وأما ما ذكره رحمه الله تعالى من أن الصحابة كان يلزمهم الرجوع إلى التوراة وغيرها لو تعبدوا ببعض ما فيها فهو غير لازم؛ لأنا نقول إنهم لم يتعبدوا مما فيها إلا بما شهد به الكتاب والرسول عليه وآله السلام، وما لم يشهدا به قطعنا أنه لم يرد به التعبد كما أن الرسول لم يتعبد من شرائع من تقدمه إلا بما نزل به الوحي، ولأنهم أيضاً لا يرجعون إليها ولا إلى أهلها لهذه الحال، ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قد أخبرهم وهم لا يشكون في صدقه بأن الله تعالى قد أكمل لهم دينهم بما أنزل الله إليه من كتاب وسنة، فكان ذلك صارفاً لهم عن الرجوع إلى من ذكر فيما وجدناه عن نبينا صلى الله عليه وآله مما كان في شرائع من قبله وفي غيرها لزمنا نسخه، فهذا هو الكلام في هذه المسألة.
مسألة:[الكلام في النبي هل طاف وسعى وذكى قبل البعثة أم لا؟]
توقف الفقهاء بأسرهم في أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل طاف وسعى وذكى قبل البعثة أم لا؟
فحكي عن أبي رشيد أنه قطع على أنه عَلَيْه السَّلام لم يفعل شيئاً من ذلك قبل البعثة.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى قول أبي رشيد ويرجحه، واختيارنا هو الأول(1).
والدليل على صحته: أن الأدلة من جهة العقل كما دلت على قبح التذكية لكونها ظلماً إلا أن يبيح الشرع، وكذلك السعي والطواف عبثاً قبيحاً إلا أن يرد بهما أمر الحكيم سبحانه، وأن الأنبياء لا يقدمون على ما يعلمون قبحه ولا يجوز عليهم ذلك لكونه منفرداً، فقد دلت أيضاً على تجويز التذكية والسعي بما علم من دين الأنبياء ضرورة من جواز التذكية والسعي، وكان صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يعلم صدق الأنبياء ويعرف حقهم قبل البعثة وبعدها.
__________
(1) ـ يعني التوقف في المسألة كما يعلم من الإستدلال.
ولأنه بلغنا عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه كان يذكر جده عبد المطلب ويعد مناقبه ويذكر منه أفعالاً لولا اعتقاده بجوازها قبل البعثة لما جاز مدحه بها لأنها كانت تكون قبيحة، والمدح بفعل القبيح لا يجوز سيما منه عَلَيْه السَّلام، وقال في ذلك: ((إن عبد المطلب سنّ سنناً في الجاهلية فجاء بها الإسلام، سن الطواف بالبيت سبعة أشواط، وكانت قريش تزيد وتنقص، وكان لا يأكل ما ذبح على النصب، ووجد مالاً في زمزم فخمسه فجاء بذلك الشرع وسماها سقاية الحاج، فقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19]، ودفع دية ابنه عبدالله مائة من الإبل، وحرم حلائل الآباء على الأبناء(1))) فلو كانت هذه الأفعال قبيحة وكان يعلم قبحها قبل البعثة لما مدحه بفعلها وأوردها مورد إظهار الذكر لله سبحانه وتعالى باتباع الحق.
وإذ لم يقبح من عبد المطلب لم يقبح من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ولأن المعلوم من حال قريش كلها تعظيم البيت الحرام وتعظيم من قصده، ولبني هاشم اليد الطولى في ذلك، ولم يكن يظهر تعظيمهم له إلا بالطواف حوله، فلو لم يشتهر بالطيافة حوله لنقصه المشركون بذلك، ومعلوم أنهم لم ينقصوه بشيء من ذلك، ولأن ذلك معلوم له من دين إبراهيم عَلَيْه السَّلام، ولم يثبت عنده نسخه، فيقضي بقبحه، وقد قطع على صحة ما جاء به إبراهيم عَلَيْه السَّلام وتصويبه، فهذه الوجوه كما ترى توجب التوقف.
__________
(1) ـ رواه السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح (169)، والإمام أبو طالب في الأمالي (389).
