وعندنا أنه يجوز أن يخالفهم البعض؛ لأن المعصية على البعض والخطأ تجوز، ولا يجوز على ذلك اتفاق الكل بالإنضمام أو الإطباق؛ لأن ذلك يكون إجماعاً على الضلالة وخروجاً عن الحق جملة، وذلك لا يجوز على مجموع الأمة، فحكم الجملة في هذه على المسألة منتف عن الآحاد فلا يلزم من إثباته في الجملة إثباته في الآحاد، وقد تقدمت الدلالة على أن إجماع الأمة حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها، ويلزم على تجويز وقوع الإجماع على الخلاف بعد الإجماع على الوفاق أن يكون أحد الإجماعين خطأ وذلك لا يجوز؛ لأن الإجماع الأول إن كان حقاً لم يجز خلافه، وإن كان باطلاً لم يجز وقوعه وانعقاده ففي صحة أحدهما بطلان الآخر، وذلك لا يجوز.
فأما ما ذكر الشيخ أبو عبدالله من تجويز أن يكون أحدهما ناسخاً للأول، فذلك لا يجوز، لأن النسخ لا يقع بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لأنه مات وقد كمل الدين ولأنه لا هداية للعباد إلى المصالح، والنسخ لا يجوز وقوعه إلا لمصلحة.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اختلفوا على قولين]
فأما إذا اختلف أهل العصر على قولين فعندنا أنه يجوز الإتفاق على أحدهما، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وحكى أنه مذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلمين، قال: وحكى قاضي القضاة عن الصيرفي، أنه منع من ذلك.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أنه لا مانع من اتفاقهم على أحد القولين من جهة العقل ولا من جهة الشرع، والمنع بغير دلالة لا يجوز كما قدمنا الكلام فيه.
أما أنه لا مانع منه من جهة العقل: فلأن أدلة العقل تقضي بجواز الإتفاق بعد الإختلاف في كل أمر، كما تقضي بجواز الإختلاف بعد الإتفاق، والإتفاق قبل الإختلاف نصاً واحداً يعلمه العاقل من نفسه.

وأما أدلة الشرع: فلا سبيل إلى ادعاء مانع فيها من الإتفاق بعد الإختلاف، ولأن الإتفاق بعد الإختلاف يكون أظهر، فكيف يكون الإختلاف مانعاً منه؟ وأكثر ما يذكر في هذا أن اتفاقهم بعد اختلافهم ينقض إجماعهم على تجويز اتباع العامي لكل واحد من القولين، ونحن لا نسلم أنهم أجمعوا على ذلك على الإطلاق بل نقول: إنما أجازوا للعامي تقليد من رجح عنده من الفريقين بشرط بقاء الفرقة، فإذا وقع الإجماع منعوه من المخالفة؛ لأنا نعلم بدلائل أصولهم أنهم لو سألوا عن ذلك لعللوا جواز فتواهم له باتباع كل واحد من الفريقين لاختلافهم عليهما.
ومثال المسألة: اختلافهم في جواز بيع أمهات الأولاد، ثم وقع الإتفاق بعد ذلك على المنع منه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اتفقوا على أحد القولين]
فأما إذا اتفقوا على أحد القولين فقد حكى قاضي القضاة عن بعض المتكلمين وقوم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يكون حجة في تحريم القول الآخر.
وذكر في الشرح أن الناس اختلفوا في ذلك:
فمنهم من جعل ذلك مُحَرِّماً للخلاف على كل حال من الأحوال، ولم يفصل بين الصحابة والتابعين.
ومنهم من جعله مُحَرِّماً للخلاف في حال دون حال، والحالة التي يحرم فيها الخلاف هي الحالة التي يكون المتفقون في المسألة على أحد القولين في المسألة هم الذين اختلفوا فيها سواء كان ذلك العصر عصر الصحابة أو غيرهم، والحالة التي لا يكون اتفاقهم فيها حجة مزيلة للخلاف هي أن يختلف أهل عصر ويتفق من بعدهم على أحد قوليهم.
واختيارنا: أن وقوع الإختلاف بعد الإتفاق غير جائز كما قدمنا في المسألة الأولى، وأن الإتفاق إذا وقع على أي وجه وقع لم يجز خلافه سواء كان من أهل العصر أو ممن بعدهم.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن ذلك يكون اتباعاً لغير سبيلهم، واتباع غير سبيلهم لا يجوز كما قدمنا.

