وحكى عن أبي يوسف ومحمد(1) و ش: جواز روايته ووجوب قبول خبره والعمل به، وهذا غير بعيد على أصلنا بل هو الذي نختاره؛ لأن أكثر الأخبار والشرائع مبناها غالب الظن.
والدليل على صحته: أن الصحابة اتفقوا على العمل على ما هذا حاله وأجمعوا عليه وإجماعهم حجة، ولهذا فإنهم رجعوا إلى كتاب عمرو بن حزم(2) الذي كتبه إليه النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وأخذوا كثيراً من أصول الشرائع منه، وعولوا على مجرد الخط لما غلب على ظنهم صحته وأنه بإملاء النبي صلى الله عليه وآله.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن صح أنهم رجعوا إليه بمجرد الخط جازت الرواية بغالب الظن، ووجب العمل عليه، وإلا لم يجز.
__________
(1) ـ محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، الفقيه الحنفي، أبو عبدالله، ولد سنة (135هـ) كان من بحور العلم، تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، روى عن مالك وعن الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله، وصنف كتباً كثيرة ومنه انتشر فقه أبي حنيفة، وكان من القائلين بالعدل والتوحيد من الفقهاء، وهو الذي وقف في وجه هارون الرشيد لما أراد نقض أمان يحيى بن عبدالله، وقال: هذا أمان صحيح لا يجوز نقضه، توفى بالري سنة (187هـ).
(2) ـ عمرو بن حزم -بفتح المهملة وسكون الزاي- بن زيد الأنصاري الخزرجي أبو الضحاك، شهد الخندق وولي نجران، وبعث معه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بكتاب فيه الفرائض والسنن والصدقات والجروح والديات وكتابه مشهور. روى منه المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام- وخرجه جميعه أبو الغنائم النرسي في الأربعين، ورواه أبو داود والنسائي متفرقاً. وعنه: ابنه محمد. توفي سنة إحدى وخمسين. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/165، 166).
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في أصول الدين ولم يحصل معه العلم]
خبر الواحد إذا ورد في أصول الدين ولم يحصل معه العلم لم يجب علينا العمل به، ووجب رده خلافاً للإمامية وأصحاب الحديث.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الواجب في أصول الدين هو المصير إلى العلم، وخبر الواحد قد لا يحصل معه العلم.
أما أن الواجب علينا في أصول الدين هو المصير إلى العلم: فلأن التكليف علينا في أصول الدين مداره على الإعتقادات، والإقدام على الإعتقاد الذي لا يؤمن كونه جهلاً قبيح ينزل في القبيح منزلة الإقدام على ما يعلم كونه جهلاً قبيحاً، وذلك لا يجوز.
والعلم: هو الإعتقاد الذي تسكن له نفس المعتقد إلى أن معتقده أو ما يجري مجرى المعتقد على ما اعتقده، ولا يجوز كونه بخلافه، وهذا لا يحصل بخبر الواحد متسقاً، فثبت أنه لا يجوز على هذا الوجه العمل على خبر الواحد.
مسألة:[الكلام في أخبار الآحاد الواردة فيما تعم به البلوى علماً]
حكى شيخنا رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله تعالى: أن كل خبر جاء مجيئاً خاصاً في أمر تعم به البلوى علماً يجب رده كما رددنا خبر الإمامية في الإثني عشر، والبكرية(1) في النص على أبي بكر.
قال رحمه الله تعالى: واعلم أنما هذا حاله لا يخلو إما أن يكون عليه من الأدلة القاطعة العقلية ما يكشف عنه ويرد موافقاً لها، أو لا يكون.
فإن كان عليه من الأدلة القاطعة العقلية ما يكشف عنه قبل فيه خبر الواحد كالأخبار التي نرويها بنفي الرؤية عن الله سبحانه؛ لأنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بورودها من جهة الآحاد، إذ قد نصت عليها من الأدلة العقلية ما يقضي بصحتها، فكانت أخبار الآحاد كالمؤكدة لها.
__________
(1) - البكرية: أحد فرق المجبرة، أصحاب بكر بن عبدالواحد، اختصوا بالقول بأن الطفل لا يتألّم، وأن إمامة أبي بكر منصوصة نصاً جلياً، أنظر: الملل والنحل.
وإن لم يكن عليها من الأدلة ما يقضي بصحتها رددناها بدلالة أنه سبحانه لا يتعبدنا بالعلم بشيء، ولا يجعل لنا إليه طريقاً؛ لأن ذلك يلحق بتكليف ما لا يمكن، وهو قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين، فثبت أن خبر الواحد لا يجب قبوله فيما قدمنا.