الكلام في الإجماع
مسألة:[الأدلة على حجِّية الإجماع]
الإجماع حجة عند جميع المسلمين من الصحابة والتابعين، ثم حُكي بعد ذلك عن النظَّام خلافه وتبعه على ذلك الروافض وقوم من الخوارج.
والدليل على صحة الأول: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، وهو لا يتوعد على فعل إلا وذلك الفعل واجب؛ لأن الوعيد على فعل الحسن وترك ما ليس بواجب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين، فلا وجه لاستقصاء ذكره هاهنا.
وإذا قبحت مخالفتهم وجبت متابعتهم إذ لا واسطة بين متابعتهم ومخالفتهم؛ فصح ما قلناه من كون الإجماع حجة.
والذي يدل على ذلك: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى أخبر وهو لا يخبر إلا بالصدق؛ لأن الكذب قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، بأنه جعلهم أمة وسطاً، والوسط الخيار من كل شيء، وهذا شائع في اللغة، ثم أخبر سبحانه بالإرادة في ذلك وأنها: ليكونوا شهداء على الناس، والناس هاهنا هم اليهود والنصارى وسائر فرق الكفر والله أعلم، وهو لا يختار للشهادة إلا العدول الذين لا يقولون إلا الحق؛ لأنه لو اختار غير من هذه حاله كان ذلك تغريراً منه وتلبيساً وذلك قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح.
فصل: [في بيان الطرق إلى العلم بإجماع الأمة]
ويعلم إجماع الأمة بأمور:
أحدها: أن يتفقوا على فعل من الأفعال ويفعلوه بأجمعهم،
ومنها: أن يقولوا بأجمعهم قولاً واحداً.
ومنها: أن يفعل بعضهم أو يقول ويكون ظاهر الحال السلامة وارتفاع موانع التقية، ويكون ذلك الفعل أو القول إذا لم يكن حقاً كان قبيحاً، ويسكت بعضهم عن الإنكار، فإنا نعلم الإجماع على جواز ذلك الفعل، وأنه من قبيل الحسن فإن أجمعوا على ترك فعل علمنا أنه ليس من قبيل الواجب.
مسألة:[الكلام في من يعتبر في الإجماع ومن لا يعتبر]
لا خلاف أنه لا يعتبر في الإجماع بأحد من الكفار، وإنما الخلاف في المصدقين بالله تعالى ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فعند أبي علي يعتبر بالمؤمنين دون غيرهم، وهو قول القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
وحكى شيخنا عن أبي هاشم أنه يعتبر بجميع المصدقين.
وحكى أن الشيخ أبا الحسين الخياط(1) حكى عن جعفر بن مبشر(2) أنه لا يعتبر بالخوارج والرافضة لأنه لا سلف لهم، ولأنهم يتبرأون من السلف الصالح.
وقال بعضهم: إجماعهم فيما يبحثون عنه يعتبر ولا يعتبر في النقل؛ لأنهم أفسدوا على نفوسهم النقل ولا نعتبر بالرافضة في أمر القرآن؛ لأنهم يجوزون فيه الزيادة والنقصان.
__________
(1) ـ أبو الحسين الخياط: عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط، من الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة، من معتزلة بغداد يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- على سائر الصحابة، وكان عالماً فاضلاً فقيهاً، صاحب حديث، وحفظ واسع لمذاهب المتكلمين، وهو أستاذ أبي القاسم البلخي، وله كثير من المؤلفات في علم الكلام وغيره.
(2) ـ أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي كان مشهوراً بالعلم والورع، من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، ومن معتزلة بغداد ممن يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وكان يضرب به المثل هو وجعفر بن حرب فيقال: علم الجعفرين وزهدهما.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن دليلي الإجماع اللذين أستدللنا بهما على الإجماع خصا الخيار العدول المؤمنين، والفساق ليسوا بعدول ولا مؤمنين، وسواء عندنا في هذا الموضع الفسق من جهة التأويل، والفسق من جهة التصريح.
أما أن الدلالة خصت المؤمنين: فذلك ظاهر.
وأما أن الفساق من جهة التأويل ليسوا من المؤمنين: فلأن الإيمان اسم مدح وتعظيم وهم لا يستحقون التعظيم، إنما يستحقون الإهانة والذم والبراءة واللعن، فإذا صح ما قلنا بما قدمنا خرج من الإعتبار الخوارج والروافض، وغيرهم من الفرق الضالة.
