أما أنهم أجمعوا فذلك ظاهر لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كان يبعث سعاته في الآفاق وهم آحاد ليعرفوا الناس مقادير الحقوق من الزكوات والأعشار وكفارات الأيمان وغير ذلك من الشريعة الزاكية شرفها الله تعالى، وكذلك قبول عمر لخبر الواحد في دية الأصابع ودية الجنين، وإن كان ذلك من باب المقادير ولم ينكره أحد فكان إجماعاً.
فصل: في ذكر أنواع السماع وكيفيته
قال شيخنا رحمه الله تعالى: إذا قال الراوي: حدثني فلان أو قال: سمعت فلاناً، فقد حدث بذلك من سمعه يقول هذا القول، فلمن سمعه يقول: حدثني وأخبرني وسمعت منه أن يحدث، وإذا قُرِئَتِ الأحاديث على الإنسان فقال عند الفراغ من القراءة: الأمر كما قريء أو قال: قد سمعت ما قريء علي، فإنه يكون بهذا القول محدثاً على الجملة، فلمن سمع القراءة عليه أن يقول: حدثني وأخبرني وسمعت من فلان.
ألا ترى أنه لا فرق في جواز الشهادة على البيع بين أن ينطق البائع عند الشاهد بلفظ البيع، وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع، فيقول: الأمر كما قريء علي.
فأما إذا قريء عليه فلم ينكر، ولم يقل الأمر كما قريء علي، أو قد سمعت ما قريء علي، فللسامع أن يعمل على تلك الأحاديث لأن تركه للنكير يدل على سماع تلك الأحاديث، وليس لمن سمع القراءة أن يقول: أخبرني أو حدثني أو سمعت منه، لأن الشيخ لم يلفظ بشيء سمعه ولا فعل التحديث والإخبار.
وإن قيل: إمساكه عن النكير يجري مجرى إباحته أن يحدث عنه.
قيل: لو أباح لهم أن يحدثوا عنه لم يجز لهم التحديث عنه؛ لأن الكذب لا يصير مباحاً بإباحته، وله أن يقول: قرأه علي فلان أو قريء عليه وأنا أسمع.
وأما المناولة: فهي أن يشير الإنسان إلى كتاب يعرف ما فيه من الأحاديث فيقول لغيره: قد سمعت ما في هذا الكتاب فيكون بذلك محدثاً بأنه سمعه، ويجوز لذلك الغير أن يرويه عنه، فيقول: حدثني فلان أو أخبرني فلان، وسواء قال أروه عني أو لم يقل ذلك.
فأما إذا قال له: حدث عني بما في هذا الجزء ولم يقل سمعته فإنه لا يكون محدثاً له به، وإنما أجاز له التحدث به عنه، فليس له أن يحدث به عنه، فلا يكون بالتحدث كاذباً، وليس يصير ذلك مباحاً بإباحته له، وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور لم يجز له أن يشير إلى غير تلك النسخة من ذلك الكتاب، فيقول: قد سمعته؛ لأن النسخ من الكتاب الواحد قد تختلف، إلا أن يعلم أن النسختين تتفقان.
وأما الكتابة: فهي أن يكتب الشيخ إلى غيره أنه سمع الكتاب الفلاني أو النسخة الفلانية، فإن اضطر المكتوب إليه أنه خطه جاز أن يروي عنه، وإن لم يضطر إلى ذلك لكنه ظنه، جاز له أن يروي بحسب ظنه.
فأما الإجازة: فهي أن يقول الإنسان لغيره: قد أجزت لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي، وأصحاب الحديث يجوزون له أن يقول: حدثني فلان، قالوا: لأن قوله قد أجزتُ لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي قد سمعته فاروه عني.
واعلم أن ظاهر الإجازة هي إباحة الشيخ التحدث عنه والإخبار عنه من غير أن يخبره ولا يحدثه، وهذا إباحة الكذب، وليس له ذلك ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح له، فإن ثبت أن قوله: قد أجزت لك أن تروي عني إقرار من جهة العادة أنه سمع ما صح عنه، فحكمه حكم المناولة.
واعلم أنا نقلنا هذا الفصل من كتاب شيخنا رحمه الله تعالى كما وجدناه مرسوماً في كتابه المسمى (الفائق) من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن السماع على تنوعه أصلُه العادة والعرف؛ لأنهما يكشفان عن الأغراض، وإن كان الأمر في أصل اللغة خلاف ما نطقا، فكما جاز لنا ننطق ونروي عن الفارسي بالعربية إذا قصد بلفظه الفارسي، كذلك نروي عن الشيخ بأي معنى ودى إلينا العلم بأنه سمع الخبر وأباح لنا روايته عنه كما نجده، سواء كان ذلك من باب قراءته لنا، أو قرائتنا عليه، أو مناولته لنا، أو إشارته، أو إجازته، أو خطه، وهذا يأتي على ما تقدم من التفاصيل، فاسْبُرها تُصِب إن شاء الله تعالى.
