم الكلام فيه بما فيه كفاية.
ومن المسائل التي اختلفوا فيها: مسألة الحرام، فقال علي عَلَيْه السَّلام: (ثلاث تطليقات)، وقال أبو بكر وعمر: (هي يمين)، وقال ابن مسعود: (هي تطليقة واحدة)، وقال ابن عباس: (هي ظهار).
فمن قال هذه اللفظة بمنزلة التطليقات الثلاث، قال من قال لامرأته: هي عليه حرام، فقد قصد غاية المنع من مداناتها، وذلك لا يكون إلا بالثلاث.
ومن قال: هو يمين، قال: إن لفظه بالأيمان والنذور أشبه من لفظ الطلاق فيجري عليه حكم الأيمان دون حكم الطلاق.
ومن جعله بمنزلة تطليقة واحدة، قال: هذا خطر يمكن تلافيه، وذلك لا يمكن إلا إذا جعل بمنزلة تطليقة واحدة.
وكذلك من قال: هو بمنزلة الظهار، فهذا كما ترى سلوك طريقة القياس لاعتبار العلل في طلب الإشتباه وإجراء الأحكام.
ومن ذلك خلافهم في المشتركة(1)
__________
(1) - المشتركة هي مسألة فرضية اشتهرت (بالحمارية) وهي أن امرأة هلكت وتركت زوجاً وأماً وإخوة لأب وأم وأخوين لأم؛ فإن علياً عليه السلام جعل للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث وأسقط الأخوة لأب وأم لاستغراق ذوي السهام للمال، وأما عمر فشرك بين الإخوة لأب وأم وبين الأخوين لأم في الثلث.
وسميت بالحمارية: لقول الأخوة لأب وأم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً ما زادنا إلا بعداً، ألسنا من أم واحدة.