الكلام في القياس والإجتهاد
فصل:[الكلام في الطريق الشرعية التي لا يُوصل النظر فيها إلى العلم هل تسمى أدلة شرعية أم لا؟]
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في العبارة عن الطريق الشرعية التي لا يوصل النظر إليها على الوجه الصحيح إلى العلم كأخبار الآحاد والقياس والإجتهاد وما شاكل ذلك.
فذهب الفقهاء وبعض المتكلمين إلى أنها تسمى أدلة شرعية.
وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لم يطلق عليها اسم الدلالة، وأنها تقال أمارة شرعية؛ لأن الدلالة يوجب النظرُ فيها على الوجه الصحيح حصولَ العلم، وما وقع الخلاف فيه يوجب النظرُ فيه على الوجه الصحيح غالبَ الظن.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقوي هذه المقالة ويعضدها، وإن كان لا يستبعد المقالة الأولى، ويقول: الخلاف فيما هذه حاله يقع في عبارة لا طائل في الإكثار من ذكرها، والإحتجاج في أمرها، ثم رأيته بعد ذلك لما قسم الأدلة الشرعية أورد الأمارة بلفظ الدلالة، وذلك في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه؛ لأنه قال في القسمة: أدلة الشرع لا تخلو: إما أن تكون ظاهراً ونصاً(1)، وغير ظاهر وغير نص، وما ليس بظاهر منه ما لا يحصل فيه طريقة معينة مثل ما يتوصل به إلى قيم المتلفات، ومنه ما له طريقة معينة يسار إليها، وذلك هو القياس.
__________
(1) - هكذا في الأصل ووضع عليها علامة (ظ) التي تفيد الظن، وقال في الهامش: نخ: لأمر ظاهر ونص.
ولما كان كل دليل فله مدلول وجب فيما له طريقة معينة أن يدل على مدلول قال: ومدلوله لا يخلو: إما أن يكون حكماً، وإما أن يكون دليلاً على حكم، فما يدل على حكم مما له طريقة يسار إليها فهو القياس، وما يدل على دليل حكم منه ما يدل على علة حكم؛ لأن علة الحكم دليل على الحكم وذلك نحو ما يستدل به على أن الكيل أولى من الطعم في علّة الربا، ومنه ما يدل على أن مراد الله سبحانه بخطابه المشترك نحو ما يدل على أن المراد بآية الأقرؤ –الحيض-، ومنه ما يدل على أن الله تعالى أراد بالكفارة المتعلقة بالجماع، هو أن يعلقها بهتك حرمة صوم شهر رمضان مع ضرب من المآثم، هذا هو الإستدلال على موضع الحكم عند أبي الحسن.
والصحيح: أن ذلك قياس على ما نبينه فيما بعد، فيدخل ما ذكرناه في الكفارة فيما يدل على علة حكم، فعلى هذه الطريقة يجري القول في أقسام الأمارات.
واعلم أن هذا التفصيل ذكره رحمه الله فأوردناه على ما ذكره من غير زيادة ولا نقصان، فانظر كيف عبر فيه عن الأمارة بالدلالة.
واختيارنا في قسمة أدلة الشرع: أن نقول: لا تخلو أدلة الشرع: إما أن تكون نصاً أو غير نصّ، وغير النص لا يخلو: إما أن يكون مدلول نص أو حكم نص، أو لا يكون مدلول نص ولا حكم نص كالتقديرات وما شاكلها، فحكم النص لا يخلو: إما أن يرجع إلى أصل معين، أو لا يرجع إلى أصل معين، فما رجع إلى أصل معين فهو القياس، وما لم يرجع إلى أصل معين فهو الإجتهاد، وهما اللذان نريد ذكرهما هاهنا؛ فأما الأقسام الأولة، فقد تقدم الكلام فيها.
مسألة:[الكلام في حدِّ القياس]
اعلم أن الواجب أن يبدأ بالكلام في حد القياس، ثم يرجع بعد ذلك إلى تفريع مسائله وأبوابه، وذكر علله وأسبابه، وذكر من خالف فيه ومن وافق، بعد معرفته بحده وحقيقته وبالله التوفيق.
اختلف أهل العلم في حدّ القياس؛ فمنهم من قال: هو استخراج الحق من الباطل، وهذا فاسد؛ لأن الحق يخرج من الباطل بظواهر النصوص ولا يكون قياساً.
