مسألة:[الكلام في أن إجماع العترة حجَّة]
إجماع العترة حجة عند الزيدية، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى ذلك عن الشيخين أبي علي وأبي عبدالله وأنهما ذهبا إليه.
والذي يدل على صحته قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
والكلام في هذه الآية يقع في وجهين:
أحدهما: أنهم مرادون بهذه الآية. والثاني: أن ذلك يقتضي كون إجماعهم حجة.
أما أنهم مرادون بهذه الآية: فلأنه لا يسبق إلى الأفهام عند إطلاق لفظ أهل البيت غيرهم، ولا يشاركهم في هذا الإطلاق أحد من أقارب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا بقرينة، فثبت بذلك أن هذا الإطلاق حقيقة فيهم مجاز في غيرهم كما قدمنا في ذكر الحقيقة والمجاز.
ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم جمعهم تحت كسائه وقال: ((اللهم إن هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) قالت أم سلمة(1)
__________
(1) ـ أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، أم المؤمنين، رأت جبريل -عَلَيْه السَّلام- وهي وزوجها أبو سلمة أول من هاجر إلى الحبشة، ويقال: إنها أول مهاجرة دخلت المدينة. تزوجها الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعد وقعة بدر في شوال.
..إلى قوله - أيده الله تعالى -: وتوفيت سنة اثنتين وستين بعد مقتل الحسين -عَلَيْه السَّلام-..إلى قوله - أيده الله تعالى-: شديدة الولاء لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وأهل البيت، نهت عائشة عن الخروج وذَكَّرَتْهَا بما سمعته من النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وأخرجت ولدها عمر للجهاد معه. ودفنت بالبقيع -رضوان الله عليها وسلامه- وهي آخر أمهات المؤمنين موتاً. انظر: لوامع الأنوار (ط2- 3/237، 239).
رحمها الله تعالى: (فرفعت الكساء لأدخل) فدفعني ثم قال: ((مكانك وإنك على خير(1))) وهذا الخبر مما ظهر في الأمة واشتهر، حتى قيلت فيه الأشعار، وتواترت به الأخبار.
__________
(1) ـ حديث: الكساء من الأحاديث المشهورة المتواترة التي ظهرت ظهور الشمس واشتهرت اشتهار الصلوات الخمس، رواه الموالف والمخالف، وشحنت به المؤلفات من جميع الطوائف، أخرجه السواد الأعظم من أهل البيت -عليهم السلام- وشيعتهم وغيرهم من المحدثين، وعلى سبيل الإيضاح نذكر بعضاً منهم؛ فممن رواه الإمام الناصر للحق الحسن بن علي، والإمام أبو طالب في الأمالي (101)، والمرشد بالله في الأمالي الخميسية (1/151)، ومحمد بن منصور المرادي، ومحمد بن سليمان الكوفي، وصاحب المحيط علي بن الحسين، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (194)، والحاكم الحسكاني.
ورواه من المحدثين: ابن أبي شيبة، وابن عقدة، وابن المغازلي، ومالك بن أنس، ووكيع، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/330) عن ابن عباس، وفي (4/107) عن واثلة بن الأسقع، وفي (6/292) عن أم سلمة، وفي (6/292) عن شهر بن حوشب، وإسحاق بن راهويه، ومسلم، وأبو داود، والترمذي (2/209، 319)، والدارقطني، والثعلبي، والواحدي، والحاكم في مستدركه (3/147)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والسمهودي الشافعي في جواهر العقدين، والطحاوي في مشكل الآثار (1/332، 333، 334، 336، 338)، وأبو يعلى، وأبو الشيخ، والطبراني، والبيهقي، وعبد بن حميد، ومطين، وابن أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن عساكر، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن منيع، وابن النجار، ومحب الدين الطبري، والبغوي، والنسائي (4)، وفي تاريخ بغداد (10/278)، والطبري (32/5)، و(22/6)، وفي الرياض النضرة (2/188)، وابن عبدالبر في الاستيعاب (2/598)، وأبو داود الطيالسي (8/274)، وفي كنز العمال (7/92)، وفي أسد الغابة (2/20)، و(3/413)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/169، 121، 169، 206، 207، 146، 172).