مسألة:[الكلام في قبول أخبار الآحاد الواردة فيما تعم به البلوى عملاً]
فأما إن كان الخبر مما تعم به البلوى عملاً فورد خاصاً، فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف أهل العلم في ذلك.
فروى عن عيسى بن أبان، وأبي الحسن، وجماعة أصحاب أبي حنيفة، والشيخ أبي عبدالله البصري، أن ذلك لا يجوز.
وحكى عن الشافعي وجماعة أصحاب الحديث أنه يقبل، قال رحمه الله تعالى: وهو مذهب أبي علي والقاضي، وأبي الحسين البصري، وكان رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
والدليل على صحته أن الصحابة أجمعت على قبول أخبار الآحاد فيما هذا حاله، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أن الصحابة أجمعت، فذلك ظاهر من حالهم؛ لأنهم قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف في قصة المجوس، وتوريث المرأة من دية زوجها، ووجوب الغسل من الإيلاج، وكل هذه الأخبار مما تعم بها البلوى عملاً.
وأما أن إجماعهم حجة فسيأتي بيانه.
ومما يجري هذا المجرى الأخبار الواردة في وجوب الوضوء من مس الذكر، والوضوء من الرعاف، والغسل من غسل الميت، وإيجاب الوضوء على من مسه، وإيجاب الوتر، والمشي خلف الجنازة، وكثير من الأحكام التي تعم بلواها، ووردت من طريق الآحاد.
وإنما رددنا بعض هذه الأخبار لأخبار ترجحت عليها، أو لأدلة عارضتها، لا أنها أخبار آحاد فيما تعم به البلوى عملاً لأنا قد دللنا على وجوب قبولها فيما تقدم.
مسألة:[الكلام في أن الخبر إذا ظهر في الأصل ظهوراً عاماً ثم ورد خاصاً لا يُقبل]
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فأما إذا ورد الخبر بشيء ظهر في الأصل ظهوراً عاماً والعادة جارية فيما ظهر ذلك الظهور أن ينقل نقلاً عاماً، ثم ورد ذلك خاصاً فإنه لا يقبل، وهذا الذي نختاره.
وقد خالف في ذلك أبو علي وقال إنه يقبل.
ومثال المسألة: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن كل أمرين استويا في الظهور، وكان الداعي إلى نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الآخر، فإنه يجب أن يستوي نقلهما؛ لأن ما دعا إلى نقل أحدهما هو بعينه داعٍ إلى نقل الآخر، لولا ذلك لجوزنا أن يكون إمرؤ القيس قد عُورض بقصائد تبرز على شعره في الفصاحة والجزالة ولم ينقل إلينا، ولجوزنا أن يكون موسى صلى الله عليه قد عورضت معجزاته بما هو أبهر منها، وإنما لم تنقل إلينا.
وكذلك القرآن الحكيم نجوز معارضته على هذا القول بما هو مساوٍ له في النظم والفصاحة، وإن لم ينقل على حد نقله، وكل ذلك لا يجوز لأن ما دعا إلى نقل أحدهما هو بعينه يدعو إلى نقل الآخر، فإذا استويا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر، ولا وجه يوجب نقل أحدهما دون الآخر مع الإستواء، فيجب أن نقضي بفساده.
فأما ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن ذلك يجب من طريق العادات والعادة لا يقاس عليها، ولا تكون طريقاً إلى العلم بشيء أصلاً، فإذا لم ينقل إلينا أحد الأمرين مع استوائهما في باب الدواعي إلى نقلهما علمنا بذلك أنهما لم يستويا في الظهور في الأصل.
فأما الجهر بالبسملة فقد علل شيخنا رحمه الله تعالى تعذر استوائهما في ظهور النقل بعلة ظاهرة، وهي أنهما لم يستويا في الأصل؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كان يجهر بالبسملة في حال اشتغال المسلمين بالتكبير فيسمعه بعضهم يجهر، وبعضهم لا يسمعه من رهج التكبير، وليس كذلك الفاتحة لأنه يفرغ من البسملة عند فراغهم من التكبير فيسمعه الكل أو الأكثر، فلهذا استفاض نقل الجهر بالفاتحة، ولم يستفض نقل الجهر بالبسملة.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف القياس هل يُقبل ويُترك القياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الخبر إذا ورد بخلاف القياس هل يقبل ويترك القياس أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي أن الأخذ بالخبر أولى، وهو قول أبي الحسن.
وقال عيسى بن أبان: إن كان راوي الحديث ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه، وجب قبول خبره وترك القياس، وإن كان الراوي بخلاف ذلك كان موضع اجتهاد.
وذكر أن في الصحابة من رد حديث أبي هريرة بالإجتهاد.
