وإن علم تاريخ أحدهما دون الآخر كان المعلوم التاريخ أولى أن يعمل به، وذلك من أقوى وجوه الترجيح، وإن لم يعلم التاريخ كان تعبدنا بالرجوع إلى قضية العقل إن استويا في الحظر والإباحة في العقل والشرع، فإن كان أحدهما يفيد حكماً شرعياً سواء كان مثبتاً أو نافياً، وأحدهما يبقى على حكم العقل كان المفيد للحكم الشرعي أولى، وكان هذا من وجوه الترجيح؛ لأن الشرعي ناقل فالحكم له.
وإن كانا مظنونين معاً، كان الواجب فيهما الرجوع إلى الترجيح سواء أفاد أحدهما حكماً شرعياً وبقاه الآخر على حكم العقل، أو كانا مفيدين حكمين شرعيين معاً، أو مبقيين على حكم العقل معاً؛ لأن العمل على الظن الأقوى هو الواجب.
وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً وجب العمل على المعلوم.
وقد مثل شيخنا رحمه الله تعالى هذه المسألة بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) } [المؤمنون:5ـ6]، وقوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]، وعندنا أن هاتين الآيتين لا يقدر فيهما التنافي والمعارضة؛ لأن الله سبحانه أباح الزوجات والمملوكات، وحظر الجمع بين الأخوات من الفريقين جميعاً، وإنما تقدر المعارضة والتنافي لو حرمت إحدى الآيتين المملوكات وأباحتها الأخرى لكان ذلك معارضة، وإنما اقتضت الآية تحريم الجمع، والإباحة حاصلة في كل واحدة منهما على مقتضى الآية الأخرى.
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى تفصيلاً في الخبرين إذا كانا عامين على الإطلاق، أو خاصين على الإطلاق، أو أحدهما عام من وجه وخاص من وجه آخر والآخر كذلك، قد قدمنا معانيه في باب الخصوص والعموم.
* * * * * * * * * * *
فصل في الترجيح
[وجوه الترجيح]
اعلم أن الترجيح يقع بوجهين:
أحدهما: يرجع إلى الراوي.
والثاني: يرجع إلى الخبر.
أما ما يرجع إلى الراوي من كونه أشد ورعاً، وأكثر حفظاً وضبطاً، وأذكى ذهنا، وأعظم تشدداً في الرواية، وأوسع علماً إن كانت الرواية مما يتعلق بالمعنى كما تقدم الكلام فيه من كونه أعرف بوجوهه فيؤدى لفظاً، يؤدي إلى تلك الوجوه التي أفادها كلامه عليه وآله السلام.
فأما إذا روى الحديث بلفظه لم يرجحه كونه أعلم لأن الفقيه والعامي إذا استويا في الوجوه يستويان في رواية الحديث بلفظه، فهذا مما وقع الإجماع عليه برواية شيخنا رحمه الله تعالى أنه يرجح به مما يرجع إلى الراوي.
وأما ما اتفقوا على ترجيحه به مما يرجع إلى الخبر فهو كونه مطابقاً للظواهر أو لقياس الأصول، وأما المختلف فيه فسيأتي ذكر كل مسألة منه بعينها إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في كثرة المخبرين؛ هل تقتضي الترجيح أم لا؟]
اختلف أهل العلم في كثرة المخبرين هل تقتضي الترجيح أم لا؟
فذهب شيخنا رحمه الله تعالى أن الترجيح بكثرة العدد هو قول الأكثر من أهل العلم منهم الشافعي والشيخ أبو الحسين البصري، وهو المروي عن أبي الحسن، فيجب أن يكون مذهب أبي حنيفة(1)
__________
(1) - أبو حنيفة: النعمان بن ثابت الفارسي، فقيه العراق، أحد أنصار الإمام الأعظم زيد بن علي -عليهما السلام- الراوين عنه، أفتى بالخروج مع الإمامين محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن -عليهم السلام- وبايع لهما، وكان عابداً مجتهداً محباً لأهل البيت؛ بل هو قتيل حبهم، سقاه أبو الدوانيق سماً.