ولمزيد من الإطلاع على طرق وروايات هذا الحديث، انظر الاعتصام (1/66، 118)، وشرح الغاية (1/508، 523)، والتحف شرح الزلف (ط3- 442، 450)، ولوامع الأنوار (1/87)، والجواب الراقي (94، 98).
ووجه الإستدلال به: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم خصهم بكونهم أهل بيته من دون سائر أقاربه فلو أمكن ادعاء كون الآية عموماً في جميع أقاربه لخرجت بهذا الخاص من العموم وثبتت عليه، وقد قدمنا الكلام في أن العام يبنى على الخاص، وأن عموم الكتاب والسنة يخص بخبر الواحد فكيف الآن بما هو معلوم من طريق النقل المتواتر.
وأما أن ذلك يوجب كون إجماعهم حجة: فلأنا نقول: لا يخلو إما أن يريد سبحانه بإذهاب الرجس عنهم رجس الأقذار المتعلقة بالناس كالغائط والبول والدم وما جرى مجراها مما لا يذهب عن جميع البشر.
وإما أن يريد رجس الضلالة ومواقعة الخطأ إذ لا واسطة بين الرجسين.
باطل أن يريد الرجس الجاري من جميع الناس؛ لأنهم وغيرهم فيه سواء، فثبت بذلك أن المراد بالآية رجس الضلالة ومواقعة الخطأ إذ لا واسطة بين الأمرين.
فإذا صحت لنا عصمتهم عن الإتفاق على الخطأ لعمومه سبحانه لهم في رفع الرجس عنهم الذي هو الضلالة والخطأ قضى ذلك بوجوب متابعتهم واعتقاد كون إجماعهم حجة، ولولا القول بذلك لبعدت الآية عن الفائدة ولحقت بالعبث القبيح الذي لا يجوز وروده من قبل الله سبحانه وتعالى كما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين.
ودليل آخر: وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(1))).
__________
(1) ـ قال الإمام الحجة الحافظ الولي: مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2- 1/83):
وقد أخرج أخبار الثقلين والتمسك أعلام الأئمة وحفاظ الأمة؛ فمن أئمة آل محمد -صلوات الله عليهم-: الإمام الأعظم زيد بن علي [المجموع الحديثي (404)]، والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم، وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين [مجموع رسائل الإمام الهادي (55، 96، 195)، والأحكام (ط2- 1/40)] والإمام الرضا علي بن موسى الكاظم [الصحيفة (464)]، والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام أبو طالب [الأمالي (104)]، والسيد الإمام أبو العباس[المصابيح(246)]، والإمام الموفق بالله، وولده الإمام المرشد بالله [الأمالي الخميسية (1/152)]، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة [العقد الثمين (98)].
والسيد الإمام أبو عبدالله العلوي صاحب الجامع الكافي، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد [ينابيع النصيحة (319)]، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، والإمام الهادي لدين الله عزالدين بن الحسن، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد [الاعتصام (132)]، وولده إمام التحقيق الحسين بن القاسم [شرح الغاية (524)] وغيرهم من سلفهم وخلفهم.
ومن أوليائهم: إمام الشيعة الأعلام، قاضي إمام اليمن الهادي إلى الحق، محمد بن سليمان -رضي الله عنه- [المناقب (2/167)]، رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق، وعن زيد بن أرقم من ثلاث، وعن حذيفة، وصاحب المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين، والحاكم الجشمي [تنبيه الغافلين (107، 78، 73، 74)]، والحاكم الحسكاني، والحافظ أبو العباس بن عقدة، وأبو علي الصفار، وصاحب شمس الأخبار -رضي الله عنهم-.
وعلى الجملة كل من ألف من آل محمد -عليهم السلام- وأتباعهم -رضي الله عنهم- في هذا الشأن يرويه ويحتج به على مرور الأزمان.
