بن عمران في أن المجتهد يجوز أن يبلغ في الإجتهاد إلى رتبة يجوز له الفتوى بما يخطر بباله من غير اعتبار دلالة ولا أمارة، وهذا باطل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه قد تقرر وجوب طلب الدلالة والطرق عند كافة الأمة في الحوادث والمسائل، ولا يجوز على الأمة التمالي على ترك الواجب؛ لأن ترك الواجب أكبر الضلالة، وقد عصموا من الإجماع على الضلالة، فإذا أجمعوا علمنا أنهم ما أجمعوا إلا عن أمارة أو دلالة، ولأن المعلوم أنهم لا يجمعون إلا على ما يعلمون كونه صواباً، والصواب لا يحصل على طريق الإستمرار بالإتفاق.
أما أنهم لا يجمعون إلا على ما يعلمون كونه صواباً؛ فذلك ظاهر لولا ذلك لما وجب علينا اتباع الإجماع.
وأما أن الصواب لا يحصل على طريق الإستمرار بالإتفاق فمعلوم أيضاً، كما أنا نعلم أن من أخبر عن الغيب مستمراً من غير علم بما أخبر به كان خطاؤه أكثر من صوابه، وكذلك من كتب بغير معرفة بالكتابه كان الغالب عليه الخطأ وإن جازت إصابته في النادر، فلو جوّزنا على الأمة الإجماع من غير رجوع إلى طريق لكان خطاؤهم أكثر من صوابهم، وذلك لا يجوز، ولأن المعلوم أن حالهم في التوفيق لا يكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد ثبت أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لم يكن يتكلم في الحوادث باختيار نفسه ثقة منه بالتوفيق بل كان معوله على ما يأتي من عند ربه، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم:3ـ4]، فنفى أن يكون كلامه قطعاً بغير دلالة، فالأمة في الأولى بالاحتراز والتثبت في الأمور، ولأنهم لو أقدموا على ذلك بغير دلالة ولا أمارة لكان ذلك إقداماً على ما لا يأمنون كونه خطاء، والإقدام عليه قبيح، ولا يجوز من الأمة الإقدام على القبيح، فهذا ينقض تقدير وقوع الإجماع رأساً.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا تواتر بين أهل العصر وحصل إجماع على موجبه]
إذا تواتر الخبر بين أهل العصر وحصل منهم إجماع على موجبه، فقد اختلفوا.
فمنهم من قال: يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله إن كان جلياً لا يحتاج في معرفة معناه إلى نظر طويل واجتهاد.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى هذا القول عن الشيخ أبي هاشم وأبي الحسين البصري، وكان رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه إن تواتر من بَعدُ علمنا أنهم أجمعوا لأجله، وإن لم يتواتر لم نقطع على أنهم أجمعوا لأجله.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المعلوم لنا من حالهم البحث عن الأدلة والبراهين، فإذا ظهر بينهم النص الجلي الظاهر المعنى وجب عليهم اتباعه، وقد علمنا منهم أنهم لا يخلون بالواجب، فقطعنا على أنهم أجمعوا لأجله لا محالة.
وأما ما ذكره الشيخ أبو عبدالله من أنه إن تواتر من بعدهم قطعنا أنهم أجمعوا لأجله، وإن لم يتواتر لم نقطع، فذلك غير لازم؛ لأن حصول الإجماع على مقتضاه يقلل الدواعي إلى نقله لحصول ما يقوم مقامه من الإجماع فيقل ناقله فلا يتواتر لذلك.