مسألة:[الكلام في انقراض أهل العصر هل هو معتبر في صحة الإجماع أم لا؟]
اختلف أهل العلم في انقراض أهل العصر هل هو معتبر في صحة الإجماع أم لا؟
فذهب قوم إلى أن انعقاده مشروط بانقراض أهل العصر وهو قول بعض أهل الظاهر، وقوم من الفقهاء.
وكان الشيخ أبو علي يجعل ذلك شرطاً في العلم به ويقول: انقراض أهل العصر يكشف أنه لو كان في المسألة خلاف لظهر فهو على هذا يجعله شرطاً يبين وقوع الإجماع لا في صحة انعقاد الإجماع، وسيأتي الكلام فيه.
والذي نختاره أن انقراض أهل العصر غير معتبر في انعقاد الإجماع، ولا شرط في صحته، ولا في معرفته.
والذي يدل على ما اخترناه: أن أدلة الإجماع لم تتضمن شرط انقراض أهل العصر، واعتباره بغير دلالة لا يصح.
فإن قيل: إنهم مع بقاء أهل العصر لا يمتنع عليهم الإختلاف فلا يكون إجماعاً.
قلنا: إن من خالف بعد الإجماع، وإن كان العصر باقياً لم يلتفت إليه، وكان محجوجاً بالإجماع السابق؛ لأنه يكون والحال هذه مخالفاً لسبيل المؤمنين وذلك لا يجوز، وكما أنه لا يجوز اعتبار انقراض عصرين كذلك لا يجوز اعتبار انقراض عصر؛ لأن كل واحد من الإعتبارين لا دليل عليه.
مسألة:[الكلام في إختلاف أهل العصر على قولين، هل يجوز إحداث قول ثالث أم لا؟]
فأما إذا اختلف أهل العصر في المسألة على قولين، هل يجوز إحداث قول ثالث أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الأكثر ذهب إلى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث.
وحكى عن بعض أهل الظاهر أنه أجاز إحداث قول ثالث.
وذكر أن الشيخ أبا الحسين البصري ذكر أن اختلافهم على قولين إن كان في مسألتين نحو أن يقول بعضهم: جميع الطهارات تحتاج إلى نية، ويقول بعضهم: جميع الطهارات لا تحتاج إلى نية، فيقول قائل قولاً ثالثاً، وهو أن بعضها يحتاج إلى نية دون بعض، فإنه يجوز إحداث هذا القول الثالث عنده بشرطين:
أحدهما: أن لا يحصل إجماع الأمة على أن لا فرق بين المسألتين اللتين فرق هذا الثالث بينهما.
والثاني: أن لا ينتظمهما طريقة واحدة تمنع من الفرق بينهما.

وإن كان اختلافهم في مسألة واحدة، مثل مسألة الجد مع الأخ، لم يجز إحداث قول ثالث، وكان رحمه الله تعالى يذهب إلى هذا القول ويحتج له، وهو الذي نختاره.
والذي يدل عليه: أن الأدلة إنما قضت بتحريم اتباع غير سبيلهم، وهذا القول الثالث على الوجه المتقدم لم يتبع فيه غير سبيلهم؛ لأنه إنما قال ببعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء، فكان على الحقيقة متبعاً لسبيلهم، ولم تنتظم المسألتين دلالة توجب الإقتران بينهما ولا علم ذلك من دينهم فيكون القول الثالث اتباعاً لغير سبيلهم.
ومثال المسألة: ما روي عن ابن سيرين(1) في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، فإن الصحابة افترقت في هاتين المسألتين على قولين:
فمنهم من قال: لها ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج أو الزوجة في المسألتين جميعاً.
ومنهم من قال: لها ثلث جميع المال في المسألتين جميعاً.
وفرق ابن سيرين بين المسألتين، فقال في امرأة وأبوين: للأم ثلث جميع المال، ولها ثلث ما يبقى مع زوج وأبوين، فقال بقول ثالث، ولم يخرج مما عليه الفريقان بل قال ببعض قول هؤلاء وبعض قول الآخرين.
وكذلك الرواية عن سفيان الثوري(2)
__________
(1) ـ محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر البصري، وثَّقَه ابن سعد والحاكم، توفي سنة عشر ومائة، وروى المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- أنه كان عدلي المذهب، وصحح ذلك، وكان مشهوراً بتعبير الرؤيا، وهو ممن بايع الإمام الحسن بن الحسن وخرج معه. توفى سنة (110هـ)، انظر الجداول (خ).
(2) ـ سفيان بن سعيد الثوري، أبو عبدالله، عالم الشيعة الزيدية، ورباني الأمة المحمدية، عالم عصره وزاهده، الإمام الثبت الحجة، توفي سنة إحدى وستين ومائة.
كان يقول: حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل يبكي من في قلبه شيء من الإيمان.
ولما قتل إبراهيم بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- قال سفيان: ما أظن الصلاة تقبل إلا أن فعلها خير من تركها.
وكونه من خلصان الزيدية، معلومٌ بين علماء البرية، وكان من خواصّ الإمام عيسى بن زيد بن علي -عليهم السلام-.
قال الإمام أبو طالب -عَلَيْه السَّلام-: قال الواقدي: كان سفيان زيدياً، وروى أبو الفرج بإسناده إلى أبي عوانة، قال: فارقني سفيان على أنه زيدي.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 1/443، 444)، والجداول (خ)، والفلك الدوار (خ)، وتيسير المطالب (79)، ومقاتل الطالبيين (141).