ومن العامة: أحمد بن حنبل في مسنده [(4/367)]، وولده عبدالله، وابن أبي شيبة [المصنف (7/177)]، والخطيب ابن المغازلي [المناقب (234، 236)]، والكنجي الشافعيان، والسمهودي الشافعي[جواهر العقدين]، والمفسر الثعلبي، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه [(15/179)] رواه في خطبة الغدير من طرق ولم يستكملها بل ذكر خبر الثقلين وطوى البقية.
والنسائي [الخصائص (150) رقم (276)]، وأبو داود []، والترمذي [السنن (5/621) رقم (3786)]، وأبو يعلى [المسند (2/197)]، والطبراني في الثلاثة [الكبير (5/166) رقم (4969)، والأوسط (2/327، 361) رقم (3439)، ورقم (3542)، والصعير (1/131، 135، 226)].
والضياء في المختارة، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد [المنتخب (107، 108)]، وأبو موسى المدني في الصحابة، وأبو الفتوح العجلي في الموجز، وإسحاق بن راهويه، والدولابي في الذرية الطاهرة [(166) رقم (223)]، والبزار [(3/89) رقم (864)]، والزرندي الشافعي، وابن البطريق في العمدة، والجعابي في الطالبيين من حديث عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي، عن آبائه، عن علي -عليهم السلام- وغيرهم.
انتهى من لوامع الأنوار للإمام الحجة الحافظ الولي: مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى (ط2، 1/83).
وأورده السيوطي في الجامع الصغير (157) رقم (2631) ورمز له بالتحسين، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/166)، وهو في كنز العمال (1/185) رقم (943)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/442)، وابن الأثير في أسد الغابة (2/12)، والدارمي (2/431)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (5/369)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/368، 369)، والطبري في ذخائر العقبى (16)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/30)، وابن خزيمة (4/62) رقم (2357).
ووجه الإستدلال بهذا الخبر: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أمننا من الضلالة إذا تمسكنا بعترته، كما أمننا من الضلالة إذا تمسكنا بكتاب ربه، فكما أن الكتاب حجة يجب اتباعها، فكذلك العترة حجة يجب اتباعها، والتمسك لا يكون بهم واجباً إلا بكون إجماعهم حجة.
أما أنه أمننا من الخطأ إذا تمسكنا بعترته: فذلك ظاهر في لفظ الخبر.
وأما أن ذلك لا يكون إلا لكون إجماعهم حجة: فلأنه إذا أمننا من الخطأ قطعنا على ارتفاع الخطأ فيما أمننا من قبله، ونحن لا نقطع إلا فيما يجب اتباعه ويحرم خلافه، وهو المراد بالحجة، فلولا كون إجماعهم حجة لكان ذلك منه عَلَيْه السَّلام تغريراً بنا، وتلبيساً علينا، وذلك لا يجوز عليه وهو رسول عدل حكيم، لا يجوز أن يبعث من يعلم من حاله شيئاً من ذلك.
مسألة:[الكلام في العترة أو الأمة إذا افترقت على قولين]
والكلام في العترة إذا افترقت على قولين لا ثالث لهما، ومنع الجميع من إحداث ثالث كالكلام في الأمة، وكذلك إذا افترقوا فرقتين، وتبين ضلال إحدى الطائفتين، أو صَحّ لنا بطلان قولها، فإنا نعلم وجوب تعين الحق في قول الفرقة الظاهرة، والفرقة المصيبة إذ لا يجوز خروج الحق عن أيدي الجميع.
وكذلك لو افترقوا إلى أربع فرق مثلاً وصح لنا ضلال ثلاث أو نسخها من جهة التأويل، فإنا نعتبر الحق في الرابعة لاستحالة خروج الحق عن أيدي الجميع لما قدمنا.
مسألة:[الكلام في الأمة إذا أجمعت على أمر ولم يمكن معرفة الإجماع بدونه هل يصح الإستدلال عليه بالإجماع؟]
كل أمر أجمعت الأمة عليه ولم يكن يمكن معرفة صحة الإجماع بدونه فإنه لا يصحّ الاستدلال عليه بالإجماع، وهذا لا خلاف فيه بين شيوخنا فيما نعلمه.