ومنهم من قال: هو الإستدلال وهذا يبطل أيضاً بما يستدل عليه من الأحكام بظواهر النصوص ولا يكون قياساً.
ومنهم من قال: إنه التشبيه وهذا يلزم من أن يكون من قال الأرز يشبه البر في الصلابة أن يكون قايساً، وأن يوصف الله سبحانه بأنه قايس إذا شبه أحد الشيئين بالآخر، ومعلوم خلافه.
ومنهم من قال: هو مقابلة الفروع بالأصول ليعلم ما يوافقه، وهذا يلزم أن من قابل الفروع بالأصل الذي لا تثبت فيه علة الحكم أن يكون قايساً، وأن تكون مقابلته قياساً.
ومنهم من قال: هو التعديل بين الشيئين، وهذا ينتقض بمن يسوي بين الأمرين لغير شبه يجمعهما ولا علّة تنتظمهما، فيقول: البر عندي كالسمن مثلاً أو غيره من المائعات؛ فإنه لا يكون والحال هذه قايساً، أو يقول: البر كالأرز في لذة الطعم فإنه لا يكون قايساً.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي هاشم أنه قال: القياس حمل الشيء على الشيء، وإجراء حكمه عليه، قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا يصح إن أراد إجراء حكمه عليه للشبه الذي بينهما، ولكنه لم يصرح به، وإن لم يرد ذلك لم يصح.
وحدّه قاضي القضاة بأنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه.
وحدّه الشيخ أبو الحسين بحدّين:
أحدهما: أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد، وهذا الحد قريب مما ذكره قاضي القضاة إلا أنه يرد عليهما النقض لقياس العكس كما يقول القائل: لو لم يكن الصوم من شرط الإعتكاف لما لزم وإن نذر به، كما أن الصلاة لما لم تكن من شرط الإعتكاف لم تلزم، وإن نذر بها فالأصل هو الصلاة، والحكم نفى كونها شرطاً، فلم يثبت هذا الحكم في الصوم الذي هو أحد أصلي القياس، وإنما يثبت نقيضه، فهذا لم يحصل فيه حكم الأصل المفرع، وإنما حصل نقيضه، ولم يشتبها في علة الحكم بل تنافيا وهذا من القياس، فخرج عن الحدين المتقدمين، ومن حق الحد أن يكون جامعاً مانعاً لا يخرج عنه ما هو منه، ولا يدخل فيه ما ليس منه.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يجيب عن ذلك: بأنه إذا كان المعقول من القياس قياس شيء على شيء، ولا يقيسه عليه إلا وقد اعتبر حكمه، ولا يعتبر حكمه إلا بالشبه بينهما، وكان ذلك لا يصح في قياس العكس كان من تسميته مجازاً فلا يقدح خروجه في حد القياس الذي ذكره الشيخ أبو الحسين.
وللمعترض على هذا الحد أن لا يسلم تسميته مجازاً؛ لأنه خارج عن حد المجاز؛ لأن المجاز يفيد ما استعير له، وهذا وضع أفاد ما في الأصل، ولكن القياس ينقسم إلى: قياس الطرد، وقياس العكس.
فقياس الطرد: يحمل فيه الشيء على الشيء، ويجرى عليه حكمه باعتبار ضرب من الشبه، لعلة رابطة بين الأصل والفرع عند المجتهد.
وقياس العكس: هو حمل الشيء على غيره لتنافيهما في علة الحكم ليجرى عليه نقيض ذلك الحكم، وتسمية هذا القياس عند أهل الشرع ظاهرة، وإن لم يكثر استعماله.
فإذاً الحد الشامل للقياسين أن يقال: القياس هو حمل الشيء على الشيء وإجراء حكمه عليه بضرب من الشبه لعلة تربط بين الأصل والفرع، أو حمل الشيء على الشيء وإجراء نقيض حكمه عليه بضرب يوجب اختلافهما في الشبه لتنافي علة الأصل والفرع؛ فهذا الحد يجمع القياسين.
والحد الثاني: الذي حكاه شيخنا عن أبي الحسين هو: أن القياس تحصيل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره.
قال رحمه الله تعالى: وهذا الحد يشمل القياسين، أما قياس الطرد فقد حصل الحكم في فرعه باعتبار تعليل الأصل، وأما قياس العكس فإنه قد اعتبر فيه تعليل الأصل لنفي حكمه عن الفرع لافتراقهما في العلة.