أنه قال: إن الأكل ناسياً في نهار شهر رمضان لا يفطر والجماع ناسياً يفطر، ومن تقدمه افترقوا على قولين:
فمنهم من قال: يفطران.
ومنهم من قال: لا يفطران.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج بأنه لم ينكر عليه أحد ما هذا حاله، وكان ذلك إجماعاً على جواز إحداث القول الثالث، الذي هذه سبيله.
فأما إذا كانت المسألة واحدة كمسألة الجد فإنه لا يجوز إحداث قول ثالث؛ لأنه يكون مخالفة لسبيل المؤمنين ومخالفتهم لا تجوز كما تقدم؛ لأن القول الثالث في مسألة الجد يكون قولاً بأن المال للأخ دون الجد، وهذا لم يقل به أحد منهم؛ لأن منهم من أعطاه قسطاً من المال، ومنهم من أعطاه جميعه، وهذا القول الثالث لم يقض للجد بشيء من المال مع أن الكل قد أجمع أن لا بد له من تناول بعض المال أو مجموع أبعاض المال.
فالقول الثالث كما ترى يكون مخالفة لسبيلهم، والمنع من إحداث هذا القول ليس إلا بخروجه عن سبيل المؤمنين.
فأما طريقة الإجتهاد فهو يمكن استعمالها هاهنا لولا الإجماع بأن يقال: إن الأخ أقوى في باب التعصيب من الجد فيأخذ المال، ولكن منع من ذلك انعقاد الإجماع على خلاف هذا القول بخلاف ما ذكر فيما تقدم فإنه لما أمكن استعمال طريقة الإجتهاد وهو أحد طرق الشرع، ولم يكن ذلك يؤدي إلى اتباع غير سبيل المؤمنين قلنا بجوازه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا لم يفصلوا بين مسألتين]
فأما إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين فلا يخلو إما أن ينصوا على أن لا فصل بينهما أو لا ينصوا على أن لا فصل بينهما.
فإن نصوا على أن لا فصل بينهما لم يجز الفصل؛ لأنه يكون مخالفة لسبيلهم، وذلك لا يجوز.
وإن لم ينصوا ولكن لم يوجد فيهم من فرق بينهما، نحو أن يحكم بعض الأمة في المسألتين بحكم، ويحكم بعضهم في المسألتين بنقيضه كأنه يبيح بعضهم إحدى المسألتين، ويحظرهما البعض الآخر، وذلك ضربان:

[الضرب الأول:] كأن يشيروا إلى حكم فيثبته أحد الفريقين في المسألتين جميعاً، وينفيه البعض الآخر عنهما جميعاً.
والثاني: كأن يشيروا إلى حكمين مختلفين نحو أن يوجب بعض الأمة النية في الوضوء ويجعل الصوم من شرط الإعتكاف.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف قاضي القضاة في الضرب الأول، وأنه ذكر في العمد أنه لا يجوز الفصل بين المسألتين.
وذكر في الشرح والدرس أنه إن كان المعلوم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة لا يجوز كونها متغايرة؛ فإن ذلك جارٍ مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما، ومن فصل بينهما كان متبعاً غير سبيلهم، وذلك لا يجوز؛ فأما إن جاز أن لا تكون الطريقة في المسألتين واحدة، وأن يكونوا سووا بينهما لطريقتين مختلفتين فإنه يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيحرم إحدى المسألتين ويبيح الأخرى، ويوافق كل واحد من الفريقين في بعض قوله ولا يكون متبعاً لغير سبيلهم.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي هذا التفصيل عن الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أنا إذا فرضنا الكلام في مسألتين ولم ينتظمهما طريقة واحدة، ثم أدى المجتهد اجتهاده إلى صحة قول كل واحد من الفريقين في إحدى المسألتين وبطلان قول كل واحد من الفريقين في إحدى المسألتين، كان الواجب عليه العمل بما يصحّ عنده دون ما يبطل، ولم يكن قوله خارجاً عن قول الأمة لا في الحكم ولا في التعليل.
أما الحكم: فلأنه قال ببعض قول أحد الفريقين في المسألتين، وبعض قول الفريق الآخر في المسألتين؛ فكان موافقاً للجميع في القدر الذي اختاره، مخالفاً مع الفريقين في بعض ما خالفا فيه، فلم يخرج عن طريقهم ولا يتبع غير سبيلهم.