والدليل على صحة هذا القول: أن معرفة الدليل ووجه الإستدلال يجب تقدمها على معرفة المدلول، وإلا لم يكن بكونه دليلاً أولى منه بكونه مدلولاً عليه، فيكون دليلاً مدلولاً عليه من جهة واحدة، وذلك لا يجوز لأن صحته تبنى على صحة ما لا يصح إلا بصحته، وذلك ظاهر البطلان، وإنما الخلاف يقع في أعيان المسائل، وما يصح الإستدلال عليه بالإجماع، وما لا يصح.
مسألة:[الكلام في أنه لا يصح الإستدلال بالإجماع على ثبوت صفات الله تعالى]
يحكي شيخُنا رحمه الله تعالى في العلم بكونه تعالى حياً موجوداً لا يشبه الأشياء اختلافاً بين أهل العلم.
فذهب قاضي القضاة أن العلم بجميع ذلك لا يحصل بالإجماع، قال: وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو الحسين البصري.
وحكى عن الشيخ أبي رشيد أنه قال: إن ذلك كله مما يصح معرفته بالإجماع.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن كونه تعالى موجوداً يصح معرفته بالإجماع، وكذلك نفي التشبيه منه.
قال: فأما كونه حياً فلا يصح ذلك فيه، وذكر أنه كان ذهب إلى الإستدلال على أنه سبحانه حي بالإجماع في كتابه الموسوم بالتبيان، ثم رجع رحمه الله تعالى عنه، وقال الصواب خلافه.
واختيارنا في هذه المسألة: ما ذهب إليه القاضي والشيخ أبو الحسين البصري من أنه لا يصح الإستدلال على شيء من هذه الصفات بالإجماع.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن صحة الإجماع تبتني على العلم بصحة ما جاء من عند الله تعالى من كون الإجماع حجة، وكذلك ما جاء من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وذلك لا يصح ما لم يعلم كونه سبحانه عدلاً حكيماً لا يفعل القبيح ولا يقع من قبله، ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم أنه سبحانه عالم بقبح القبيح وغني عن فعله، وعالم بغناه عنه، وأن من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح، ونحن لا نعلم كونه عالماً ما لم نعلم وقوع الفعل من قبله محكماً، ولا نعلم وقوع الفعل من قبله محكماً ما لم نعلمه قادراً، ولا نعلمه عالماً قادراً مع نفي العلم بكونه حياً، ولا نعقل ثبوت القدرة والعلم له إلا بكونه موجوداً، ولا نعلمه عالماً باستغنائه عن القبيح ما لم نعلمه عالماً لذاته، ولا نعلمه عالماً لذاته ما لم نعلمه قديماً، ولا نعلمه قديماً إلا بعد العلم باستحالة كونه محدثاً، ولا نعلم استحالة كونه محدثاً إلا باستحالة مشابهته للأشياء.
وأما العلم بأنه غني عن فعل القبيح فهو يترتب على العلم بكونه حياً لا يجوز عليه الحاجة، واستحالة جواز الحاجة عليه لا تكون إلا باستحالة جواز المنفعة والمضرة، ولا نعلم استحالة جواز المنفعة عليه والمضرة ما لم نعلم استحالة جواز اللذة عليه، والألم وتوابعهما، ولا نعلم استحالة ذلك عليه ما لم نعلم استحالة مشابهته للأشياء المحدثات، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين.
وكذلك إنهاء الكلام فيها إلى غاياته، وقد وضح العلماء رضي الله عنهم من ذلك ما فيه كفاية، إلا أنا أريناك ارتباط بعض هذه المسائل بالبعض، وأنه لا يصح معرفة الإجماع بدون معرفتها فلو وقفت معرفتها على الإجماع وكان الإجماع طريقاً إليها، أدى إلى وقوف كل واحد من الأمرين على معرفة صاحبه، فلا يحصل العلم بواحد منهما، وما أدى إلى هذا القول قضي بفساده، وقد تقدم القول في أن معرفة الدليل يجب تقدمها على المعرفة بالمدلول عليه، ومعرفة وجه دلالته في المسألة الأولى.
