[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على محمد وآله وسلم:
الحمد لله الذي جعل الحمد ذريعة للراغبين فيه إلى أعلى المراتب، والشكر سبيلاً للمريدين مما لديه من نفيس المطالب والمكاسب، ويسّر ذلك وسهّله، وزينه وجمَّله، وتمّمه وكمّله، بابتعاثه الداعي إليه، والدال عليه، نبي الرحمة، وسيّد الأمة، من أشرف بيت في أبناء لؤي بن غالب، وآزره وعضده وعمده بأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب؛ فكان صلى الله عليه مدينة العلم وعلي بابها، كما نقل ذلك عنه حملة الهداية وأربابها، من قوله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها(1))).
__________
(1) ـ حديث: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها..إلخ)) من الأحاديث الصحيحة المشهورة رواه أئمتنا وجمع من المحدثين؛ فممن رواه: الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام- في كتاب فيه معرفة الله عز وجل (طبع ضمن مجموع رسائل الإمام الهادي 53)، والإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهم السَّلام- في الأصول الثمانية (66) والإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي من عشر طرق مسندة (3/232)، وصاحب المحيط بالإمامة (خ)، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد -عليهما السلام- في الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد، والإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في العقيدة الصحيحة، وأورده القاضي العلامة الحسين بن أحمد السياغي بطرقه ورواياته في الروض النضير (1/109، 118)، ورواه الشريف الرضي في مجازات السنة النبوية (203، 204).
وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير (1/161) رقم (2705)، ومحب الدين الطبري في الرياض (3/159)، وفي الذخائر (77)، والحاكم في المستدرك (3/126) وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أيضاً من طريق أخرى (3/127)، والطبراني في الكبير (11/65) رقم (11061)، والحموي في فرائد السمطين (1/98) رقم (67)، والديلمي في الفردوس (1/44) رقم (106)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/99)، وابن الأثير في أسد الغابة (4/22) عن ابن عباس، وابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين علي (ع) (2/464) رقم (991) عن علي (ع) ورقم (992) عن ابن عباس، والحافظ السمرقندي كما في تذكرة الحفاظ (4/1231)، وصححه عن ابن عباس.
وابن المغازلي الشافعي في المناقب من عدة طرق فعن جابر من طريقين (71، 72) رقم (125)، وعن علي عليه السلام من طريقين (72) رقم (122)، (73) رقم (126)، وعن ابن عباس من ثلاث طرق (71) رقم (121)، (72) رقم (121، 124)، وروى نحوه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/558) رقم (1071)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/48)، وبطريق آخر (7/172)، وبطريق ثالث (4/348) عن ابن عباس، وابن حجر في تهذيب التهذيب (6/320)، و(7/427)، والمتقي في كنز العمال (11/614) رقم (32979) و(13/148) رقم (36463)، والمناوي في فيض القدير (3/46)، وفي الحقائق (43)، وابن حجر في الصواعق (73)، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (86)، وابن عدي في الكامل (1/195) عن جابر بن عبدالله الأنصاري، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (1/334) رقم (459)، و(2/272) رقم (1009) عن علي -عَلَيْه السَّلام- ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) عن ابن عباس، وقال: أخرجه الطبراني.
ورواه أيضاً السمهودي في جواهر العقدين، وقال عقبه: رواه الإمام أحمد في الفضائل عن علي -رضي الله عنه- والحاكم في المناقب من مستدركه والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ وابن حبان في السنة له وغيرهم كلهم عن ابن عباس مرفوعاً به بزيادة فمن أتى العلم فليأت الباب ورواه الترمذي من حديث علي مرفوعاً: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))..إلى قوله: وقال الحاكم عقب الأول: إنه صحيح الإسناد. انتهى.
