الكلام في الأفعال
[الأدلة على وجوب التأسي]
اعلم أنه لا خلاف في أن التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم واجب على الجملة لقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى عقب ذكر التأسي بالتخويف، فلو لم يكن واجباً لما عقبه به.
أما أنه عقبه به: فذلك ظاهر؛ لأن قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} إشعار منه بالتخويف.
وأما أنه لو لم يكن واجباً لما عقبه به: فلأنه سبحانه لا يخوف على ترك المندوب ولا المباح على ما ذلك مقرر في مواضعه من علم الكلام، ولقوله سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإتباع يتضمن معنى التأسي؛ لأن اتباعنا لقوله هو أن نعمل بمقتضاه وذلك ظاهر عند أهل المعرفة باللغة العربية والمعاني، واتباعه في فعله أن نفعل مثله لأجل أنه فعله على الوجه الذي فعله عليه إذا علمناه في الوقت، إن لم يتقدم علمنا تخصيصه له به وبالمكان على ما يأتي إن شاء الله تعالى، فإذا علمنا معنى الإتباع وكان قوله: واتبعوه أمراً، وقد قدمنا الكلام في أن الأمر يقتضي الوجوب بما لا طائل في ذكره ثبت وجوب اتباعه.
واعلم أن التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يقع في وجهين:
أحدهما: في الفعل، والثاني: في الترك.
أما التأسي بالفعل: فمعناه أن تراه يفعل فعلاً على وجه في موضع تعلم من غرضه إيقاعه فيه مخصوصاً بزمان، ويكون إيقاعه له على وجه الوجوب، فإنه يلزمنا أن نوقع صورة ذلك الفعل على ذلك الوجه في ذلك الوقت والزمان والمكان.
وأما الترك: فأن نراه ترك فعلاً على وجه في وقت ومكان يعلم دخولهما في غرضه، فإنا نتركهما في ذلك الوقت والمكان على ذلك الوجه؛ لأجل تركه ونكون قد تأسينا به.

فصل:[الكلام في التأسي، هل وجب عقلاً أو شرعاً؟]
وقد اختلف الناس في التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ فمنهم من أوجب ذلك عقلاً، ومنهم من أوجبه شرعاً.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يمنع من إيجابه من جهة العقل، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العقل يقضي بتجويز اختلاف التكليف بتجويز اختلاف المصالح، والمصالح تختلف بالأزمنة والأمكنة، والمكلفين فكان لا يمتنع في العقل أن تكون مصلحته ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ مخالفة لمصلحتنا، ومتعلقة بغير ما تعلقت به مصلحتنا فيجب عليه ما لا يجب علينا، ويحل له ما لا يحل لنا، ويحرم عليه ما لا يحرم علينا، وقد كان ذلك، فإنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وجبت عليه الوتر والأضحية، ولم تجبا علينا، وحل له نكاح ما فوق الأربع ولم يحل لنا، وحرم عليه وعلى أهل بيته عليه وعَلَيْهم السَّلام النذر والصدقات، ولم تحرم على سائر الأمة، فإذا كانت دلالة العقل تمنع من التأسي به، فكيف تكون دلالة عليه.
مسألة:[الكلام في وجوب التأسي بالنبي في جميع أفعاله إلا ما خصه دليل]
واعلم أنه يجب علينا التأسي به صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في جميع أفعاله الشرعية إلا ما خصّه الدليل، وهذا مذهب شيوخنا، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده ويحتج له، ونحن نختاره.
ومن الناس من قال: يجب علينا التأسي في أمور مخصوصة دون غيرها خصتها الدلالة نحو قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي))، وقوله عَلَيْه السَّلام: ((خذوا عني مناسككم)) وما شاكل ذلك.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي بن خلاد(1) أنه قال: إنما يجب علينا التأسي به في باب العبادات دون غيرها من المناكح وسائر الأفعال.