مسألة:[في بيان من هو الصحابي]
الصحابي: من اختص بملازمة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم والأخذ عنه، وهو الذي نختاره لا من لقيه مرة أو مرتين كما ذهب إليه كثير من أصحاب الحديث.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الصحابي مأخوذ من الصحبة، والصحبة هي العشرة والمحبة في اللغة والعرف، بدلالة أنه لا يسبق إلى فهم السامع إذا قيل فلان صاحب لفلان إلا ما ذكرنا، فثبت أن ذلك معناه في اللغة والعرف، ولأنه لو عاشره ولكنه لا يحبه، ولا يقبل منه، ولا يلتفت عليه، لم يوصف بأنه صاحب له، فإذاً اسم الصحبة بجميع الأمرين.
مسألة:[الطريق إلى إثبات الصحابي صحابياً]
اعلم أن الصحابي هو من قدمنا ذكره في المسألة الأولى والطريق إلى إثباته صحابياً وجهان:
أحدهما: يوجب العلم لا محالة، وهي الأخبار المتواترة.
والثاني: يوجب غالب الظن في أغلب الأحوال.
أما ما يوجب العلم: فهي الأخبار المتواترة أن فلاناً من أصحاب النبي الذين صفتهم ما قدمنا، كابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما.
وأما ما يوجب غالب الظن في أغلب الأحوال: فهي الأخبار التي ثبتت من طريق الآحاد على الشرائط التي قدمنا ذكرها بأن فلاناً من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فأما من أخبر عن نفسه بأنه صحابي فقد اختلف أهل العلم، فقال جماعة من أصحاب الحديث: لا يقبل، وعندنا أنه يقبل سواء رواه هو أو غيره.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أكثر ما يقال في المنع هذا إن خبره بأنه صحابي يورث التهمة، من حيث أنه يجلب لنفسه بذلك عظيم المنزلة ورفيع الرتبة، ومعلوم أن الصحابة كان كل واحد منهم يذكر ما اختص به من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الأقوال والأفعال التي توجب له المنزلة على غيره من غير مناكرة بينهم في ذلك، ولا رد له، وهذا معلوم لمن تتبع أخبارهم، واقتص آثارهم، فلو كان ما ذكروه يوجب الرد لكانوا بقولهم لما قدمنا من الأخبار قد أجمعوا على ما لا يجوز لهم وذلك لا يصح؛ لأن إجماعهم حجة، فلا يجمعون إلا على الحق على ما يأتي بيانه في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
ولأن الدلالة قد قامت على قبول ما يرويه، وهذا الخبر من جملة ما يرويه، فوجب قبوله.
أما أن الدلالة قد قامت على قبول ما يرويه، فقد تقدم الكلام في ذلك بما لا طائل في إعادته.
وأما أن خبره بأنه صحابي من جملة ما يرويه، فذلك ظاهر لا يحتاج إلى برهان، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي والقاضي والشيخ أبي عبدالله أن ذلك يحمل أن الآمر هو النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم دون غيره، وكان رحمه الله يعتمد هذا القول ونحن نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي الحسن وجماعة من الحنفية المنع من ذلك، قالوا: ويجوز أن يكون الآمر والناهي غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأنه لا دليل في الظاهر يدل على أنه هو الآمر.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن العرف جائز(1)
__________
(1) - هكذا في النسخة ولعلها [جار]، والله أعلم.
بين أهل الأعصار بأن الإنسان إذا قال: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أن الآمر والناهي هو الكبير المفزوع إليه دون غيره ممن لا تأثير لأمره؛ لأن أمر غيره ونهيه لا تأثير له فلا وجه لحكايته؛ فإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الآمر الناهي هو النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
ولأن الصحابي كان يقول ذلك على وجه الإحتجاج والبيان وقول غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ليس بحجة.
ولأنه يفيد آمراً ومأموراً فلا يجوز أن يكون الآمر هو الأمة(1)؛ لأنها لا تكون آمرة لأنفسها فثبت بذلك ما قلناه.