وقال السيد العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي -رحمه الله- في تخريج الشافي: أخرجه الحاكم والخطيب وابن عدي والعقيلي وعبدالوهاب الكلابي عن ابن عباس كلهم، ورواه عبدالوهاب بطريق أخرى عن ابن عباس بلفظ: ((فمن أراد العلم فليأته من بابه)) وصححه الحاكم وابن جرير الطبري عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم عن جابر، وأخرج نحوه الكنجي عن جابر والطبراني عن ابن عباس بلفظ: ((لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها)) وأخرجه الكنجي عن علي. انتهى.
وأخرج منهما نسلاً كثيراً طيباً، بعثهم في الأرض بمنزلة الكواكب، لا يتأخر طالعهم عند أفول الغارب، أضاءت بأنوار علومهم المشارق والمغارب، ورتعت في رياض حلومهم الأعاجم والأعارب، رسخت بهم أصول الدين، وشمخت فروعه، وابتهج بحميد عنائهم معقول التعبد ومسموعه، أنقذوا عباده من الجهالة، وهداهم بهم من الضلالة، فله الحمد على ذلك كثيراً.
وبعد ذلك: فإن العلم وإن كثرت فنونه، وتفرقت شجونه، فإن أجله قدراً، وأهمه أمراً، وأوجبه حقاً بعد معرفة الله سبحانه وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز من توحيده وعدله وصحة نبوة رسله -صلوات الله عليهم-، وما يتعلق بذلك ويبنى عليه من فروعه اللازمة له بعد معرفة كلامه سبحانه، وأقسامه وأحكامه، وما يجوز عليه فيه وما لا يجوز، وكلام نبيه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأقسامه أيضاً وأحكامه، وما يجوز عليه وما لا يجوز، وما يتبع ذلك ويبنى عليه من فروعه اللازمة له، ويتعلق به، وحكم عارفه، وحكم جاهله، وحكم ما لم يدخل تحته، وهذا هو المراد بأصول الفقه.
وقد دل على ذلك الدليل العقلي، وترتب عليه التعبد الشرعي؛ فإن الأمر فيه عظيم، والجهل على بعض الوجوه قبيح، ولحاقُهُ بصاحبه أجدر.
ومثاله ما يعلم من أن أحدنا إذا علم أن بين يديه ملكاً قادراً وأنه قادم عليه لا محالة، وعلم أن له عليه حقاً واجباً، وأن الملك لا يقبل في حقه إلا نقداً مخصوصاً، فإنه يجب عليه في قضية العقل معرفة النقد معرفة حقيقة ليحصله مخلصاً له عن عهدة ما لزمه، ولا تحصل معرفة بدون دلالة.
ولأنا أيضاً قد علمنا من جهة العقل أنه يجب علينا اجتناب قبائح عقلية بالعقل، وعلمنا بالدلالة أنا مع الإتيان بالواجبات الشرعية نكون أقرب إلى الإتيان بالواجبات العقلية، والاجتناب للمقبحات العقلية.
وصار مثال ذلك في الشاهد ما نعلمه من أن أحدنا لو وجب عليه قضاء دين أو رد وديعة، وكان يتمكن من ذلك بفتح الباب، وإخراج المال، وتلحقه بعض مشقة، فإنه يقبح منه انتظار من يتحمل منه مؤنة هذه المشقة، ولا تكون مؤنة الفتح له في ترك الرد والقضاء عذراً، وحق الله سبحانه ألزم من حق العباد، وعهده أمر أوجب، فما أقرب أمر بعض هذين الفنين من بعض، والله المستعان، وما ذكرنا من هذا الإحتجاج هو الذي قضت به أصول أصحابنا، فمن تأملها فضل تأمل علم ذلك، وقد كان من تقدم من آبائنا -صلوات الله عليهم- ومن تابعهم من علماء شيعتهم -رضي الله عنهم- وَسَّعوا في هذين الفنين وصنّفوا وأجملوا، وحقّقوا وجلّلوا ودقّقوا؛ فجزاهم الله عنا خيراً.