قال في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة في سياق الإمام إبراهيم بن عبدالله -عليهما السلام-: وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً ويكاتبه، وكتب إليه..إلى قوله: فظفر أبو جعفر بكتابه فستره وبعث إليه فأشخصه وسقاه شربة فمات منها، ودفن ببغداد، انتهى.
عده من العصابة الزيدية: الإمام الحجة عبدالله بن حمزة -عليهما السلام-. مات -رحمه الله- في رجب سنة خمسين ومائة.
انظر: لوامع الأنوار (1/450)، والإفادة في تاريخ الأئمة السادة (63)، والجداول (خ).
؛ لأنه لما ذكر الشهادة قال يجب أن تكون الشهادة على هلال شوال أقوى من الشهادة على هلال رمضان، وأوجب في شهادة رمضان واحداً وفي شهادة شوال اثنين، فاعتبر القوة بزيادة العدد، فمن هناك قلنا يجب أن يكون ذلك مذهبه.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ما ذهب إليه الأكثر، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أن الواجب في الأخبار التي لا يحصل فيها العلم العمل على غالب الظن، ولا شك أن كثرة المخبرين تقوي الظن، وهذا يجده الإنسان من نفسه إذا أخبره من يثق به وانضاف إلى ذلك خبر ثاني ثم ثالث أن ظنه لصحة ذلك الخبر يكون أقوى، ثم كذلك ما زاد العدد ازداد الظن قوة حتى ينتهي إلى قدر مخصوص يجب عنده حصول العلم لا محالة.
ولأن الصحابة كانوا يحتاطون في الأخبار بكثرة العدد من غير مناكرة بينهم في ذلك كما روي عن عمر في خبر الإسنان(1)، وأبي بكر في خبر الجدة، فلولا أن لكثرة المخبرين مزيّة لكان طلبهم لزيادة العدد عبثاً قبيحاً ممن فعله وسكوت الباقين قبيح أيضاً؛ لأنهم أقروا على القبيح، وذلك لا يجوز لما يأتي بيانه معللاً في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في ترجيح الخبر بعمل الأكثر]
فأما إذا عمل أكثر الصحابة على خبرٍ وعابوا على الأول؛ فإن شيخنا رحمه الله تعالى كان يرجح ما عليه الأكثر، قال: لأن الظن لصحة ما هم عليه أقوى.
وذكر أن القاضي نصر ذلك في العمد، وعند بعضهم لا يقع به الترجيح، وحكى شيخنا أيضاً أن القاضي نصره في الشرح.
والذي يدل على صحة القول الأول: أن العمل على الظن الأقوى أولى من العمل على الظن الأضعف، ولا شك أن كثرة العاملين على الخبر تقوي الظن بصحته بدلالة أنهم لو بلغوا قدراً مخصوصاً ونقلوا الخبر عن علمهم صار خبراً معلوماً، وخبر الأول في أغلب الأحوال مظنوناً والعمل على المعلوم أولى.
__________
(1) ـ أي خبر: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب..إلخ) لما رواه له عبدالرحمن بحضرة الجماعة، فعمل به. انتهى.
مما يؤيد ذلك ما قاله عبيدة السلماني لأمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام: (قولك في الجماعة أحب إلينا من قولك وحدك)، فلم ينكر عليه علي عَلَيْه السَّلام، وإقرار علي عَلَيْه السَّلام على الفعل أو القول أو الترك عندنا من جملة الأصول؛ لأنه عَلَيْه السَّلام عندنا معصوم.
مسألة:[الكلام في خبر الأعلم بغير ما يرويه هل يرجح به أم لا؟]
ثم اختلفوا في خبر الأعلم بغير ما يرويه.