وأما التعليل: فلأنا فرضنا الكلام في مسألتين لا تكون العلة فيهما واحدة، ولا تنتظمهما طريقة رابطة، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: لو كان يلزم إذا أباح بعض الأمة مسألتين مباينتين وحظرهما البعض الآخر ولم يربطهما علة أن يدل ذلك من أمرهم على أن لا فصل بينهما، وأنه يحرم إحداث القول الثالث فيهما بالفصل بينهما، لوجب -إذا حرَّم بعضُهم إحدى المسألتين وأباح الأخرى، وحرم الباقون ما أباح هؤلاء وحظروا ما أباحوا- أن يكونوا قد أجمعوا على أن بينهما فرقاً؛ فلا يجوز لأحد أن يحرمهما معاً أو يبيحهما معاً، ولو لم يجز ذلك لوجب على من وافق الشافعي في مسألته أن يوافقه في جميع مذهبه ويسقط عنه الإجتهاد، والأمة مجمعة على خلاف ذلك.
وأما الضرب الثاني: وهو إذا أشارت الأمة إلى حكمين متباينين في مسألتين كما بينا في إيجاب النية في الطهارة، وجعل الصوم شرطاً في الإعتكاف، فإنه إن جاز أن يكون بينهما فرق يذهب إليه مجتهد جازت التفرقة بينهما، وإن لم يجز أن يكون بينهما فرق بل انتظمتهما طريقة واحدة يقضى فيهما باتفاق الحكمين المتباينين على بعد ذلك لم يجز إن خالف حكمهما بل الواجب أن يقال فيهما ما قالوه وما ذكره رحمه الله تعالى مستقيم على التقدير الذي استبعده.
وعندنا: أن كل حكمين متباينين في مسألتين مختلفتين لا بد فيهما من فرق يذهب إليه المجتهد؛ لأنه لو قدرنا أن لا فرق بينهما كان ذلك يلزمنا القطع على أن لا بد من علة تجمعهما، أو يلزمنا الجمع بينهما بغير علة توجب ذلك، وكل ذلك لا يجوز.

مسألة:[الكلام في الأمة إذا استدلَّت بدليلين، أو اعتلَّت بعلَّتين، هل يجوز إحداث دليل آخر وعلَّة أخرى أم لا؟]
إذا استدلت الأمة بدليلين، أو اعتلت بعلتين؛ فقد اختلفوا في أنه هل يجوز إحداث دليل آخر وعلة أخرى؟
فذهب قوم إلى أن ذلك جائز.
وذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الأمة إن علم منها المنع من إحداث دليل ثالث أو القطع على بطلانه، لم يجز إحداث دليل ثالث وعلة ثالثة، وهذا الذي نختاره، وإن لم يعلم ذلك من حالها جاز إحداثه.
والذي يدل على صحته: أن الإنسان إذا استدل بدليل ثالث لا يدل على خلاف ما دل عليه دليل الأمة بل يدل على ما دل عليه دليلهم لم يكن مخالفاً لهم بل كان موافقاً، ولم تمنع الأدلة إلا من مخالفتهم دون موافقتهم، بل دلت على وجوب موافقتهم، ولا يمتنع أن يدل على الحكم الواحد أدلة كثيرة، والكلام في إحداث العلة كالكلام في إحداث الدليل؛ فإن كانت العلة المستحدثة تنفي حكماً مما دل عليه تعليل الأمة، أو تدل على خلاف ما دل عليه تعليلهم لم يجز إحداثها، وإن أيَّدت تعليلهم وقضت بمثل ما قضت به علاتهم جاز إحداثها؛ لأن المعلل بها لا يكون مخالفاً لهم بل يكون موافقاً لهم ومتبعاً لسبيلهم.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لجواز ذلك بأن الناس يستحدثون الأدلة والعلل في كل وقت من غير مناكرة بينهم في ذلك فكان إجماعاً، وهذا فيه نظر؛ لأنه لا يمكن أن يقال إن المانعين من إحداث الدليل والعلة لا يسوغون لأحد إحداث شيء من ذلك، ومن جوز إحداثه هم البعض فلا يصح دعوى الإجماع، فإن صحّ فهو آكد الدلالة.