فأما إذا كان الخبر يحتاج في الإستدلال به إلى اجتهاد طويل وبحث وعناية، ولم يظهر أنهم أجمعوا لأجله لم نقطع على أنهم أجمعوا لأجله، وهذا هو الصحيح، وإنما لم نقطع لتجويزنا أن الكل لا يحتمل مؤنة البحث ومشقة نظر الإجتهاد، فيكونوا أجمعوا لأجل خبر أجلى منه، ولم ينقل إلينا لاستغنائهم بالإجماع عنه أو القياس أو ما أشبهه من الطرق الشرعية، فلو قطعنا والحال هذه لكان ذلك القطع بغير دلالة، والقطع بغير دلالة لا يجوز.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا وقع الإجماع على مقتضاه]
فأما خبر الواحد إذا وقع الإجماع على مقتضاه فقد اختلف أهل العلم هل يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي هاشم أنه قال: يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله والشيخ أبي الحسين أنه لا يجب القطع على ذلك إلا إذا علم أنهم أجمعوا لأجله، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ذلك، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن خبر الواحد أمارة يجوز اختلافهم في استعمالها، وذلك معلوم لنا من حالهم؛ لأنهم متعبدون فيها بغالب الظن ويجوز أن لا يغلب على ظن بعضهم صدق ذلك الخبر فلا يجوز لهم العمل عليه، ويعملون على خبر آخر أو قياس، ومع تجويز هذا لا يجوز القطع على أنهم أجمعوا لأجله؛ لأنه يكون إقداماً على ما لا يأمن الإنسان خطأه فيه وذلك لا يجوز.
فأما إذا علم أنهم أجمعوا لأجله فإنه يجب علينا القطع على ما نحن نعلم، وحصول العلم لنا أنهم أجمعوا لأجله يقع بوجوه:
منها: أن يختلفوا في الحكم إلى أن يروي الواحد الخبر فينقطع الخلاف لأجل روايته وذلك كخبر وجوب الغسل من التقاء الختانين.
ومنها: أن يتوقفوا في الحكم حتى يروي لهم الراوي الخبر كما في قصة خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس.
ومنها: أن ينصوا أنا أجمعنا لهذا الخبر.
ومنها: أن لا يكون للإجماع وجه يرد إليه إلا معنى هذا الخبر، وهذا النوع الآخر يمكن أن لا يحصل لنا به العلم أنهم أجمعوا لأجله لتجويزنا أن يكون له وجه آخر من أخبار الآحاد قضى بصحته عند بعضهم ثم لم ينقل إلينا اكتفاء بالإجماع فانقطع نقله فلا يجوز لنا مع هذا التجويز القطع فيما هذا حاله.
فصل: في معرفة طرق الإجماع التي بها يلزم فرض الإجماع
[تقسيم طرق الإجماع]
اعلم أن طرق الإجماع لا تخلو: إما أن تكون شرعية معلومة أو مظنونة.
فالمعلومة لا تخلو: إما أن تكون عقلية أو غير عقلية، وغير العقلية لا تخلو: إما أن تكون شرعية أو غير شرعية، ولا يجوز أن يحصل لنا علم الإجماع بالعقل؛ لأنه لا هداية للعقل إلى العلم بأحوال الناس؛ لأن ذلك يلحق بعلم الغيب الذي استأثر الله سبحانه بالإحاطة به.
ولا يجوز حصوله بطريق شرعية؛ لأن ما يوجب منها العلم هو الكتاب والسنة ولا دليل فيهما على وقوع علم الإجماع لنا.
وغير الشرعية هي الأخبار المتواترة والمشاهدة وهذه جملة ما يتوهم حصول العلم لنا بالإجماع بها، والمشاهدة والأخبار المتواترة طريقان لنا إلى العلم بالإجماع، فالمشاهدة في ذلك تنقسم إلى قسمين:
مشاهدة الكل يفعل فعلاً أو يقول قولاً، ومشاهدة البعض يفعل فعلاً أو يقول قولاً، ثم يحصل لنا العلم باختيار الباقين لذلك الفعل والقول، أو بما يضطر إليه من شاهد الحال أو بنقل من يعلم بنقله صحة ما نقله، فهذا العلم الذي يحصل لنا في الإجماع من طريق المشاهدة.
وأما ما يحصل لنا بالأخبار المتواترة فعلى وجهين أيضاً:
أحدهما: أن ينقل إلينا العدد الذين يكون خبرهم متواتراً -لبلوغهم في الكثرة إلى حد مخصوص وتباين أغراضهم-، أنهم شاهدوا الأمة تفعل فعلاً أو تقول قولاً علموا قصدهم فيه، أو ينقل إلينا من قدمنا ذكره أنه شاهد البعض يفعل فعلاً أو يقول قولاً مما الحق فيه واحد بمحضر الباقين أو علمهم ولم ينكر عليه مع ارتفاع الموانع، فإن هذه الوجوه توجب العلم بحصول الإجماع.