__________
(1) - أبو علي بن خلاد: من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة، من أصحاب أبي هاشم الجبائي درس عليه بالعسكر ثم ببغداد، صاحب كتاب الأصول والشرح، مات ولم يبلغ حد الشيخوخة.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا باتباعه وأوجب التأسّي كما قدمنا في قوله: واتبعوه أمراً مطلقاً، فوجب عمومه كما في قوله سبحانه وتعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، ولم يخص فعلاً من فعل فوجب التأسي في جميع الأفعال إلا ما خصه الدليل، فإذا فعل فعلاً على وجه وجب علينا إيقاع مثل ذلك الفعل على ذلك الوجه؛ لأجل أنه أوقعه بجميع ما قدمنا من الشروط.
دليل آخر: وهو أن الصحابة أجمعت على الرجوع إلى أفعاله كما أجمعت على الرجوع إلى أقواله، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أنهم أجمعوا على الرجوع إلى أفعاله: فذلك ظاهر من أمرهم؛ لأنهم لما اختلفوا في الإيلاج من غير إنزال هل يوجب الغسل أم لا؟ رجعوا إلى أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فأخبرنهم أنه كان عليه وآله السلام يغتسل من ذلك فتأسوا به في وجوبه، وكذلك في الجنب إذا أصبح صائماً، وفي قبلة الصائم، وتعرفوا خبره في زواج ميمونة هل كان محلاً أو محرماً إلى غير ذلك، فلو لم يكن التأسي به صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم واجباً على وجه العموم لما رجعوا إلى تعريفة(1) أفعاله؛ لأنهم لا يتعرفون الحكم من أمرٍ لا تعلق له بتكليفهم، كما أنهم لا يتعرفون الحكم من أفعال عيسى عَلَيْه السَّلام وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنه لا يرتبط به تكليفهم، ولا تتعلق به مصلحتهم.
مسألة:[الكلام في ما يعتبر في التأسي]
ويعتبر في التأسي به عليه وآله السلام الصورة مثل كون الفعل صلاة أو سعياً، والوجه مثل كونه واجباً أو نفلاً، والسبب كأن يسهو فيسجد أو يقرأ آية مخصوصة.
فأما الوقت والمكان؛ فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أن ذلك لا يصح؛ لأن ذلك يمنع من التأسي به رأساً لفوات الزمان وتعذر المشاركة في المكان، لاستحالة كون شخصين في وقت واحد في مكان واحد.
__________
(1) ـ أي معرفة أفعاله.

وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي عن أبي عبدالله أنه يعتبر المكان، وذكر أنه مذهب أبي الحسين البصري، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
فأما تطويل الفعل وتقصيره وتقليله وتكثيره، فذلك لاحق بالصورة، وقد تقدم الكلام فيه، ولأنه لا يمتنع تعلق المصلحة بإيقاعه على ذلك الوجه، فيلزم إيقاعه عليه.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أن معنى التأسي: هو الإقتداء به والاتباع له، فإذا علمناه أوقع الفعل في مكان مخصوص ووقت مخصوص، وأوقعناه في غير ذلك المكان على غير ذلك الوجه في ذلك الوقت كنا مخالفين ولم نكن متأسين.
ولأن الظاهر من أمر المسلمين من لدن الصحابة إلى اليوم مراعات الأوقات والأمكنة التي أوقع فيها الأفعال كوقوفهم بعرفة دون غيرها من تلك الأماكن في وقت مخصوص دون غيره من الأوقات، وكالصيام في زمان مخصوص، وتقبيل موضع في الكعبة مخصوص، والطواف على سمتٍ مخصوص في جهة مخصوصة، وإنما يجب اعتبار الزمان في المكان والصورة بحسب الإمكان؛ لأن التعبد لا يصح بغير ذلك.
مسألة:[الكلام في أفعال النبي (ص) هل هي أدلة أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى إجماع الأمة على الإستدلال بأفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم على الأحكام، ثم اختلفوا.
فقال قوم: هي أدلة إذا عرفت الوجوه التي وقعت عليها، واختلف القائلون بأنها أدلة بمجردها، فحكى عن مالك وطائفة من الشافعية أنها تدل بمجردها على الوجوب.
ومنهم من قال إنها أدلة على الندب.
ومنهم من قال: إنها أدلة على الإباحة.