من فروع هذه المسألة: إذا اختلفت الأمة على قولين، وفسقت إحدى الطائفتين.
فعند أبي علي والقاضي يسقط الخلاف وفسقهم كموتهم.
وعند أبي هاشم: نعتبر قولهم، وقد بينا أن اختيارنا ما ذهب إليه أبو علي، وأنه الحق بما فيه كفاية.
مسألة:[الكلام في أنه يعتبر إجماع المؤمنين في كل عصر]
ويعتبر عندنا إجماع المؤمنين في كل عصر.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن بعضهم أنه اعتبر بإجماع المصدقين إلى انقضاء التكليف، وهذا باطل؛ لأنه لا يكون في تلك الحال حجة لزوال التكليف؛ لأن في تلك الحال ينقطع الخلاف ويرتفع التعبد.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم من أن الأمة إذا قالت قولاً، أو فعلت فعلاً، أو قال بعضها أو فعل فعلاً وأقرته عليه فإنه يكون إجماعاً، وقد ثبت كون الإجماع حجة بما تقدم من الدلالة، والحجة يجب اتباعها ويحرم خلافها، فإذا أجمع أهل العصر وجب اتباعهم وحرم خلافهم.
مسألة:[الكلام في من يعتبر من المؤمنين في الإجماع ومن لا يعتبر]
اختلفوا في من يعتبر في باب الإجماع، ومن لا يعتبر.
فمنهم من اعتبر الفقهاء دون غيرهم من أهل العلم في علم الكلام وغيره.
ومنهم من اعتبر الأئمة دون غيرهم.
ومنهم من اعتبر أهل الإجتهاد دون العوام.
وعندنا أن الإعتبار بجميع المؤمنين من غير تخصيص؛ لأن دلالة الإجماع لم تخص أحداً دون أحد بل عمت الجميع من المؤمنين، ولا يجوز التخصيص بغير دلالة.
فأما إن كانت المسألة من مسائل الإجتهاد التي لا سبيل للعوام إلى معرفتها فإنه يعتبر فيها إجماع العلماء دون العوام، لأن تعذر علم المسألة عليهم في تلك الحال يجري مجرى عدمهم، فكأنهم لم يكونوا إذ لا فائدة لكونهم، فلا يجب الإعتبار بهم لهذه العلة.
وقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي عبدالله البصري أنه قال: إن العوام إذا لم يتبعوا العلماء في المسألة الإجتهادية التي أجمع عليها العلماء لم ينعقد الإجماع، ولا يلزم فرضه مَنْ بعدهم، وحكى عن القاضي آخراً، والشيخ أبي الحسين البصري أن إجماع العلماء حجة اتبعهم عوام عصرهم أم لم يتبعوهم، وهو الذي نختاره؛ لأن معصية من عصى لا تخرج الحجة عن كونها حجة، ولأن العوام بقلة اتباعهم للعلماء يفسقون عندنا؛ لأن الواجب عليهم الرجوع إلى العلماء لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:43]، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب على ما تقدم، وعند فسقهم لا يعتبر خلافهم كما قدمنا في المسألة الأولى من أن الفساق لا اعتبار بهم.
مسألة:[الكلام في أن الإجماع يعتبر بالمؤمنين من أهل كل عصر]
والإجماع عندنا يعتبر بالمؤمنين من كل أهل عصر خلافاً لأصحاب الظاهر فإنهم اعتبروا إجماع الصحابة دون غيرهم من أهل الإعصار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أدلة الإجماع لم تفصل بين أهل عصر وعصر، والفصل بغير دلالة لا يجوز.
أما أنها لم تفصل بين أهل عصر وعصر فذلك ظاهر؛ لأن المؤمنين موجودون في جميع الأعصار إلى انقطاع التكليف.
وأما أن الفصل بغير دلالة لا يجوز، فلأن ذلك يوجب على صاحبه اعتقاد المحالات، ويفتح عليه باب الجهالات؛ لأنه لا يعرف صحة الصحيح وفساد الفاسد إلا بالدليل، فإذا رفع اعتبار الدلالة، لزمه اعتقاد كل ضلالة، وظهور بطلان ما هذا حاله يغني عن الإطالة في الإحتجاج على فساده.