مسألة:[الكلام في الإجماع على أمر من أمور الدنيا كالآراء والحروب هل يجوز مخالفته أم لا؟]
اختلفوا في الإجماع إذا حصل في أمور الدنيا كالآراء والحروب، هل يجوز في ذلك المخالفة أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة في العمد وشرحه أنه جوز لمن بعدهم خلافهم، وقال: لا يكون حالهم أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد ثبت جواز مخالفته في آراء الحروب وأمور الدنيا.
أما في أمور الدنيا: ففي إقراره لعروة البارقي(1) على ما فعل في أمر الشاتين فلو كان لا يجوز لما أقره على ذلك.
وأما في الحروب: فإنه لما وصل بدراً وحط في أسفل الوادي قال له رجل(2)
__________
(1) - خبر عروة البارقي هو ما رواه في أمالي أحمد بن عيسى والشفاء وغيرهما.
قال في الشفاء: خبر وروي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دفع إلى عروة البارقي ديناراً وأمره أن يشتري له به أضحية، وروي: شاة، فاشترى له شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بالشاة الأخرى والدينار إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((أحسنت)) ودعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه.
(2) - هو الحباب بن المنذر بن الجموح الخزرجي الأنصاري.
من الأنصار: (يا رسول الله هذا موقف أوقفناه الله سبحانه لا يجوز لنا نتعداه إلى غيره أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) فقال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: (فانهض بنا إلى أعلى الوادي، لنحوز الماء خلف ظهورنا ونقاتل العدو من وجه واحد) فأقره على ذلك بل صوبه، ونهض فحط في أعلى الوادي، ولو كان خلافه في ذلك لا يجوز لما أقره على ذلك.
وأما أن حالهم لا يكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فذلك ظاهر.
قال رحمه الله تعالى ثم ذكر في كتاب النهاية أن مخالفتهم لا تجوز؛ لأن أدلة الإجماع لم تفصل بين أمر وأمر.
قال رحمه الله تعالى: وقال أبو رشيد إنه إن استقر الإجماع لم يجز مخالفته، وإن لم يستقر جازت مخالفته.
قال: وقد أشار إلى مثل ذلك القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى قول أبي رشيد ويحتج له بأن أدلة الإجماع لم تفصل بين إجماعهم في أمر الدنيا وأمر الآخرة، ولا يجوز الفصل بغير دلالة.
وعندنا أنه ينبغي أن نفصل الكلام في هذه المسألة تفصيلاً، فنقول: إجماعهم لا يخلو إما أن يكون في الوجه الذي تقع عليه الحرب أو في صورتها ووقتها ومكانها؛ فإن كان في الوجه الذي يقع عليه القتال من أنه لا يجوز قتالهم إلا بعد الدعاء أو لا يجوز قتالهم إلا مع إمام أو أمير، أو لا يجوز قتالهم إلا للدفع، وجُوِّزَ انعقاد الإجماع على أحد هذه الوجوه فإنه لا يجوز مخالفتهم.
وإن أجمعوا على القتال في موضع مخصوص كقتالهم في باب القادسية، أو في وقت مخصوص من صباح أو مساء، أو لأمر مخصوص كأن يدفع إليهم جزية أو ضريبة، أو تستمر الهدنة إلى مدة معلومة، أو يتركوا قصد المسلمين في تلك الأوقات، فإنه يجوز خلافهم في ذلك؛ لأن حالهم لا تكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فإذا جاز خلافه في ذلك كان جواز خلافهم أولى.
فإن قيل: إن الأدلة لم تفصل في وجوب اتباعهم بين أمر وأمر في دنيا ولا آخرة.
قلنا: وكذلك الأدلة التي دلت على وجوب اتباعه عَلَيْه السَّلام لم تفصل من ذلك بين أمر وأمر اللهم إلا أن يعلم من حالهم أنه لا يجوز مخالفتنا في هذا الرأي، وهذا من البعيد سيما في أمر الحروب وتقلب أحوالها وتصرف وجوهها.