__________
(1) - في النسخة: (فلا يجوز أن يكون الآمر هو أمر الأمة) والموافق للكلام ما أثبتناه والله أعلم.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي أوجب أو حُظر علينا كذا، ما حكمه؟]
فأما قول الصحابي: أوجب علينا كذا، أو حظر علينا كذا، فهذا لا يفيد إلا إيجاب النبي صلى الله عليه وآله وحظره وإباحته؛ لأن هذه الأحكام لا تستفاد من بشر سواه، هذا إذا كان ما قال مما لا يختلف في وجوبه ولا حظره ولا إباحته، فإن كان مختلفاً فيه لم يحمل على ذلك لتجويز أن يكون قال ذلك لاجتهاد نفسه أو اجتهاد غيره إن لم يكن من أهل الإجتهاد.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: أمر النبي(ص) بكذا، ما حكمه؟]
فأما إذا قال الصحابي أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بكذا وكذا فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فمنهم من قال يحمل على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وهو قول القاضي.
ومنهم من حمله على السماع منه أو ممن سمع منه.
ومنهم من حمله على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو ثبت عنده بدليل.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحمل ذلك على أنه سمعه من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو ثبت عنده بفعل متواتر.
وعندنا أنه يجوز أن يقول ذلك لسماعه له عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو لرواية من يثق به على الشرائط التي توجب قبول الرواية أنه سمعه؛ لأن تحسين الظن به يوجب ذلك ولا معنى عندنا لحصره على السماع أو العلم من طريق التواتر؛ لأنه لا فرق بين قوله قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كذا، وبين قوله قيل للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كذا وكذا في أن كل واحد منهما ظاهره القطع فكما يجوز أن يقول قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لما بلغه من طريق الآحاد كذلك يجوز له أن يقول قيل له كذا وكذا من طريق رواية الآحاد، ولا فرق بين قوله قيل له كذا، وبين قوله أمر بكذا.
وأكثر ما يقال في هذا أن ظاهر قوله أمر بكذا قطع على أنه أمر، وتحسين الظن به يوجب أن يعتقد فيه أنه لا يقطع لغير دلالة وهذا لازم في قوله قال كذا؛ لأن ظاهره قطع فما لزم في أحدهما لزم الآخر، ومعلوم أنه لا يلزم في قوله قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حصول ذلك عن العلم فكذلك في قوله أمر.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: عن رسول الله (ص) ما حكمه؟]
اختلفوا في قول الصحابي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فروى شيخنا رحمه الله تعالى عن القاضي أنه يحمل على السماع.
قال: وقال السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام: يحمل على الإرسال.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده.
وعندنا يجوز حمله على جواز وقوعه عن السماع والإرسال.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه لا دلالة في ظاهر اللفظ تخصه بأحد الوجهين دون الآخر، وذلك ظاهر فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر؛ لأنه يكون حملاً لغير دلالة وذلك لا يجوز، والإرسال جائز وقد تقدم الدليل عليه، ولا فرق في باب التأدية إلينا والهداية لنا بين أن يقول سمعت النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وبين قوله أخبرني عنه من أثق به، في أنه يجب قبول روايته في الوجهين جميعاً.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: إن من السنة كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي إن من السنة كذا حمل على سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عندنا.
وذهب أبو الحسن إلى أنه لا يجوز حمله على ذلك حتى يتبين؛ لأنهم يطلقون ذلك في سنة الخلفاء.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن لفظ السنة إذا أطلق أفاد سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فلا يجوز حمله على سواه.
أما أنه إذا أطلق أفاد سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، فذلك ظاهر نعلمه من نفوسنا أنه لا يسبق إلى الأفهام سوى سنته.
وأما أنه لا يجوز حمل اللفظ على سواها عند الإطلاق؛ فلأنه يكون حملاً لغير دلالة، وإثبات الأمر بغير دلالة لا يجوز؛ لأنه يفتح باب الجهالات، ويؤدي إلى اعتقاد المناقضات، ولأن الصحابي يورد ذلك مثبتاً للحكم، ومعرفاً للشرع، وذلك لا يكون إلا بما يأتي من النبي صلى الله عليه وآله [وسلم]، ولأنه لو جاز إطلاق السنة لغير النبي صلى الله عليه وآله [وسلم] لأدى إلى أن تكون السنن كثيرة فلا يفهم عند الإطلاق واحدة بعينها إلا بقرينة ومعلوم خلافه كما قدمنا.
ولأن الصحابي يورد ذلك على وجه الاحتجاج وقول من عدا النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ليس بحجة على انفراده.
ومثال المسألة: ما روي عن ابن عباس رحمه الله من قوله: ((إن من السنة أن لا يُصلّى بتيمم واحد إلا فريضة واحدة)).