فأما إذا كانت المسألة من مسائل الإجتهاد وعملوا عليها أو قالوا بها أو ظهر لنا اختيار البعض بفعل البعض الآخر أو قوله ارتفعت عن باب الإجتهاد، وإن كان للإجتهاد فيها مسرح ولحقت بباب ما الحق فيه واحد.
وأما المظنون: فهي أخبار الآحاد على وقوع الإجماع، وهي تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: متفق فيه، والثاني: مختلف فيه بعد القول بجواز العمل على أخبار الآحاد في باب الإجماع.
فالمتفق عليه: كأن ينقل إلينا من نثق به من الآحاد الذين تقدمت صفتهم في باب الإجماع أن الأمة قالت قولاً أو فعلت فعلاً على وجه الإطباق، فهذا إجماع بلا خلاف، ويلحق به أن يفعل البعض فعلاً أو يقول قولاً بمشهد الباقين وتكون المسألة مما الحق فيه واحد، والموانع مرتفعة أعني التي يمكن أن يعتل بها لترك الإنكار ثم لا ينكر عليه البعض الآخر.
والمختلف فيه: كأن تكون المسألة اجتهادية، ثم يفعل البعض فعلاً أو يقول قولاً ثم لا ينكر عليه البعض الآخر مع ارتفاع الموانع، فعندنا ليس بإجماع، وعند بعضهم هو إجماع، وسيأتي الكلام في هذه الأقوال مفصلاً إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في الإجماع السكوتي]
إذا قال بعض أهل العصر قولاً ثم انتشر في جميعهم ولم ينكر، فلا يخلو إما أن تكون المسألة من مسائل الإجتهاد، أو تكون مما الحق فيه واحد.
فإن كانت مما الحق فيه واحد، وقال بعضهم بذلك، وسكت الباقون، لم يخل إما أن يكون لسكوتهم وجه يصرف إليه أو لا يكون؛ فإن كان لسكوتهم وجه يصرف إليه لم يحصل لنا العلم بوقوع الإجماع، كما نقول في سكوت من سكت عن إنكار إمامة أبي بكر وعمر وعثمان(1)
__________
(1) ـ عثمان بن عفان أبو عمر القرشي الأموي، أسلم بعد نيف وثلاثين، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ولم يحضر بدراً، وبويع له بالخلافة سنة أربع وعشرين، وكان سبب حصره أنه كان كلفاً بأقاربه، وكانوا أقارب سوء، فقتل في ثماني عشر الحجة سنة خمس وثلاثين، وله تسعون سنة؛ فمكث ملقى على المزبلة لا تدفن جثته ثلاثة أيام، وكان الصبيان يمشون على بطنه ويقولون:
أبا عَمْروٍ أبا عمروٍ .... رماك الله بالجمرِ
ولقّاكَ من النّار .... مكاناً ضيّق القعرِ
فما تصنع بالمال .... إذا دُليّت في القبرِ
انظر: لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى (3/154، 155)، ومجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (282، 293).
، فإنا نقول: إن سكوتهم مخافة من وقوع الفتنة، وانشقاق العصا، وخيفة من انهدام ركن الإسلام، لقرب عهد الناس بالكفر، وغراءة أهل النفاق، وشياع الردة في العرب، مع ما وقع من إجماع الأكثر على الأقل ممن كان كارهاً لذلك، فهذه وجوه بعضها يكفي لو جوزنا وقوع السكوت.
وإن لم يكن للسكوت وجه يصرف إليه وكانت الموانع عن الإنكار زائلة قضينا بأن ذلك إجماع منهم على تصويبه؛ لأنه لو كان خطأ كان العامل عليه أو القائل به مخطئاً، والساكت عن النكير مخطئاً، وذلك يوجب اتفاق الجميع على الخطأ، وذلك لا يجوز لما تقدم بيانه.