فمنهم من قال: يجب الترجيح به وهو قول عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: لا يرجح به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أن كونه أعلم بغير ما يرويه لا تعلق له بروايته، وما لا يتعلق بروايته لا يجب الترجيح به.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين المسند والمرسل]
اختلفوا في الخبرين إذا كان أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً(1)
__________
(1) ـ قال الإمام الحجة الحافظ الولي: مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله سبحانه وتعالى في لوامع الأنوار ط2 (2/403) في الترجيح بين المسند والمرسل:
والترجيح بين المسند والمرسل اللذين هما على الصفة المعتبرة مختلف فيه، والمختار عندي أنه موضع اجتهاد، وأنه يختلف باختلاف أحوال الراوي والمروي له، فإن الراوي قد يكون من أئمة الدين المحتاطين، المطلعين على أحوال الراوين، والمروي له على خلاف ذلك بحيث لو سمي له الرواة لم يعرف أحوالهم، أو يعرف معرفة غير راسخة فلا شك أن الإرسال في هذه الصورة ممن لا يرسل إلا عن عدل أرجح، وفيه كفاية المؤنة بتحمل العهدة عن البحث، ونظر هذا الإمام على كل حال أقوى، وقد يكون الحال على العكس، فلا ريب مع ذلك أن الإسناد أولى وأحرى، لتلك المرجحات الأولى، وعلى هذا الترجيح فيما بينهما من الدرجات، ومع استواء الحالين فالإسناد أصح وأوضح، إذ يجوز أن يكون المرسل لم يطلع على موجب لجرح في الرواة أو أحدهم أو نحو ذلك، وبالإطلاع على الرجال، يرتفع هذا الاحتمال، وكذا من صح عنه أنه لا يروي إلا عن عدل سواء أسند أو أرسل لتحمّله العهدة على الإطلاق، وزيادة الاستفادة من إسناده لمعرفة ثقات الرجال عنده، والوقوف على الأحوال، وبيان تعدد الطرق عند اختلاف الإسناد، وللترجيح بين الرواة مع التعارض، ولصحته بالإجماع، ونحو ذلك مما لا يخفى من مرجحات الإسناد على الإرسال، ولم يعدل أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ عنه في بعض الأحوال إلا لمقاصد راجحة، ومقتضيات واضحة، لا تخفى على ذوي الأنظار الصالحة، منها: قطع تشكيك المتمردين على السامعين، لتناول المخالفين بالطعن والجرح لثقات المرضيين، وصيانة الأعلام، من ألسن الجفاة الطغام، ومنها: محبة التخفيف مع كثرة الإشتغال بأحوال المسلمين، وجهاد المضلين، والقيام بمعالم الدين، وإحياء فرائض رب العالمين، ومنها: الإحالة بالمراسيل في مقام على ما علم لهم من الأسانيد الصحيحة في غير ذلك المقام، وغير ذلك مما لا يذهب عن أفهام المطلعين الأعلام، فهذا الذي ترجح لدي في هذا الباب، والله الموفق للصواب، انتهى.
فكان عيسى بن أبان يرجح المرسل على المسند.
وعندنا أن ذلك لا يوجب الترجيح؛ لأن إسناده للخبر جائز بل ربما أكده؛ لأن بعض أهل العلم وهو الشافعي قد روي أنه قال: المسند أقوى من المرسل، وأقل أحواله أن يكون مثله.
ولأن مراسيل الخبر يجوز أن يكون حُذِفَ إسناده لبعض الأغراض الصحيحة ومدار الأمر في هذه المسألة وما شاكلها على قوة الظن، فما قوي معه الظن كان مرجحاً، وقد قدّمنا الكلام في أن من الصحابة من يروي موقوفاً ما سمعه مسنداً كما روينا عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا ربا إلا في النسية)) ثم لما بحث عن ذلك، قال: أخبرني بذلك أسامة بن زيد، وكذلك أبو هريرة روى عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من أصبح جنباً فلا صوم له)) ثم لما نوقش في ذلك أسنده إلى الفضل بن العباس، وأمثال ذلك كثيرة.