قال رحمه الله: فهذا حد القياس على الجملة، ثم هو ينقسم إلى: قياس الطرد، وقياس العكس، وكان يصح هذا الحد ويقتضي سلامته إلا أنه يمكن نقضه بما نعلمه أن الإنسان إذا حصل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره، ولم يعتبر الشبه الموجب للمماثلة، والعلة التي توجب المشاركة لم يكن قياساً عندنا؛ لأنه لو قال: البر مكيل جنس؛ لأنه يماثل المكيلات، والجوز معدود جنس ولا يجوز بيعه متفاضلاً كالبر فقد حصل هاهنا الحكم للجوز باعتبار تعليل البر، ولم يكن قياساً ولا كان تحصيله قياساً لما لم يجمع بينهما بشبه، ولا تربطهما علة عند المجتهد، إلا أن يراد بهذا التحديد ما يشمل الصحيح والفاسد من الحدود فيجزي في ذلك أن يقال: القياس هو إجراء حكم الشيء على الشيء؛ فإن من فعل ذلك ولم يعتبر في القياس ما قدمنا يقال: لم قست ما لا يقاس؟ وأخطأت في هذا القياس.
فصل: [الكلام في أركان القياس]
فإن قيل: فما الأصل؟ وما الفرع؟ وما الشبه؟ وما العلة؟ وما الحكم الذي قدمتم ذكره وتكلمتم فيه؟
قلنا: إن الفقهاء والمتكلمين قد اختلفوا في أصل القياس.
فعند المتكلمين: الأصل هو الخبر الدال على ثبوت الربا في البر، والفرع هو الحكم المطلوب إثباته بالتعليل لقبح بيع الأرز متفاضلاً؛ لأنه هو المتفرع على غيره دون نفس الأرز.
وعند الفقهاء: أن الأصل هو الشيء الذي يثبت حكم القياس فيه بالنص كالبر، أو يسبق العلم بحصول حكم القياس فيه.
وقد قال بعضهم: بل هو حكم القياس من حيث هو ثابت بالنص، نحو كون التفاضل في البر حراماً، والفرع هو الذي يطلب حكمه بالقياس أو الذي يتعدا إليه حكم غيره أو الذي يتأخر العلم بحكمه كالأرز.
وما ذكره المتكلّمون أولى، وكان شيخنا رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
ويحتج له: بأن الأرز لا يتفرع على غيره، وإنما المتفرع حكمه، وكذلك البر ليس بأصل، وإنما الأصل حكمه.
وأما الشبه: فهو ما يستوي فيه الشيئان من الصفات سواء كانت صفة ذاتية أو غير ذاتية كاشتراك الجوهرين في التحيز، وقد يكون الشبه صفة تفيد حكماً عقلياً وسمعياً، وغرض الفقهاء من ذلك ما اقتضى الحكم السمعي.
وأما العلّة في عرف الفقهاء: فهي ما أثرت في ثبوت حكم شرعي فإنما يكون الحكم شرعياً بأن يستفاد من جهة الشرع.
فأما حكم القياس الشرعي: فهو ينقسم إلى كون الفعل قبيحاً وحسناً وواجباً، وكون فعله أولى من تركه، وكون تركه أولى من فعله، وهذا التفصيل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى فاتبعنا أثره، واختيارنا فيه ما ذكره.
مسألة:[الكلام في حد الإجتهاد الشرعي]
اختلف أهل العلم في حدّ الإجتهاد الشرعي.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الشافعي ذكر في الرسالة أن القياس والإجتهاد واحد.
ومنهم من قال: الإجتهاد ما لا أصل له، والقياس ما له أصل، وهذا قول أبي الحسن.
وذكر الحاكم أن المتكلمين قالوا: الإجتهاد ما اقتضى غالب الظن في الأحكام التي كل مجتهد فيها مصيب.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الإجتهاد يستعمل في معنيين: أحدهما أعم، والثاني أخص.
فالأعم: هو بذل الجهد في معرفة الأحكام من جهة الإستدلال بالنصوص لا بظواهرها.