[الداعي للأئمة(ص) وعلماء شيعتهم -رضي الله عنهم- إلى التأليف]
والداعي لهم إلى ذلك شدة الرغبة في هداية العباد، والتعرض لما أعد الله سبحانه لمن هدى إلى طريق الرشاد، فصار المتعرض بعدهم لتصنيف كتاب، وتبيين خطاب، لا يجتني إلا من ثمارهم، ولا يمشي إلا في آثارهم، ولا يستضيء إلا بأنوارهم، ولولا أن من يُعْلم فضله -مع تفضيله من كان قبله- سعى في مثل هذا الشأن، ما جرينا في هذا الميدان، ونرجوا من الله سبحانه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، ولا يخليها من القصد المطابق لما يفهم من ظاهرها بحقه، حتى يستوي السر والعلانية فيعظم الأجر، ويجبر ثواب الطاعة مشقة الفعل، ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
[الداعي له (ع) إلى تأليف هذا الكتاب]
وقد كان من جماعة من الإخوان الراغبين في العلم النافع، والطالبين للعمل الرافع، تعويل في تصنيف مختصر في أصول الفقه، يعم المهم من أقوال العلماء، ويخص أصول أصحابنا من أئمتنا -عَلَيْهم السَّلام-، وأتباعهم -رضي الله عنهم-، ونبين ما نختاره من ذلك ونعتمد عليه لمذهبنا بأدلته، وتمييز شرطه وعلته، فأجبتهم إلى ذلك تعرضاً لما أعد الله سبحانه لمن هدى إلى صراط مستقيم، أو دعا إلى منهاج قويم، وبالله أستعين وأستمد، وإياه أستهدي وأسترشد، صلى الله على محمد وآله.
فصل:[في تعريف الفقه]
اعلم أرشدك الله وهداك، وآثرك وتولاك: أن الفقه في أصل اللغة: هو العلم، بدليل أنك لا تقول: فقهت هذا الأمر وما علمته، ولا علمته وما فقهته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول علمت وما علمت.
ثم قد صار بعرف العلماء مفيداً للعلم أو الظن بجمل من الأحكام الشرعية وعللها وأسبابها وشروطها التي لا يُعْلَمُ باضطرارٍ أنها من الدين، فمن علمها على هذا الوجه، فقد علم الفقه، ومن لم يعلمها على هذا الوجه بل ظنها أو قلّد فيها لم يكن فقيهاً.
فصل:[في بيان طرق الفقه]
واعلم أنا نريد بقولنا: أصول الفقه: طرق الفقه، وطرق الفقه تنقسم إلى: دلالة وأمارة.
فالدلالة: هي ما كان النظر فيها على الوجه الصحيح يوصل إلى العلم.
والأمارة: ما كان النظر فيها على الوجه الصحيح يقتضي غالب الظن.
فصل:[في أقسام الدلالة والأمارة]
والدلالة أولى بتقديم الذكر من الأمارة؛ فالدلالة: الكتاب المعلوم، والسنة المعلومة، والإجماع المعلوم، والأفعال المعلومة، ويدخل تحت هذه الجملة الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ويلحق بذلك أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وإجماع عترته وأمته.
والأمارة: ما عدا ذلك وهي: أخبار الآحاد، والقياس، والإجتهاد، لأن النظر فيها على الوجه الصحيح لا يوجب إلا غالب الظن، كما قدمنا على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فصل
فمن علم هذه الجملة مفصلة كما ذكرنا أولاً فهو فقيه، وجازت فتواه، وهو المراد بقولنا: مفتي، ومن لم يفهمه فليس بفقيه، ولم يجز له الفتوى على ما نختاره.
فصل
وما خرج عن هذه الجملة بقي على حكم العقل، فما حظره فهو محظور، وما أباحه فهو مباح، وهو المراد بالكلام في الحظر والإباحة.
فصل:[في أقسام سنَّة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-]
واعلم أن سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم تنقسم إلى: قول وفعل وتقرير؛ فالقول والفعل ظاهران.