مسألة:[الكلام في الإجماع هل ينعقد من جهة الإجتهاد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز أن ينعقد الإجماع من جهة الإجتهاد أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن منهم من أبى ذلك أصلاً، قال: وهم أصحاب الظاهر.
ومنهم من جوزه بالقياس الجلي دون الخفي، وهو قول بعض الشافعية.
ومنهم من جوزه مطلقاً وهو قول الأكثر، وكان رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أن القياس والإجتهاد أحد طرق الشرع فلا يمتنع رجوعهم إليه وانعقاد الإجماع لأجله.
أما أنه أحد طرق الشرع: فذلك ظاهر، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما أنه لا يمنع رجوعهم إليه: فلأن المعلوم من حالهم الرجوع إلى الطريق الشرعية، فكيف يكون ما المعلوم من حالهم الرجوع إليه ممتنعاً؟ وهل المانع مما هذا حاله إلا كالمانع من رجوعهم إلى التوقيف والنص؟ فكما أنه لا يجوز المنع من ذلك كذلك لا يجوز المنع من هذا، وأن كل واحد منهما طريق من طرق الشرع يجب الرجوع إليه ويصير منعنا من المنع لمن ذهب في هذه المسألة إلى خلاف ما ذهبنا إليه كمنعنا لبعض الخوارج من قصرهم الأحكام على ما يأتي به الكتاب دون المعلوم من السنة.
فكما أنا نقول لا يجوز ذلك؛ لأن كل واحد منهما دليل شرعي فلا يجوز المنع منه لغير دلالة، كذلك نقول إن القياس والإجتهاد من الطرق الشرعية التي يجب الرجوع إليها، فكما ثبت رجوعهم إلى النص والتوقيف والإجماع لأجله، كذلك لا يمتنع رجوعهم إلى القياس والإجتهاد والإجماع لأجله.
مسألة:[الكلام في أن الإجماع الحاصل عن اجتهاد حجَّة]
وإذا حصل الإجماع عن اجتهاد كان حجة يحرم خلافها عند مشائخنا وأكثر الفقهاء؛ وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك قول قاضي القضاة وأبي الحسين البصري والحاكم أبي سعيد، وقال بعضهم لا يكون حجة.
وحكى قاضي القضاة عن الحاكم صاحب المختصر أنه قال: إذا انعقد الإجماع عن اجتهاد جاز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه.
والدليل على صحة المذهب الأول: أن أدلة الإجماع لم تفصل بين إجماع وإجماع، والفصل بغير دلالة لا يجوز لأن مخالفتهم في ذلك تكون اتباعاً لغير سبيل المؤمنين، وقد ورد عليه الوعيد فلو جاز لما ورد عليه الوعيد من الله سبحانه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اتفقوا على حكم من الأحكام هل لمن بعدهم مخالفتهم؟]
إذا اتفق أهل العصر على حكم من الأحكام، فإن لمن بعدهم متابعتهم؛ بل ذلك هو الواجب عليهم، فإن خالفهم بعض أهل الرأي كان مخطئاً، وكان خلافه نقضاً للإجماع، وخلافاً للحق، ويمكن أن يعدل البعض عن الحق.
فأما أتفاق أهل العصر الثاني على مخالفتهم فإن ذلك لا يجوز وقوعه عندنا.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن قاضي القضاة حكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه قال: إنما لم يجز أن يتفقوا على مخالفتهم لأن أهل العصر الأول أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقع الإجماع على مخالفتهم، فلو لم يجمعوا على ذلك لجاز أن يتفق من بعدهم على مخالفتهم، ويكون الإجماع الثاني في حكم الناسخ للأول.
وحكى عن الشيخ أبي علي أنه قال: لو جاز ذلك لجاز أن يخالفهم واحد ثم ينضم إليه ثاني وثالث إلى أن يتفق أهل العصر الثاني على خلافهم، وقوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115]، يمنع من ذلك، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى هذه المقالة ويحتج لها.