مسألة:[الكلام في الترجيح بالذكورة والحرية]
فإن كان أحد الراويين حراً والآخر عبداً، أو أحدهما ذكراً والآخر أنثى.
فعندنا أنه لا ترجيح لخبر الحر على خبر العبد، ولا الذكر على الأنثى إذا وقع الإستواء في العدالة والضبط.
وعند بعضهم يرجح خبر الحر على خبر العبد، وذكر محمد بن الحسن في كتاب الإستحسان أنه إن أخبر حر وعبد لا يرجح خبر الحر، وإن أخبر عبدان وحران رجح خبر الحرين على العبدين؛ لأنه يوجب قطع الحكم.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن الذكورة والحرية لا يعتبران في باب الأخبار، ولا يؤثران في قوة الظن، وما هذه سبيله فإنه لا يقع الترجيح به.
فأما إذا ورد خبران أحدهما سليم المعنى واللفظ، والثاني غير سليم بل هو مختل المعنى أو اللفظ، كان العمل على السليم أولى وأقوى لبعده عن الخطأ، والعمل على الظن الأقوى هو الواجب.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين ما يثبت الحد وبين ما يدرؤه]
إذا ورد خبران أحدهما يثبت حداً والآخر يدرؤه.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قال: الذي يدرؤ الحد أولى وهو عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: المثبت أولى وهو رواية الحاكم والقاضي.
ومنهم من قال: هما سواء، وحكاه الشيخ أبو الحسين عن القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح ما ذهب إليه عيسى بن أبان.
واختيارنا رواية الحاكم عن القاضي، وهو أن المثبت أولى.
والذي يدل على صحته: ما تقرر من أن الأخبار إذا وردت كان الذي يثبت الأحكام الشرعية أولى مما ينفي على حكم العقل، فوجب إطراح الخبر الذي يدرؤ الحد؛ لأنه مبني على حكم العقل؛ لأن العقل لا يقضي بإيلام أحد، فالحكم حينئذ يكون للطاري.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لصحة ما يختاره بأنه إذا تقرر وجوب درء الحد بالشبهات عن الأعيان بعد استقرار حكم الحد في الشريعة، فبأن يكون درؤه قبل الإستقرار أولى.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الدرء في أصل اللغة إنما يكون للواقع لا محالة لولا الدرء، فأما ما يتراخى وقوعه فلا يسمى في اللغة درءاً إلا على وجه المجاز، وذلك ظاهر عند أهل اللغة وإثبات الحد في الجملة حكم شرعي وليس له وقوع على شخصٍ معين، فيقال: بأنه يجب درؤه أو لا يجب.
فأما ما ذكر من أن تعارض البينتين يوجب سقوط الحد فكذلك الخبرين، وإنما وجب فيه ذلك لوجوب درء الواقع من الحدود، ولا يمكن إدعاء سواه، وليس هذا من موضع الخلاف في شيء، متعلق بمعنى قوله عليه وآله السلام: ((ادرأوا الحدود بالشبهات(1))) وما ذكرنا بمعزل منه.
__________
(1) ـ رواه الإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع (3/1419) رقم (2419)، وأخرجه بألفاظ متقاربه في سنن البيهقي الكبرى (9/123) رقم (18073)، وسنن الترمذي (4/33) رقم (1424)، والمستدرك (4/426) رقم (8163)، ومسند أبي يعلى (11/494) رقم (6618).
وما ذكره رحمه الله تعالى من أنه إذا وجب درؤه بعد استقراره في الشريعة، فدرؤه قبل استقراره أولى، بعيد جداً؛ لأنه لا يصح درء ما لم يستقر فضلاً عن أن يكون أولى.