وإن كانت المسألة من مسائل الإجتهاد؛ فالقائلون بأن الحق في واحد يقولون بقولنا.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف القائلين بأن كل مجتهد مصيب.
فكان يحكي عن أبي علي كون ذلك إجماعاً إذا انقرض العصر ولم يظهر مخالف، وهو قول أكثر الفقهاء.
وحكى عن أبي هاشم وأبي الحسن أن ذلك لا يكون إجماعاً، وإنما يكون حجة.
وحكى عن أبي عبدالله أن ذلك لا يكون إجماعاً ولا حجة، وهو قول أصحاب الظاهر، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أنه إن قال به البعض أو فعلوه وهو من مسائل الإجتهاد، وقد ثبت أن كل مجتهد مصيب، لم يجب على الباقين إنكاره؛ لأنه إنما يجب إنكار المنكر، وهذا ليس بمنكر بل هو حق، ولا يمتنع أن يكون عند الساكت قول غير هذا القول يعتمد عليه ويختاره ولا يظهر إما لتشاغله عن إظهاره أو لبعض الموانع الممكنة.
أو يجوز أن الصواب في المسألة غير ذلك إلا أنه لم ينظر فيها لبعض الموانع من الإشتغال وغيرها فلا يصح القطع على أن ذلك القول حاصل بإجماع الكل فيما هذا حاله.
وأما قول من يقول إنه حجة، فإن أراد بالحجة أنه يحرم خلافه، فذلك غير مسلم؛ لأنه إنما يحرم خلاف الإجماع، وهذا ليس بإجماع، وإن عنى بالحجة أنه يجوز للعامي الإعتماد عليه عند الفتوى، فلا فرق بين انتشاره والسكوت عن إنكاره، وبين ما يقع الخلاف فيه؛ لأن فرض العامي الرجوع إلى أقوال العلماء اتفقوا عليها أو اختلفوا، وإن عنى بالحجة أنه حق فذلك قولنا، وليس فيه خلاف لما نحن عليه.
فأما إذا كانت المسألة خارجة عما الحق فيه واحد، ولم تكن إجتهاديه وظهر فيها القول كما ذكر شيخنا رحمه الله تعالى فيمن يقول إن عماراً(1) أفضل من حذيفة(2)، والسكوت عمّا هذا حاله لا يدل على الإجماع؛ لأنه لا تعبد علينا في ذلك بسكوت من سكت عنه؛ لأنه ليس عليه تعبد ولا له في معرفته طائل فائدة.
مسألة:[الكلام في ثبوت الإجماع إذا نُقِل آحادياً]
ويثبت عندنا الإجماع بخبر الواحد وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ويحكي أنه مذهب جماعة من العلماء فيهم القاضي وأبو الحسين، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: لا يثبت بذلك، وحكاه عن أبي رشيد.
__________
(1) - عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي المذحجي من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب، شهد المشاهد كلها وكان مخصوصاً منه بالبشارة والترحيب، وقال له: ((مرحباً بالطيب المطيب)) وقال: ((عمار جلدة بين عيني وأنفي)) وقال: ((تقتلك الفئة الباغية)) وقال: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)).
استشهد مع أمير المؤمنين -عليه السلام- بصفين سنة سبع وثلاثين -رضوان الله وسلامه ورحمته عليه- وكان من خلص أصحابه ومحبيه. انظر: لوامع الأنوار (ط2) (3/160).
(2) - حذيفة بن اليمان -مخففاً-، واسم اليمان حسيل -بضم المهملة الأولى على صيغة التصغير- العبسي، أبو عبدالله الكوفي، صحابي جليل من السابقين. توفي سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة. انظر لوامع الأنوار (ط2) (3/83).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن خبر الواحد يوجب في الأغلب غالب الظن، والعمل على الظن واجب؛ ولأنه أحد طرق الشرع والإجماع أحد أصول الشرع؛ فوجب أن يتوصل به كما في سائر الطرق، ولأن إجماع الأمة لا يكون أعلى حالاً من قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بخبر الواحد، وكذلك إجماع الأمة، وقد ثبت أنه يجب علينا العمل على خبر الآحاد في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بما فيه كفاية.