والتقرير كأن يرى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم غيره ممن يلتزم شريعته يفعل فعلاً شرعياً ثم لا ينهاه عنه مع التمكن، أو يقول له كيف تفعل في صلاتك مثلاً؟ فيقول: كذا وكذا، فيسكت عنه، فإن ذلك يدل على تصويبه، لولا ذلك(1) لأنكر عليه؛ لأن التغرير والتعمية والإقرار على المعصية لا يجوز عليه صلوات الله عليه؛ لكونه إماماً ورسول حكيم لا يجوز أن يعلم من حاله ذلك، ولا شيئاً من القبائح.
فصل:[في بيان انحصار أبواب أصول الفقه]
واعلم أن هذه الجملة التي تقدم ذكرها تنحصر في عشرة أقسام، وهي:
الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والأفعال والأخبار، والإجماع والقياس والاجتهاد، وصفة المفتي والمستفتي، والحظر والإباحة.
وإنما قلنا بانحصارها في هذه العشرة الأقسام؛ لأن القسمة دائرة بين النفي والإثبات، وذلك أمارة صحة القسمة.
__________
(1) - أي لولا التصويب له على ذلك.
لأنا نقول: طرق الفقه لا تخلوا إما أن تكون خطاباً أو غير خطاب، والخطاب لا يخلو إما أن يكون خطاب واحد، أو خطاب أكثر من واحد، وخطاب الواحد لا يخلو إما أن يكون خطاب قديم، أو خطاب محدث، ويدخل تحت جميع ما تقدم الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ من كلام الله سبحانه، وكلام نبيه عَلَيْه السَّلام.
وغير الخطاب لا يخلو إما أن يكون فعلاً أو غير فعل، وغير الفعل لا يخلو إما أن يكون استنباطاً أو غير استنباط، فغير الإستنباط هو التقرير من النبي -صلى الله عليه وآله- وعترته، وأمته، لو قُدِّر العلم بذلك، والإستنباط لا يخلو إما أن يكون له أصل معين، أو لا أصل له معين؛ فإن كان له أصل معين فهو القياس، وإن لم يكن له أصل معين فهو الإجتهاد؛ والمكلف لا يخلو إما أن يكون عالماً بهذه الجملة أو غير عالم، فإن كان عالماً بها فهو المفتي، وإن كان غير عالم فهو المستفتي، وما دخل تحت ما تقدم فحكمه ما قضى به، وما لم يدخل تحته بقي على حكم العقل، وهو المراد بالكلام في الحظر والإباحة.
فصل:[في تعريف الخطاب]
واعلم أنه يجب أن نبدأ بذكر الخطاب وَحَدِّه ليتميز لنا عن غيره مما ذكرنا مشاركته له في هذا الفن، ونتمكن من الكلام في كيفية تقسيمه وترتيبه، وتفصيله وتبويبه؛ لأن جميع ذلك فرع على معرفته في نفسه بحدِّهِ وصفته.
فنقول وبالله التوفيق: الخطاب: هو الكلام الذي يقصدُ به فاعلُه إفهامَ الغير غرضاً من الأغراض، وإنما قلنا هذا حده؛ لأنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة، ويحصر فائدته حتى لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه، وذلك أمارة صحة الحد؛ ولأنه أيضاً يطرد وينعكس، وذلك دليل في صحة التحديد.
فصل:[في أقسام الخطاب]
وهو ينقسم إلى: حقيقة ومجاز:
فالحقيقة: كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع منه معنى واحد أو معنيان أو أكثر على وجه لا يوجب ترجيح بعضها.
والمجاز: هو كل خطاب لا يراد به ما وضع له في أصل اللغة، فلا يسبق إلى فهم السامع عند إطلاقه معناه الذي استعير له إلا بقرينة.
والقرائن ثلاث: عرفية وحالية وعقلية، وهذا هو مذهب الجمهور.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز أن يكون في كلامه سبحانه مجاز، وذلك باطل؛ لأنا نعلم وجوده في كلامه سبحانه وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، فدلالة العقل وقرينة العرف تقضي بأن المراد أهل القرية وأهل العير.