فأما قول من يقول باستوائهما فقول لا وجه له عنده لأن وجه الترجيح حاصل في أحدهما وهو الحكم الشرعي، وقد ثبت وجوب العمل بأخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ما أمكن، وحصول الترجيح على حال الظهور أبلغ وجوه الإمكان.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين خبري الحظر والإباحة]
إذا اقتضى أحد الخبرين حظراً والآخر إباحة، فقد حكى شيخنا اختلاف أهل العلم في أنه هل يجوز أن لا يكون لأحدهما حكم باقٍ في العقل أم لا؟
فذهب بعضهم إلى أن ذلك يجوز، ثم اختلفوا بعد ذلك؛
فمنهم من قال بأنه متى لم يمكن لأحدهما حكم باقٍ في العقل فإنهما يجعلان كأن لم يردا ويعمل في الحادثة بما يقتضيه العقل متى لم يوجد دليل شرعي يدل على حكم الحادثة سوى الخبرين، وهو مذهب أبي هاشم، وعيسى بن أبان والقاضي.
وقال أبو الحسن: الحظر أولى وهو المروي عن ش.
وذهب آخرون إلى أنه لا بد من أن يكون لأحدهما حكم باق في العقل وهو قول الشيخ أبو الحسين البصري وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العقل لا بد أن يقضي في الفعل بحكم من الأحكام من قبح أو إباحة أو ندب أو وجوب وإلا رفعنا كونه جائلاً في الذهن، وألحقنا العاقل بالنائم والمجنون، فإن قضى أحد الخبرين في الفعل بإباحة، وكان حكمه في العقل الحظر، كان المبيح أولى لأنه الناقل والحكم له كما قدمنا، وإن كان حكمه في العقل الإباحة كان الحاظر أولى؛ لأنه الناقل أيضاً، وكذلك إن كان حكمه في العقل الوجوب كدفع الضرر عن النفس، أو الندب فهما فرعان على الحسن الذي أصله الإباحة، كان الحكم للناقل أيضاً بعد مراعاته عند تقدير سقوطهما أو تكافيهما.
فأما إذا لم يقدر له بقاء في العقل، فالصحيح عندنا في ذلك ما ذهب إليه أبو الحسن من تغليب الحظر على الإباحة لكونه أحوط، ولأنه قد تقرر في الجارية بين الشريكين أنَّ وطئها يَحْرُمُ على كل واحد منهما لاستواء الحظر والإباحة فيها، فغلب الحظر قولاً واحداً، وكذلك الحكم فيمن طلّق زوجة من زوجاته والتبس عليه الحال، فلم يدر أيهن طلق فإنه يجب عليه اجتنابهن جميعاً لاجتماع الحظر والإباحة، وقد ثبت وجوب اتباع كلام الحكيم سبحانه وتعالى، وخطاب رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متى أمكن، وأنه لا يجوز إلغاؤه مع التمكن من استعماله، وقد وقع التمكن باستعمال الترجيح، وقد تقرر في الشرع ترجيح الحظر على الإباحة؛ فوجب العمل بمقتضى الحاظر دون المبيح.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين خبري إثبات العتاق ونفيه]
إذا اقتضى أحد الخبرين إثبات عتاق، واقتضى الآخر نفيه، فهو سواء عند القاضي والحاكم وجماعة من العلماء، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه.
ويحكى عن الشيخ أبي الحسين أن المثبت للعتاق أولى وهو قول جماعة من الحنفية.
واحتج شيخنا رحمه الله تعالى بأن العتق والرق الطارئين عليه حكمان شرعيان فلا يرجح أحدهما على الآخر؛ لأنهما استويا في أن كل واحدٍ منهما ناقل فلا يغلب على صاحبه.
قال: وكون شهود العتاق أولى أو كون العتاق لا يتعقبه الرق ولا يطرأ عليه؛ لا تأثير للترجيح به؛ لأنه إنما يصح في الأشخاص المعينة.