مسألة:[الكلام في أن انقراض العصر ليس طريقاً إلى معرفة الإجماع]
انقراض العصر ليس بطريق إلى معرفة الإجماع، عن الأكثر من العلماء، وهو الذي نختاره.
وعند أبي علي هو طريق، وكان أبو علي يقول: إن العصر لا ينقرض إلا وقد شاع القول في جميع أهله، فلو كان فيهم مخالف لأظهر خلافه.
والذي يدل على أن ما قاله أبو علي غير لازم: أن العلم قد يحصل لنا بما عليه أهل العصر، وإن لم ينقرضوا بأن نسمع القول من جميعهم، أو نسمع البعض ويروي لنا من يحصل لنا العلم بروايته أنّ ذلك اختيار البعض الذي لم نسمع قوله لأن القول قد ينتشر حتى يعلمه الكل والعصر لم ينقرض فلا يكون انقراض العصر أصلاً لوقوع الإنتشار، ولأن القول قد يظهر وينقرض العصر ولا يحصل العلم، عند أبي علي بأن يكون في العصر بعض الموانع التي توجب ترك إظهار الخلاف، فصح أن انقراض العصر لا يكون طريقاً إلى العلم بالإجماع.
مسألة:[الكلام في أن قول الصحابي في المسائل الإجتهادية إذا لم يُعْلم له مخالف ليس بحجة]
إذا ظهر قول من الصحابي في المسألة وكانت اجتهادية، ولم يعلم له مخالف؛ فعند بعض أهل العلم أن ذلك يكون إجماعاً.
وعند بعضهم أنه يكون حجة.
وعندنا: أنه ليس بحجة ولا إجماع؛ لأن الإجماع ما قدمنا من إطباق جميعهم على القول، أو الفعل، أو قول البعض أو فعلهم مع علمنا باختيار الباقين لذلك القول أو الفعل، ويكون ذلك القول باطلاً إن لم يكن حقاً، ثم تزول الموانع فلا ينكرونه، فإنا نعلم أنهم مجمعون عليه وهذا ليس فيه من هذه الوجوه شيء.
وأما أنه ليس بحجة فلأن الحجة عندنا إذا أطلقت أفادت ما يجب اتباعها ويحرم خلافها، ولا دليل على وجوب اتباع آحاد الصحابة في أقوالها وتحريم خلافها.
فأما أنه لم يعلم له مخالف فلأن قوله ليس بمنكر فيجب عليهم إنكاره، ويجوز أن يكون قول بعضهم في تلك المسألة مخالفاً لذلك القول، ولكنه لم يظهره لشغل عرض له، أو لأنه لم يسأل فلا يجب عليه إظهار قوله إلا عند السؤال أو لأنه اشتغل عن النظر في تلك المسألة ولو نظر لأداه اجتهاده إلى غير ذلك القول، ومع التجويز لما ذكرنا لا يجوز القطع على أنهم أجمعوا على ذلك، وأنه علينا حجة.
مسألة:[الكلام في اختلاف الصحابة في المسألة]
اختلف أهل العلم في الصحابة إذا اختلفوا في المسألة فقالوا فيها أقوالاً، هل يكون قول كل واحد منهم حجة.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي علي وأبي عبدالله أنه إن حصل ترجيح بين أقاويلهم أخذنا بالراجح، وإلا فالمكلف مخير في أقاويلهم يأخذ بأيها شاء، وأن قول الصحابي يصح الأخذ به والإعتماد عليه، وإن خولف فيه، وهو المحكي عن محمد بن الحسن، ومذهب جماعة من أصحاب الحديث، ونص عليه الشافعي في رسالته القديمة، وروي عنه أنه تُقَدَّم أقوال الأئمة الأربعة.