وأما الأخص: فهو ما ليس له أصل معين بما تعرف به الأحكام الشرعية لا من جهة النصوص نحو قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ومتعة المطلقات، قال: لأنه لا يمكن أن تحصل في ذلك طريقة يمكن الإشارة إليها، بل المرجع بذلك إلى أمارات من عادات الناس وغيرها، وهي تختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومنهم من قال: الإجتهاد عبارة عن طريق سوى النص تثبت به أحكام الفروع، ويتضمن ضرباً من المشقة على وجه يسوغ الخلاف فيها، وهذا الحد هو الذي نختاره؛ لأن الإجتهاد الشرعي غير النص المقطوع عليه الذي يستفاد منه العلم بالأحكام؛ لأن الأحكام الشرعية المعلومة بالنص لا توصف بأن طريقها الإجتهاد، ومخالفه أيضاً من حيث كان الحق من مقتضاه واحداً لا يسوغ الخلاف فيه، ويبنى أيضاً أن في استعماله بعض المشقة؛ لأن الحكم المستفاد من غير النص لا بد في تحصيله من حصول بعض المشقة؛ لأنه لا يحصل إلا بنظر وذلك يفيد وقوع المشقة، ولولا ذلك لما سميناه إجتهاداً إلا أن الإجتهاد يبنى على ما لا يحصل إلا بالمشقة؛ لأنك تقول: اجتهدت في نقل هذه الحجر من هذا المكان إلى غيره، ولا تقول: اجتهدت في نقل هذه النواة من هذا المكان إلى غيره، وقولنا يسوغ الخلاف فيها جمعاً بين قولي أهل الإجتهاد؛ لأن منهم من قال: الحق في واحد، ولكن المخطيء يسوغ له خطاه ويعذر فيه، وبين من قال كل مجتهد مصيب، وهذا الحد عندنا أولى من غيره.
وأما من قال: القياس والإجتهاد واحد، فذلك لا يصح لأن الإجتهاد يستعمل حيث لا يستعمل القياس، والقياس يستعمل حيث لا يستعمل الإجتهاد، ولهذا يقول الإنسان: اجتهدت في الترجيح بين الخبرين ولا يقول: قست، ويقول: قست تحريم الأرز بالبر، ولا يقول: اجتهدت تحريم الأرز بالبر.
وأما ما قال أبو الحسن من أن القياس ما له أصل، والإجتهاد ما لا أصل له، فينتقض بأن كل واحد منهما له أصل؛ فأصل الإجتهاد الخبر الذي قضى بوجوب استعماله، كما أن أصل القياس الخبر الذي يبنى حكم الفرع عليه، وإن أراد الأصل المعين فذلك لا أصل له معين، فهذا مبني على تسليم أهل الشرع بعد المعرفة بانفصال القياس عن الإجتهاد، ونحن في تحديده في الأصل.
وأما ما ذكره الحاكم من قول بعض المتكلمين فإنه يخرج منه قول بعض أهل العلم الذين لا يقولون بأن كل مجتهد مصيب، ومن حق الحد أن يمنع.
وأما ما ذكر شيخنا رحمه الله تعالى من الحدين، فهو ثابت في الأعم، فأما الأخص فلا بد من اعتبار بعض المشقة؛ لأن قوله: تعرف به الأحكام الشرعية لا من جهة النصوص يقتضي بأن لا بد من بعض المشقة ولكن التصريح في التحديد أولى.
فأما الرأي: فهو اسم لما يتوصل به إلى معرفة الحكم الشرعي من الإستدلال والقياس والإجتهاد، ولهذا قال معاذ: (أجتهد رأيي)، وقال عمر: (هذا ما رأى عمر) في مثل ما ذكرنا، ومثل هذا عن الصحابة كثير.
مسألة:[الكلام في إثبات أن القياس أحد أدلة الشرع]
ذهب أكثر العلماء من المتكلمين والفقهاء إلى أن القياس أحد أدلة الشرع التي يجب المصير إليها، وخالف في ذلك نفر ومنعوا من كونه دلالة على الشرعيات، وهم النظام والجعفران(1)، وأهل الظاهر على طبقاتهم والإمامية، ثم اختلفوا فيما لأجله منعوا منه:
__________
(1) ـ الجعفران هما: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي المتوفى سنة (237هـ)، وجعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي، المتوفى سنة (224هـ)، من المعتزلة البغدادية من الطبقة السابعة، كانا يميلان إلى التشيع، وكان يضرب بهما المثل في العلم والعمل والزهد والورع.