فأما الأحكام الثابتة في الجملة فلا يقدر ذلك فيها كما قدمنا في مسألة الحد، وهذه المسألة تلحق بالأولى عندنا؛ لأنا إذا رددناها إلى حكم العقل الباقي فيه مع مكافاة الخبرين، أو إطراحهما كان الحكم للإباحة، وكان الطارئ الرق، فيكون الخبر المثبت للرق أولى لأنه الناقل، وإن قدر ارتفاع الحكم المقدر بقاه في العقل كان الخبر المقتضي لإثبات العتاق أولى؛ لأنه يكون حاظراً والآخر مبيحاً، وقد ثبت أن الحظر أحوط، والعمل بمقتضاه أولى.
مسألة:[الكلام في الخبرين إذا تعارضا ولم يظهر بينهما ترجيح]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى جواز تعارض الخبرين عند مشائخنا وأن لا يظهر بينهما ترجيح، وحكى اختلافهم في حكمهما مع ذلك.
فروى عن السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام وجماعة من الفقهاء أن الواجب إطراحهما وهو الذي كان رحمه الله تعالى يعتمده ونحن نختاره.
وحكى عن أبي هاشم وأبي علي والقاضي وجوب التخيير وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً في باب المجمل والمبين.
وقال أبو الحسن وجماعة لا يجوز تعارضهما حيث لا يظهر بينهما ترجيح؛ بل لا بد من فضول وجه يرجح به.
والذي يدل على صحة ما ذهب إليه شيوخنا من جواز وقوعهما بحيث لا يظهر ترجيح: أن كل أمر منهما يجوز أن يرجح به أحد الخبرين على الآخر من الثقة والعدالة والضبط والورع وسلامة متن الخبر، وتخلص معناه، واستواء عدد رواته، وموافقته للظواهر، وعضد القياس له لا يمتنع تساوي الخبرين في ذلك، وإن كان نادراً، وكذلك فلا دلالة في العقل ولا في الشرع يمنع منه فإذا استويا لم يرجح أحدهما والحال هذه على الآخر؛ لأن الترجيح والحال هذه يكون ترجيحاً لغير دلالة، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام فيما سمعه الصبي ورواه حال كبره، وفيما رواه حال صباه]
وإذا سمع الصبي الخبر في حال صغره، وسمعه معه غيره وهو في حال الكبر، ثم أدياه إلينا في حال الكبر، وجب قبوله عندنا ولا ترجيح لأحد الخبرين على الآخر، وذلك مما لا نعلم فيه خلافاً، وإنما يتعين الخلاف في قبول روايته في حال الصغر، فإن منهم من جوز، وهو عندنا غير جائز لما لا نأمن من تساهل الصغير في روايته، وقلة صوارفه على الإقدام على القبيح لعدم عقله، وإذا كان الأمر هكذا لم يحصل لنا الظن بصدقه، فلا يجب علينا قبول روايته؛ بل لا يجوز.
وأحسب أن الذي حمل أهل هذه المقالة عليها ما بلغهم من قبول الصحابة لما روى لهم الحسنان صلوات الله عليهما عن أبيهما رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكذلك ما روى عنه ابن عمر، وابن الزبير(1)، فتوهموا أن الأخبار قبلت منهم في حال صغرهم.
وعندنا أنه لا طريق إلى تصحيح هذه الدعوى، وإنما سمعوا في حال الصغر وأدوا في حال الكبر، ولا اعتبار بوقت العمل، وإنما الإعتبار بوقت الأداء كما ثبت مثله في الشهادة.
__________
(1) ـ عبدالله بن الزبير بن العوام، أبو خبيب الأسدي، أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة شهد مع خالته عائشة يوم الجمل، أشد الناس عداوة لآل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قطع الصلاة على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أربعين جمعة أيام أمارته، بويع له سنة أربع وستين بعد معاوية بن يزيد، وتخلف عن بيعته ابن عباس وابن الحنفية؛ ثم حصره الحجاج بمكة وقتل في جمادى سنة ثلاث وسبعين وهي عمره. انظر لوامع الأنوار (3/134، 138)، والجداول (خ).