وكذلك قوله سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وهو لا يريد ما تقدم من الجناح في أصل اللغة، وإنما استعار ذلك سبحانه، والمراد: تواضع لهما وكن كالطائر الخافض لجناحه تحنناً على فراخه، ولا تكن كالطائر المحلق عنهما تباعداً منهما، وتمرداً عليهما، والله أعلم، وهذا لا يعلم من ظاهر اللفظ، وإنما يعلم بالأدلة والقرائن، وأمثال ذلك كثير.
[أقسام الحقائق]
والحقائق تنقسم إلى: مفردة ومشتركة.
فالمفردة: ما أفادت معنىً واحداً كقوله سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65]، فإنا نعلم بقوله الحي أنه على صفة يخالف صفة الميت والجماد دون ما عداها، وبقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أنه سبحانه على صفة لا يستحق العبادة لكونه عليها سواه.
والمشتركة: مثل قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فإنه يفهم من هذا اللفظ أنه سبحانه فرد، وأنه لا يقبل الإنقسام، وأنه لا مثل له في ذاته وصفاته، وأنه منفرد بأنواع الكمال دون غيره في قوله وأفعاله، فلفظة (واحد) تتناول ما ذكرنا حقيقة بدلالة أنه سبق إلى فهم السامع عند إطلاق هذه اللفظة مجردة عن القرائن هذه المعاني على سواء.
والحقائق أيضاً تنقسم إلى ثلاثة أقسام: لغوية وعرفية وشرعية؛
فاللغوية: هي كل لفظة أفادت ما وضعت له في أصل اللغة كقولنا للسبع المخصوص: أسد، وللبهيمة المخصوص: حمار.
والعرفية: هي كل لفظة أفادت ما نقلت إليه بعرف اللغة عند إطلاقها، كقولنا: غائط، لقضاء الحاجة المخصوصة؛ لأن قولنا غائط كان في أصل اللغة موضوعاً للمكان المنخفض، ثم صار بنقل العرف يفيد قضاء الحاجة المخصوصة إذا أطلق.
والشرعية: هي كل لفظة إذا أطلقت سبق إلى فهم السامع معنىً شرعي كقولنا: صلاة، فإنها كانت في أصل اللغة موضوعة للدعاء، ثم صارت بنقل الشرع تفيد الأفعال والأذكار المخصوصة.
فصل:[في بيان الخطاب الوارد من الحكيم سبحانه]
فإذا ورد الخطاب من الحكيم سبحانه كان لا يخلو إما أن يتناول معنى أو لا يتناوله، باطل أن يخاطب سبحانه بخطاب لا يدل على معنى، كما ذهبت إليه الحشوية(1)؛ لأن ذلك يلحق خطابه بالقبح، والقبح لا يجوز عليه سبحانه، على ما ذلك في موضعه من أصول الدين.
وإذا تناول معنى فلا يخلو إما أن يتناوله بظاهر لفظه من دون اعتبار غيره، أو لا يتناوله إلا باعتبار غيره، فإن تناوله من دون اعتبار غيره فهو الحقيقة، وإن تناوله بشرط اعتبار غيره فهو المجاز.
__________
(1) ـ الحشوية: لا مذهب لهم منفرد وأجمعوا على الجبر والتشبيه وجسموا أو صوروا وقالوا بالأعضاء وقدم ما بين الدفتين من القرآن. قال الحاكم: ومنهم أحمد بن حنبل وداود الظاهري والكرابيسي. ومن متأخّريهم محمد بن إسحاق بن خزيمة صَنّف كتاباً في أعضاء الرب تعالى عن ذلك. انتهى الملل والنحل.
ولا يجوز أن يخرج خطابه سبحانه عن هذه الأقسام؛ لأنه حكيم، والحكيم لا يخاطب بخطاب لا يفهم منه فائدة أصلاً؛ لكون ذلك عبثاً قبيحاً على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين، كما ذكرنا؛ فإذا ورد الخطاب منه سبحانه محتملاً لمعنيين أو أكثر، ومحتملاً للمجاز وجب حمله على الحقيقة الشرعية؛ لأنها آخر الناقلين، وأقربها إلى الخطاب عهداً متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على العرفية؛ لأنها ناقلة والحكم للطاري متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على اللغوية؛ لأنها وضعت له في الأصل، فكان أولى بها متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على المجاز حفظاً للخطاب عن الضياع والإهمال الذي لا يجوز على الحكيم سبحانه كما قدمنا.