وكان رحمه الله تعالى يقول: إن من يقول إنها أدلة إذا عرفت وجوهها التي وقعت عليها إن علمت الطريقة التي اتبعها النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وكانت عقلية أو سمعية، فإنه يرجع إليها في الإستدلال، وإن لم تعرف الطريقة فما هذه حاله ضربان، بيان لمجمل، وغير بيان لمجمل، فما كان بياناً لمجمل أجري عليه حكمه، فإن دل المجمل على الوجوب كان مثل ذلك الفعل واجباً علينا، وإن دل على الندب كنا مندوبين إلى مثله، وإن كان مباحاً كان مثله مباحاً لنا.
وإن لم يكن بياناً لمجمل كان الواجب علينا تعرف الوجه الذي أوقعه عليه، فعلى أي وجه أوقعه وجب علينا إيقاعه على مثله.
وقال شيخنا رحمه الله تعالى إن ذلك مذهب شيوخنا المتكلمين، وأبي الحسن الكرخي، وأبي الحسين البصري.
واختيارنا في هذه المسألة: أن الفعل إذا وقع من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فلا يخلو إما أن يقع لدلالة عقلية أو لا يقع؛ فإن وقع لدلالة عقلية كان حكمنا في ذلك الحكم مثل حكمه؛ لأن الكل منا ومنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متعبد باتباع قضية العقل والتكليف علينا وعليه في ذلك واحد، ولا نعد متأسين له والحال هذه، كما لا نعد متأسين بمن اتبعنا طريقته من الشيوخ في الأدلة العقلية؛ لأنا لم نتبع مقتضى الطريقة العقلية؛ لأنه سلكها بل لأن العقل قضى بذلك.
وإن كان الخطاب شرعياً فلا يخلو إما أن يكون مجملاً أو مبيناً، فإن كان بخطاب مبين فتوجهه إليه عَلَيْه السَّلام كتوجهه إلينا، واتباعنا له لأجل وروده من الحكيم الذي لا يسوغ خلافه، فلا نكون متأسين به والحال هذه، وكان حكمه فيه كحكمنا.
وإن كان بياناً لمجمل لزمنا فعله؛ لأنه عَلَيْه السَّلام فعله، وكنا متأسين به في هذه الحال.

وإن لم يكن لواحد من النوعين المتقدمين وهما الخطاب ودلالة العقل لم يخل أيضاً إما أن نضطر إلى علم وجهه الذي أوقعه عليه أو لا نضطر؛ فإن اضطررنا إلى علم وجهه الذي أوقعه عليه لزمنا إيقاعه على ذلك الوجه الذي أوقعه عليه، وإن لم نضطر فلا يخلو: إما أن نجد طريقاً إلى علم الوجه الذي أوقعه عليه أو لا نجد؛ فإن وجدنا طريقاً إلى ذلك عملنا بما أوصلتنا إليه تلك الطريق من الوجوه، وإن لم نجد طريقاً إلى معرفته كان عدمها طريقاً إلى العلم بوجوبه علينا، وحملناه على الوجوب، هذا إذا كان شرعياً.
وأما إذا كان الفعل عقلياً، فقد بينا أن حكمه عَلَيْه السَّلام في ذلك مساوٍ لحكمنا، وأنه لا يصح فيه معنى التأسي، وإنما قلنا بأنا نحمله على الوجوب؛ لأنه قد ثبت وجوب التأسي به صلوات الله عليه واتباعه في الجملة بما قدمنا من الأدلة على وجه العموم في جميع أفعاله وأقواله إلا ما خصه الدليل وهذا الفعل لم يخصه الدليل، فوجب أن يكون واجباً، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لم يقم عليه دلالة تلحقه بالمندوب ولا بالمباح فتخصه.
فأما المحظور فلا يجوز منه فعله عَلَيْه السَّلام في الشرعيات؛ لأن ذلك يرفع ثقتنا به وينقض الغرض ببعثته وتحيل الأدلة التي قدمنا في وجوب اتباعه وكل ذلك لا يجوز، فإذا تقرر هذا وجب حمل فعله الذي لا يعلم وجهه ولا نجد طريقاً إلى علمه من الشرعيات على الوجوب، فصح بذلك اختيارنا في هذه المسألة.