فإن قالوا: إنا نخصهم بذلك لاختصاصهم بالفضائل التي لم يشاركهم فيها مَنْ بعدهم.
قلنا: فعلى هذا يجب ألا يعتبروا إلا السابقين الأولين الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا دون غيرهم من الصحابة، وهذا لم يقل به أحد، ولأن دلالة الإجماع اعتبرت المؤمنين، ولم تخص الفائزين بالفضائل منهم، فلا يجوز تخصيصهم بغير مخصص.
مسألة:[الكلام في خلاف الواحد والاثنين، هل يؤثر في إجماع الأمة أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمة إذا أجمعت على قول وخالفها الواحد والاثنان هل يؤثر ذلك في الإجماع أم لا يؤثر ذلك فيه؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين الخياط أن ذلك لا يؤثر فيه، واختيارنا هو الأول، وكان شيخنا يذهب إليه.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن دلالة الإجماع لم تخص أحداً من المؤمنين دون أحد، وذلك لأن الألف واللام إذا دخلا لتعريف الجنس أوجبا الإستغراق كما قدمنا، فإذا خرج الواحد والاثنان لم يكن اللفظ في الباقين حقيقة؛ لأنه إنما يكون حقيقة في الجميع، وإذا لم يكن حقيقة كان مجازاً إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز، ولا يجوز حمل اللفظ على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة كما تقدم الكلام فيه، فثبت أن خلاف الواحد والإثنين يقدح في الإجماع.
مسألة:[الكلام في أن أخبار الآحاد تقدح في الإجماع]
إذا ظهر الإجماع في أهل العصر ولم يعلم خلافه، ثم روى واحد الخلاف من جهة الآحاد لم يقدح في الإجماع عند أبي عبدالله وأبي الحسن وأبي رشيد، نحو إجماعهم على أن ما يتغذى به إذا دخل الحلق فَطَّر.
ثم روى عن أبي طلحة(1): (أن البرد لا يفطر)، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى هذا ويحتج له بأن الإجماع معلوم الصحة، وخبر الواحد مظنون الصحة، فلا يجوز ترك المعلوم للمظنون.
وعندنا أن أخبار الآحاد تقدح في الإجماع؛ لأن ظاهر الإجماع لا يكون أصح متناً وأعظم حرمة وأوجب حقاً من ظاهر الكتاب، وقد عدل عن ظاهر الكتاب لخبر الآحاد كما فعله عمر في قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وعدل عن هذا الظاهر لخبر عبد الرحمن بن عوف كما قدمنا.
وأما ما ذكره رحمه الله تعالى من المنع عن ذلك؛ لأن الإجماع معلوم، وخبر الواحد مظنون، وقد ترك له وإنما ترك له والحال هذه لأن ظاهر الكتاب محتمل، وخبر الواحد لا يحتمل، لأنه يرد بالأمر مفصلاً ولا شك في كون ظاهر الإجماع أشد احتمالاً من ظاهر الكتاب وأوسع سبلاً للتأويل.
فأما خلاف أبي طلحة فإنما لم يعمل عليه لانعقاد الإجماع بعده، والخلاف إذا انعقد بعده الإجماع لم يلتفت إليه، ويجوز أن يكون ترك اتباعه والعمل به لخللٍ في أمر الراوي أو في روايته.
مسألة:[الكلام في أن التابعي إذا كان في عصر الصحابة اعتُبر في إجماعهم]
التابعي إذا خالف الصحابة وهو في عصرهم، وكان لاحقاً بهم في العلم فإنه لا يكون إجماعاً ويعتبر بخلافه.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أصحاب أبي حنيفة والشيخ أبي عبدالله والقاضي، وذهب بعضهم إلى أن التابعي لا يعتد بخلافه في إجماع الصحابة، واختيارنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن التابعي بعض المؤمنين وأدلّة الإجماع لم تفصل بين بعض المؤمنين والبعض الآخر.
__________
(1) ـ أبو طلحة: زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري الخزرجي النجاري شهد بدراً وما بعدها وهو الذي أمره عمر بضرب أعناق أهل الشورى إن لم يصلحوا على الكيفية التي أمر بها. توفي سنة نيف وثلاثين. انظر لوامع الأنوار (3/203)، والجداول (خ).
أما أنه من المؤمنين، فذلك مما لا خلاف فيه.