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: كنا نفعل كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا، فقد قال شيخنا رحمه الله تعالى إن ذلك يحمل على فعلهم في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
قال رحمه الله تعالى لأن الصحابي لا يقول كذلك إلا وهو يريد إفادتنا حكماً، وتعليمنا شرعاً، وهذا هو المعلوم من ظاهر هذا اللفظ فلا يجوز حمله على خلافه.
واختيارنا في هذه المسألة: حمله على فعلهم في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وفعلهم على وجه الإتفاق بعده؛ لأن كل واحد من الأمرين حجة على من يخاطبه الصحابي بذلك يستفيد منها الشرع ويعرف الحكم، فلا وجه فيما نرى يحظره على أحد الوجهين دون الآخر.
ومثال المسألة: ما روي عن عائشة أنها قالت: ((كانوا لا يقطعون اليد على الشيء التافه)) فإن هذا كما يحتمل زمان النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يحتمل فعل الجماعة بعده؛ بل ربما يكون إفادته لعملهم بعده أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ لأنهم لا يشركون مع النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في العمل سواه إذا أرادوا الحكاية، فلا يقولون كانوا يوجبون صلاة المسافر ركعتين وصلاة المقيم أربعاً، فهم يريدون بذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الصحابي إذا ذكر حكماً لا يعلم إلا توقيفاً، ما حكمه؟]
اختلفَ أهلُ العلم في الصحابي إذا ذكر حكماً لا يعلم إلا بالتوقيف، كالمقدورات والحدود والأبدال.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه يحمل على التوقيف.
وحكى عن أبي الحسين أنه إن كان من أهل الإجتهاد لا يحمل على التوقيف.
وحكى عن قاضي القضاة والإمام أبي طالب عَلَيْه السَّلام أنه إن كان لما قاله وجه من وجوه الإجتهاد صحيح أو فاسد لم يحمل على التوقيف، وإلا حمل عليه، وهذا قول الشيخ أبي الحسين البصري.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد هذا القول، وهو الذي نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي الحسن أنه إن كان من أهل الإجتهاد كعطاء(1)
__________
(1) ـ عطاء بن السائب الثقفي الكوفي، عداده في الشيعة الخلص، وثقه أحمد والنسائي والعجلي وحماد بن زيد، قالوا: فمن سمع منه قبل الاختلاط فهو صحيح. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. انظر الجداول (خ)، ولوامع الأنوار (1/445).
في قوله: (إن أقلّ الحيض يوم وليلة) لم يحمل قوله على التوقف، وإن لم يكن من أهل الإجتهاد كأنس(1)، وقوله في الحيض (ثلاث أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشر) فجعل أقله ثلاثاً وأكثره عشراً ولم يكن من أهل الإجتهاد يوجب عنده أن يكون قوله ذلك توقيفاً.
وتحصيل الكلام في هذه المسألة: أن الصحابي إذا أطلق الحكم الذي ذكرنا وكان للإجتهاد فيه مدخل جوزنا أن يكون الصحابي من أهل الإجتهاد يوجب أن يكون قال ذلك عن اجتهاد، وإن لم يكن من أهل الإجتهاد جوزنا أن يكون استفتى في ذلك غيره فأفتاه بما ذكر فلا يجوز لنا مع ذلك القطع على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإن لم يكن للإجتهاد فيه مدخل وجب علينا من طريق تحسين الظن بالصحابة أنه لم يقل ذلك تشهياً ولا تبخيتاً إن كان من أهل الإجتهاد، ولا يجوز إن كان ممن لا يفهم الإجتهاد قال ذلك من تلقاء نفسه لوجوب تحسين الظن، ولا أخذه عن غيره من الصحابة من هذه الطريق لوجوب تحسين الظن بالمفتي أيضاً، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في تعارض الأخبار]
إذا تعارض الخبران لم تخل الحال من ثلاثة أوجه:
إما أن يكونا معلومين معاً.
أو مظنونين معاً.
أو أحدهما معلوم والآخر مظنون.
فإن كانا معلومين، فلا يخلو: إما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم، فإن علم التاريخ بينهما عمل بالمتأخر منهما إن تنافيا على الحد الذي يوجب وقوع النسخ، وقضي بأن الآخر ناسخ للأول.
__________
(1) ـ أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- منذ قدم المدينة إلى أن توفي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مات وقد جاوز المائة وهو من أصحاب الألوف. أخرج له جميع أئمتنا وشيعتهم وأصحاب الست المسانيد والسنن كلها. عنه: ثابت البناني، وحميد الطويل، وعلي بن زيد بن جدعان، وعمر بن الوليد، والربيع بن أنس، والحسن، وخلق كثير. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/66).