فصل:[في ترتيب أبواب أصول الفقه]
واعلم أن الواجب في الترتيب أن يبدأ بالكلام في الأوامر؛ لأن بها تثبت الأحكام الشرعية بأنفسها من دون اعتبار معنى.
ثم نتبعها بالنواهي؛ لأن بامتثال مقتضى النواهي يتم غرض الآتي بمقتضى الأوامر.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الخصوص والعموم؛ لأنه لا يمكننا استعمالهما جميعاً بعد علمنا بوجوب العلم بهما متى أمكن إلا بأن يبنى العام على الخاص.
ثم نتبع ذلك بالكلام في المجمل والمبين؛ لأنه يفيد مراداً منهما على الجملة يحتاج إلى بيان بعينه.
ونتبع ذلك بالكلام في الناسخ والمنسوخ؛ لأن الكلام فيهما يتعلق بالكلام في زوال مثل الأحكام الثابتة أولاً بالنصوص المتقدمة، بالنصوص المتأخرة على وجه لولاه لكانت ثابتة، بشرط التراخي.
ثم نتبع ذلك بالكلام في أخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأن أخباره تبنى في الصحة والقبول على كلام الله سبحانه.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الأفعال؛ لأنها لا يلزم الإمتثال لها إلا بدليل من القول، فكان تقديم الأقوال أولى، ولأن الأخبار تتعدى إلينا بأنفسها، والأفعال تفتقر إلى دليل.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإجماع؛ لأن الإجماع إجماع العترة والأمة وفعل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متقدم عليه، ولأنه لا يكون حجة إلا بعد وفاة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
ثم نتبع ذلك بالكلام في القياس؛ لأن الإجماع حجة يعلم صحة مقتضاها، والقياس يوجب ظن مقتضاه، والمعلوم الصحة أولى بالتقديم من المظنون.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإجتهاد؛ لأنه لا يرجع إلى أصل معين، فكان الذي يرجع إلى أصل أولى بالتقديم بل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع في تعرف حكم الحادثة بأمارات مقارنة، فكان ماله أصل معين أولى بالتقديم.
ثم نتبع ذلك بالكلام في المفتي؛ لأنه من علم هذه الجمل المتقدمة كما قدمنا.
ثم نتبعه بالكلام في المستفتي؛ لأنه من جهلها، والعالم أولى بتقديم الذكر من الجاهل، ولأن الجاهل يرجع إليه، فكان العالم كالأصل له وتقديم الأصل أولى من تقديم الفرع.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الحظر والإباحة؛ لأن جميع ما ذكرنا ناقل والناقل أولى؛ لأن الكلام في الحظر على المكلف إن كان فيما دخل تحت الجملة المتقدمة، والحكم فيه ما قضت به، وإن كان لم يدخل تحتها بقي على الحظر العقلي.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإباحة؛ لأن الحظر أحوط، فكان أولى بالتقديم.
فصل:[في شروط الإستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله]
واعلم أنه لا بد لمن أراد الاستدلال بخطاب الله سبحانه وخطاب رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من العلم بثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يجوز أن يخاطب سبحانه بخطاب لا يقصد به فائدة أصلاً كما تقوله الحشوية.
والثاني: أنه لا يجوز أن يخاطب سبحانه بخطاب موضوع في أصل اللغة لفائدة ويريد به غير تلك الفائدة، ولا يبين مراده، كما تقوله المرجئة.
والثالث: أنه لا يجوز أن يخاطب بالخطاب على وجه يقبح كالأمر بالقبيح، والنهي عن الحسن كما ألزمناه المجبرة.