والذي عليه الأكثر أن قول آحاد الصحابة ليس بحجة متى اختلفوا في المسألة، وأنه لا يصحّ الأخذ بقول بعضهم إلا إذا علم الوجه، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ذلك، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أنه لا دليل على كون قول الآحاد حجة، وإثباته حجة بغير دلالة لا يجوز، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي أن المخالف في هذه المسألة كان يحتج بصحة ما ادعاه بوجهين:
أحدهما: أن الصحابة كانت ترجع إلى قول بعضها بغير دليل، فلولا أنه حجة لما جاز ذلك.
ونحن نأبى هذه الدعوى في علماء الصحابة فلا سبيل إلى تصحيحها.
وأما عوام الصحابة، ومن لا سبيل له إلى النظر فذلك ثابت، ولكن ليس فيه دليل؛ لأن فرض العامي الرجوع إلى العالم في عصر الصحابة وغيرهم من التابعين وإلى الآن، فكان ذلك على قول من يقوله يوجب كون قول كل واحد من آحاد الصحابة حجة في جميع الأعصار، وذلك ما لم يقل به أحد.
والوجه الثاني: ما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه قال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(1))) وهذا أشفّ من الأول إلا أنا نقول المراد إيجاب رجوع العوام إلى فتوى جميع علمائهم، ولأن لا يتوهموا أنه لا يجوز لهم قبول الفتوى إلا من واحد أو لا يجوز قبولها إلا فيما اتفقوا فيه، فإذا اختلفوا سقط الفرض، فأخبرهم صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنهم ناجون إذا أخذوا بفتوى من شاءوا منهم، وليس في ذلك دلالة على قبول من قال: إن قول آحادهم حجة.
* * * * * * * * * * * *
__________
(1) ـ ما ذكره الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- من التأويل للحديث المذكور فإنما هو على فرض صحته،وإلا فالخبر غير صحيح، قال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: (فأما ما روي مرفوعاً: ((أصحابي كالنجوم..إلخ)) فهو ضعيف، قاله ابن كثير الشافعي، وقال: رواه عبدالرحيم بن زيد العمي، عن أبيه. قال ابن معين: هو كذاب، وقال السعدي: ليس بثقة، وقال البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: حديثه متروك، وقال أبو زرعة: واهٍ، وقال أبو داود: ضعيف وأبوه ضعيف.
وقد روي هذا الحديث من غير طريق ولا يصح شيء منها، ذكر ذلك كله ابن كثير الشافعي في كلامه على أحاديث المنتهى).
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (4/110): (حديث: ((أصحابي كالنجوم..إلخ)) رواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر، قال: وحمزة هذا ضعيف).
قال الذهبي في الميزان (2/379) في ترجمة حمزة بن أبي حمزة النصيبي: (قال ابن معين: لا يساوي فلساً، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه موضوع).
انظر: الدوري (2/134)، التاريخ الصغير (2/178)، الجرح والتعديل (3/210)، الضعفاء والمتروكين (139)، الكامل (2/378)، تهذيب التهذيب (2/20).
قال ابن حجر في التلخيص (4/110): (ورواه الدارقطني في غرائب مالك، من طريق جميل بن زيد، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، وجميل لا يعرف ولا أصل له في حديث مالك، ولا مَنْ فوقه، وذكره البزار من رواية عبدالرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، وعبدالرحيم كذاب).
قال الذهبي في الميزان(4/336): (قال البخاري: تركوه، وقال يحيى: كذاب، وقال مرة: ليس بشيء، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وقال أبو زرعة: واه، وقال أبو داود: ضعيف).
التاريخ الكبير للبخاري (5/104)، الدوري (2/362)، أحوال الرجال (360)، الجرح والتعديل (5/339)، تهذيب التهذيب (3/419).
قال ابن حجر في التلخيص (4/110): (ومن حديث أنس أيضاً، وإسناده واه، ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وفي إسناده جعفر بن عبدالواحد الهاشمي وهو كذاب).
قال الذهبي في الميزان (2/141): (قال الدارقطني: يضع الحديث، وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها، وقال ابن عدي: يسرق الحديث ويأتي بالمناكير عن الثقات، وقال الذهبي أيضاً: هذا الحديث من بلاياه).
قال ابن حجر في التلخيص: (ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعاً وهو في غاية الضعف، وقال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل) انتهى كلام ابن حجر.