مسألة:[الكلام في صحة تعارض أفعاله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن القاضي كان يقول: إن التعارض لا يصح وقوعه في أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكان رحمه الله تعالى يحتج له ويعتمده.
وحكى عن أبي رشيد تجويز صحة التعارض في أفعاله، وهو اختيارنا، وقد تقدم الكلام فيه في باب الناسخ والمنسوخ بما لا طائل في إعادته.

مسألة:[الكلام في النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- هل كان قبل البعثة متعبداً بشريعة أم لا؟]
اختلفوا في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل كان قبل البعثة متعبداً بشريعة أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قطع أنه لم يتعبد بشيء من ذلك، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله وجماعة.
ومنهم من قطع أنه تعبد بشريعة ما.
ومنهم من توقّف فيه توقف مجوز على ما يحكى عن بعض الشافعية، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى القطع على أنه لم يتعبد بشيء من الشرائع كما ذهب إليه أبو علي ومن تابعه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أنه عَلَيْه السَّلام لو تعبد بذلك لكان لا بد له من طريق، ومعلوم أنه لم يكن له إليه طريق فثبت أنه لم يتعبد بشيء من ذلك.
أما أنه لو تعبد بشيء من ذلك لجعل له إليه طريقاً: فلأنه سبحانه عدل حكيم لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب، والتعبد بما لا طريق إليه من جملة القبائح، فلا يجوز من الله سبحانه وتعالى أن يتعبده بشيء من ذلك، وتقرير هذه الدلالة في موضعه من أصول الدين.
وأما أنه لم يكن له إلى شيء من ذلك طريق: فتلك الطريق لا تخلو إما أن تكون الوحي أو الأخبار، ولا يجوز أن تكون الوحي؛ لأن كلامنا في الحال قبله، ولا يجوز أن تكون الأخبار لوجهين:
أحدهما: أنه عليه وآله السلام لم يعرف بمخالطة أهل الكتابين ولا الأخذ منهم، ولا تعرف أحوالهم.
والثاني: أنه عليه وآله السلام قد علم اختلاطهم وتحريفهم وطعن كل واحد منهم على صاحبه، فكان ذلك يقل الثقة بهم في أخبارهم، ويمنع من الرجوع إليهم، فلم يكن يحصل له مع ذلك علم، ولا غالب ظن، ولو وجب عليه الرجوع إليهم والحال هذه لعلم ذلك من أمره؛ لأن أموره عَلَيْه السَّلام كانت محفوظة من وقت صغره إلى كبره فلم يعلم ذلك من أمره.
فلما صح ذلك علمنا أنه قبل البعثة لم يتعبد بشيء من الشرائع، وصح ما اخترناه.

مسألة:[الكلام في النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعد البعثة هل تعبد بشيء من شرائع من تقدم أم لا؟]
فأما بعد البعثة فقد اختلف الناس في أمره صلوات الله عليه وآله هل تعبد بشيء من شرائع من تقدمه أم لا؟
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه لم يتعبد بشيء من شرائع من تقدمه، وإنما تعبد بشريعته وحكى عن أبي الحسن أنه كان ربما نصر هذا القول وربما نصر خلافه.
ومنهم من قال: إنه تعبد بشريعة منها، ثم اختلفوا؛
فمنهم من قال: إنه بجميع شرائع من تقدمه إلا ما عرض فيه نسخ أو منع، وإليه ذهب بعض الحنفية والشافعية، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: تعبد بشريعة إبراهيم عَلَيْه السَّلام وهو مذهب أكثر الشافعية.
ومنهم من قال: تعبد بشريعة موسى عَلَيْه السَّلام.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لمذهبه بأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لو تعبد بشيء من شرائع من قبله لما أضيفت إليه هذه الشريعة المكرمة، ومعلوم أنها مضافة إليه فثبت أنه لم يتعبد بشيء من شرائع من قبله.