وأما أن دلالة الإجماع لم تفصل بين بعض المؤمنين دون بعض فذلك أيضاً ظاهر، ولأن علماء التابعين بمنزلة أصاغر الصحابة، فكما أن أصاغر الصحابة كابن عمر وابن عباس يعتبرون بلا خلاف فكذلك علماء التابعين؛ لأن تأخر الأصاغر عن عصر الأكابر لم يخرجهم من الإعتبار، فكذلك تأخر عصر التابعين عن عصر الصحابة لا يخرجهم أيضاً عن الاعتبار.
مسألة:[الكلام في أنه يُعتبر في الإجماع كافَّة أهل العلم]
ويعتبر في الإجماع كافة أهل العلم وإن لم يعرف بعضهم بالفتوى كواصل بن عطاء(1) ومن الناس من قال لا يعتبر به في ذلك.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن ابن جرير(2) أنه قال: لا يعتبر من أهل العلم إلا أهل الكتب والأصحاب دون غيرهم.
واختيارنا أنه يجب اعتبار الجميع.
والذي يدل على صحته: أن الآية لم تخص أحداً من المؤمنين دون أحد فثبت وجوب اعتبار الجميع، وإنما أخرجنا العوام لتعذر المعرفة عليهم، وهذه العلة زائلة عمن قدمنا ذكره، فلا يجوز إخراجه.
__________
(1) ـ واصل بن عطاء الغزال، أبو حذيفة، ولد بالمدينة سنة (80هـ)، من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة، كان نادرة الزمان في فصاحته وعلمه، وكان جدلاً حاذقاً، توفي سنة (131هـ).
(2) ـ ابن جرير: محمد بن جرير بن يزيد بن هارون الطبري، أبو جعفر، صاحب التفسير والتاريخ المشهور، وثقه الذهبي وأثنى عليه هو وغيره حتى صاحب الخارقة، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، وقد نالوا منه لذلك، ومن مصنفاته: كتاب الولاية في طرق حديث الغدير، وعادته الحنابلة ومنعوا الناس من الدخول إليه لما أنكر عليهم وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة. انظر الجداول (خ)، والفلك الدوار (خ).
مسألة:[الكلام في عدم حجِّية إجماع أهل المدينة وحدهم]
إجماع أهل المدينة وحدهم عندنا ليس بحجة.
وحكي عن مالك أنه قال: إن إجماعهم حجة، وكان بعض أصحابه ينفي ذلك عنه وينكره وأحسب أنه أبو بكر الأبهري(1)، وقال: إنما قال إن روايتهم أقوى من رواية غيرهم.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أهل المدينة بعض المؤمنين، وقد بينا أن الإعتبار بإجماع جميع المؤمنين.
أما أنهم بعض المؤمنين فذلك ظاهر.
وأما أن الإعتبار بجميع المؤمنين فلأن الأدلة أوجبت اعتبار الجميع، فاعتبار البعض يكون عملاً بخلاف مقتضاها، وذلك لا يجوز.
فأما ما روي من قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من ((أنها طيبة تخرج خبثها كما يخرج الكير خبث الحديد(2)))، فذلك لا يوجب كون قول أهلها حجة لأن مدحة الله سبحانه ومدحة رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمكة أكثر فكما لم يكن قول أهل مكة حجة فكذلك المدينة، ولأن كل واحد منهما مهبط الوحي فما لزم لأهل أحدهما لزم لأهل الأخرى.
وأما أن روايتهم أقوى من رواية غيرهم: فلا يمتنع ذلك؛ لأن أهل البلد قد يكونون أعلم بما حدث فيه، هذا فيما يحدث في بلدهم؛ فأما ما يحدث في غيرها فهم وغيرهم فيه سواء لفقد المخصص.
__________
(1) ـ أبو بكر الأبهري: محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح التميمي، أبو بكر الأبهري البغدادي، الفقيه المالكي، كان شيخ المالكية بالعراق. توفى سنة خمس وستين وثلاثمائة. انظر الجداول (خ).
(2) ـ أخرجه البخاري (2/665) رقم (1784)، وأحمد (3/306) رقم (14323)، وابن حبان (9/49) رقم (3732)، والنسائي (2/482) رقم (4262)، وأبو يعلى (4/20) رقم (2023).