وإذا تأولت الأمة الآية بتأويل فإن شيخنا رحمه الله تعالى كان يذهب إلى أنهم إن نصوا على فساد ما عداه لم يجز إحداث تأويل سواه، وإن لم ينصوا على فساد ما عداه جاز إحداث تأويل آخر وأكثر، قال: لأن ذلك لا يكون مخالفة لهم، ولأن التابعين لهم ومن بعدهم قد أحدثوا تأويلات، ولم ينكر بعضهم على بعض، وكان إجماعاً منهم على جوازه.
قال: ولأنه لا يمتنع أن يكون في الآية تأويلان ويريدهما الله سبحانه بشرط البحث عنهما فتستجزيء الأمة بأحدهما، ويأتي مَنْ بعدهم فيقول بالآخر، وكلاهما حق، وجملة الأمر أن الكلام مبني على أن لا يكون في الثاني إبطال الأول، ولا نفي حكمه ولا نقضه.
وعندنا أن الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى تفصيل: وهو أن التأويل الثاني إن كان المرجع به إلى النقل من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو إلى اللغة لم يجز إحداثه؛ لأنه لا يجوز أن يغبى ما ورد عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن جماعتهم، وكيف وهم أصل الرواية عنه، والمعلوم من حالهم التنافس في الرواية والمبادرة إلى البيان في التبليغ، وكذلك هم أهل اللغة وفرسانها، وعبار بحورها، والمبرزون في معرفتها، ولا يجوز والحال هذه أن يحصل لمن بعدهم في ذلك العلم بشيء جهلوه، وإن كان التأويل يرجع إلى المعنى، ولم يكن ينافي التأويل الأول ولا ينقض حكمه فإنه يجوز إحداثه؛ لأن التعبد به يحسن، وليس فيه بطلان تأويلهم، ولا نقض إجماعهم، ولا يمتنع تعذر إحاطتهم بجميع المعاني، بل ذلك المعلوم من حالهم وحال جميع العباد.
ـــــــــــــ

فصل: في الإجماع
[الكلام في إجماع الأمة على فعل]
اعلم أن الإجماع يقع بالفعل والقول والرضى.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن الأمة إذا أجمعت على الفعل فإن ذلك يدل على أن غيرهم فيه مثلهم إلا بدلالة، ولم يذكر فيه وجهاً من الإحتجاج.وعندنا أنهم إذا اتفقوا على فعل من الأفعال كان لا يخلو: إما أن يعلم قصدهم في ذلك الفعل أو لا يعلم؛ فإن علم قصدهم في ذلك الفعل وجب علينا العمل على مقتضى قصدهم، وإن لم يعلم قصدهم لزمنا أن نفعل مثل فعلهم من حيث حرمت مخالفتهم، ووجب اتباع سبيلهم، وقضينا بوجوب مثل فعلهم علينا؛ لأن نتبع سبيلهم، ونخرج من عهدة الأمر؛ فأما إذا قالوا قولاً وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله قول يخالفه في الظاهر؛ فإنا نقضي بظاهر قول الأمة، ونتأول كلام النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنا نقول: إنهم لو علموا أن ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وآله ينافي ظاهر كلامهم ما تكلموا ولا أجمعوا على ذلك القول.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى هذا القول ويحتج له؛ فأما القول بمنافاتهما ومعارضتهما فإن ذلك يؤدي إلى إطراح أحدهما أو مجموعهما وذلك لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما يجب اتباعه واطراح ما يجب اتباعه لا يجوز، ولا يجوز أن يجعل الآخر ناسخاً للأول؛ لأن النسخ بالإجماع لا يجوز، وقد تقدم الكلام فيه في باب الناسخ والمنسوخ.
فأما الكلام إذا قال بعضهم ورضي بعضهم، وكيفية الرضى وما يتبع ذلك، فسيأتي الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أنه لا يجوز إنعقاد الإجماع إلا عن دلالة وأمارة]
ولا يجوز عندنا انعقاد إجماع الأمة إلا عن دلالة وأمارة؛ وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أنه قال: من الناس من جوز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف، ومعنى ذلك أن يوفق الله الأمة فلا تختار إلا الصواب، وهذا يقرب من قول مؤيس(1)
__________
(1) ـ مؤيس -ويقال له: موسى- بن عمران الفقيه المعتزلي من الطبقة السابعة، ذكر أبو الحسين أنه كان واسع العلم في الكلام والفتيا، وكان يقول بالإرجاء. انظر كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.

27 / 41
ع
En
A+
A-