قال: وإنما قلنا ذلك لأنه يكون مؤدياً عمن قبله فلا تضاف إليه الشريعة كما لم تضف شريعة موسى عَلَيْه السَّلام إلى يوشع بن نون لما كان نائباً ومؤدياً، واستدل على ذلك أيضاً بدليل ثان وهو أنه لو تعبد بشريعة من قبله لكان يجب على أتباعه الفزع إلى الكتب التي قبله من التوراة والإنجيل وأهلهما ومعلوم أنهم لم يفزعوا، فثبت أنه لم يتعبد بشيء من ذلك.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: العقل والسمع:
أما العقل: فقد تقرر فيه أن الشرائع مصالح، وأنها إذا وردت من قبل الله سبحانه وتعالى بأمر عام للأشخاص والأوقات قضى العقل باستمرار تلك المصلحة إلا أن يرفعها نسخ يعلم به من جهة العقل أيضاً تغير تلك المصلحة.
وأما السمع: فقوله سبحانه عقيب ذكره للأنبياء عَلَيْهم السَّلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإقتداء لا يكون إلا في الشرعيات، فأما العقليات، فالواجب عليه صلوات الله عليه وآله الرجوع إلى قضية العقل والإهتداء بماينتج له فكره الزاكي، ولم يفرض عليه ولا على غيره في العقليات الفزع إلى أحد، فثبت بذلك أنه عَلَيْه السَّلام تعبد بما لم تزل عنه مصلحته من شرائع من قبله.
ودليل آخر: وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عطفاً على قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].
ووجه الإستدلال به: أن ظاهره يقتضي وجوب الحكم بكل ما تقدم ذكره مما أنزل الله تعالى عليه، ومما تقدم إنزاله من الكتاب قبله، كما أن قائلاً لو قال لغيره: قد كتبت إليك وإلى غيرك بما يشهد به كتابك فاحكم بما كتبت به إليك أفاد ظاهره الأمر بجميع ما كتب إليه وإلى غيره، وهذا يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وآله متعبداً بما تضمنته الكتب المنزلة قبله مما شهد به كتابه عليه وآله السلام، ولم يثبت نسخه.

وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أنه كان يجب ألا تضاف إليه شريعته عَلَيْه السَّلام غير لازم؛ لأنا لا نقول: إنه تعبد بشرائع من قبله على الإطلاق، وإنما تعبد بما لم يثبت نسخه منها، كما أن عيسى عَلَيْه السَّلام تعبد بما لم يثبت نسخه من شريعة موسى عَلَيْه السَّلام وما قبلها من الشرائع، ونحن تعبدنا بما لم يثبت نسخه من مجموعها، وإنما أضيفت الشريعة إلى نبينا [صلوات الله عليه وآله] والحال هذه لأنها عُلمت من قِبَلِه، ونزلت إليه من عند ربه، ولم يرجع في علمها إلى الكتب التي قبله ولا إلى أهلها، بل ما تعبد به منها نُزّل عليه تنزيلاً لم يدخله شك في صحته، فلذلك أضيفت إليه بخلاف يوشع بن نون عَلَيْه السَّلام ومن شابهه فإنه رجع إلى موسى عَلَيْه السَّلام وأخذ الشرع عنه، فكان نسبة الشريعة والحال هذه إلى موسى عَلَيْه السَّلام أولى من نسبتها إلى يوشع.
وكذلك الصحابة تابعون للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وآخذون عنه، فلم تنسب شريعته إليهم لهذه العلة، ولأن حال الأنبياء عَلَيْهم السَّلام عند ربهم كما نعلمه من حال أحدنا مع عبيده، فكما أن أحدنا لو ملك مملوكاً وأمره بأمر مخصوص، ثم ملك مملوكاً آخر وأمره ببعض ما أمر به الأول وزيادة، ثم كذلك ثالث ورابع إلى ما فوق ذلك من الممكن، لم يحسن منا أن نقول إن الآخر تابع للأول على الإطلاق ولا مؤتمر بأمره، بل نقول إن الجميع مؤتمر بأمر السيد.

24 / 41
ع
En
A+
A-