فمنهم من قال: إن الشرع ورد على وجه يمنع من استعمال القياس؛ لأن من حق القياس الجمع بين المتساويين، والفرق بين المختلفين، والشرع ورد بالتفرقة بين المتساويين، والجمع بين المختلفين، كما أنا نعلم أن الحيض يمنع من الصلاة والصوم على سواء، ثم ورد الشرع بوجوب قضاء الصوم دون الصلاة، وكذلك الأمة الحسناء تساوي الحرة الحسناء، فورد الشرع بالمخالفة بينهما، فكان ما هو عورة من الحرة غير عورة من الأمة، بل قد ورد الشرع بما هو أبلغ من ذلك، وهو إباحة النظر إلى الأمة الحسناء، وحظره إلى الحرة الشوهاء إلى غير ذلك مما يجانسه.
وذكر لنا شيخنا رحمه الله تعالى هذا الإحتجاج من نفاة القياس في المذاكرة، وهو المحكي عن أبي إسحاق النظام.
ومنهم من قال: لو جاز التعبد بالقياس في بعض الشرعيات لجاز في جميعها كما نعلمه من دلالة العقل؛ فإنها لما كانت دلالة في بعض العقليات كانت دلالة في جميعها، وهذا المقالة تُحكى عن البهراني(1) منهم.
ومنهم من قال: لو جاز التعبد بالقياس اعتبر أن القياس طريقه الظن دون العلم فلا يجوز استعماله، وهو المحكي عن داود(2).
ومنهم من قال: إن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يقتصر بالمكلف على أدون البيانين دون أعلاهما، والنص أعلى البيان من القياس، فلا يجوز العدول عنه إلى القياس.
ومنهم من قال: إن التعبد بالقياس يؤدي إلى جواز التعبد بالأحكام المتضادة المتنافية.
__________
(1) - هكذا في النسخة والذي يحكى له خلاف في التعبد بالقياس هو النهرواني -انظر المنهاج والفصول وغيرهما- وهو الحسين بن عبيد من أصحاب داود الظاهري لكن خالفه في مسائل قليلة. انظر المنية والأمل.
(2) ـ داود بن علي بن خلف الظاهري، ولد بالكوفة سنة (202هـ)، ونشأ ببغداد، وكان زاهداً ناسكاً، وهو الذي أنكر حجة العقل، وتوفي سنة (270هـ) ببغداد.
ومنهم من قال: التعبد به جائز، ولو ورد لقلنا به، ولكنه لم يرد، فهذه ست مقالات في المنع من القياس ينبغي أن نتكلم عليها أولاً قبل الكلام في أمر القياس.
فالذي يدل على بطلان المقالة الأولى: أنا نقول إن الشرع ورد على وجه يقتضي بصحة القياس؛ لأنه يوجب أن كل أمرين اشتركا في علة الحكم وجب أن يشتركا في ذلك الحكم، وإن اختلفا في الصورة، وما ذكره من أن القياس يوجب المساواة بين المثلين في الصورة غير سديد؛ لأن مبنى التكليف على مصالح استأثر الله بعلمها ولا يمتنع اختلاف المتشابهين في الصورة في باب المصلحة، فلا يكون لمشابهتهما تأثير.
وأما المقالة الثانية: وهي أن التعبد بالقياس لو جاز في بعض الشرعيات لجاز في جميعها كما في دلالة العقل؛ فالكلام عليها أنا نقول: هذا جمع بين الشيئين من غير علة تجمعهما، وذلك لا يجوز، ولأن هذا قول من لا يعرف القياس؛ لأنه لا بد للقياس من أصل يرجع إليه ليبتني القياس عليه، وهذه المقالة توجب رجوع القياس إلى غير أصل فكأن هذا القائل قال: إن كان التعبد بالقياس صحيحاً أوجب أن يستعمل حيث لا يجوز استعماله، وهذا خُلْف من القول وجرى مجرى من يقول: لو كانت دلالة العقل صحيحة لوجب استعمالها في الشرعيات، فإذا لم يمكن استعمالها في الشرعيات فهي باطلة، فكما أن هذا القول لا يستقيم كذلك ما تقدم.
فالمقالة الثالثة: وهي المنع من جواز استعمال القياس لأجل أنه يرجع إلى الظن؛ فالدليل على بطلانها: أن كثيراً من الشرعيات ترجع إلى الظن، وقد قضى الكل بجوازه كالقول في قيم المتلفات وأروش الجنايات، والحكم بشهادة الشهود إلى غير ذلك، فكما وجب ثبوت هذه الأحكام عند الكافة في الشريعة والمرجع بها إلى الظن فكذلك القياس.