وحكى عن مالك أنه رجّح القياس على الخبر.
ومنهم من قال طريقه الإجتهاد.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري تفصيلاً في ذلك محصوله يرجع إلى أن الخلاف بين العلماء إنما وقع في القياس الذي يكون الحكم في أصله ثابتاً بدليل مقطوع به، وتكون علته مستنبطة أو ثابتة بنص غير مقطوع به، وورد خبر الواحد بخلافه دون ما ليس كذلك، وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقاً.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الخبر أولى من القياس، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن الخبر قائم في الدلالة بنفسه، والقياس لا بد من رجوعه إلى غيره من أصله وعلته، فكان اتباع ما هو دلالة بنفسه أولى مما تعتبر صحته بصحة غيره، ولأن الصحابة أجمعوا على إطراح القياس عند وجود الخبر، وإجماعهم حجة؛ فثبت أن الخبر أولى من القياس.
أما أن الصحابة أجمعوا على إطراح القياس عند وجود الخبر؛ فذلك ظاهر من صنعهم كما قدمنا في الرواية عن أبي بكر أنه ترك اجتهاده في توريث الجدة بالخبر، وكذلك عمر في دية الأصابع والجنين لما بلغه من الأخبار التي قدّمنا، وكان ذلك من غير مناكرة بينهم فكان إجماعاً.
ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لما قال لمعاذ: ((بم تحكم؟)) قال: (بكتاب الله)، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: (فبسنة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم)، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: (أجتهد رأيي)، فقدم السنة على الإجتهاد، والسنة قد تكون ما يسمعه وما ينقله إليه غيره، وذلك ظاهر من صنعهم كما قدمنا فصوبه النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، فثبت أن الخبر أولى من القياس.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف الأصول]
إذا ورد الخبر بخلاف الأصول التي هي الكتاب والسنة المقررة فإن شيخنا رحمه الله تعالى منع من قبوله.
واحتج لذلك بأن الصحابة أجمعت على رد ما هذا حاله وإجماعهم حجة كما قدمنا، فعل عمر في حديث فاطمة بنت قيس.
وعندنا أنه إذا ورد على الشرائط التي يجب معها قبوله فإنه يقبل سواء ورد بخلاف الأصول أو وافقها.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الدليل الذي دل على وجوب العمل بخبر الواحد لم يفصل بين خبر وخبر، ولا بين وروده مخالفاً للأصول ولا موافقاً، فلا تصح دعوى الإجماع على رده إذا خالف الأصول، بل إنا ندعي الإجماع على اتباع الخبر الذي ورد بخلاف الأصول من الصحابة، وذلك لأن عمر قبل خبر عبد الرحمن بن عوف فلم ينكره أحد مع أنه ورد بخلاف الأصول؛ لأن الكتاب والسنة المقررة قضيا بوجوب قتل المشركين وحملهم على الإسلام طوعاً وكرهاً، والمنع من قبول الفدية منهم في ذلك إلا الكتابيين، ثم لما روى عبد الرحمن الخبر في قضيتهم ترك الأصول واتبع الخبر، بمشهد الجماعة، ولم ينكره أحد بل صار أصلاً لاحقاً بالأصول.
وأما رده لخبر فاطمة بنت قيس(1) فإنما رده لتهمة عرضت في شأنها، ولهذا علله فقال: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لخبر امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت) فظاهر هذا القول يدل على أنه لم يرد خبرها بمجرد معارضته للكتاب والسنة؛ لأنه قد عمل بما عارضهما كما قدمنا لما غلب في ظنه صحته، فلما لم يترجح عنده صدقها على كذبها لم يجز له ترك المعلوم والعمل على الشك.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف قياس الأصول]
فإن ورد الخبر بخلاف قياس الأصول كان الحكم فيه ما قدمنا، ثم يقع الخلاف حينئذ في تعيين الأخبار وتنويع المسائل.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي الحسن، وأبي عبدالله، أن خبر القرعة(2)
__________
(1) ـ فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك، من المهاجرات الأولات، وهي التي جاءت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مستشيرة فقال: ((أنكحي أسامة)) فنكحته فاغتبطت، وكانت ذات عقل وافر وهي التي تذكر في السكنى والنفقة للمطلقة البائن. توفيت بعد الخمسين. انظر لوامع الأنوار (3/232)، والجداول (خ).
(2) ـ خبر القرعة: هو أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قرع بين ستة عبيد لرجل أعتقهم في مرضه، ولا مال له سواهم، فأرق أربعة وأعتق اثنين، بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء.
وخبر المصراة: وهو قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو مخير أحد النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر))؛ فعند الشيخين أبي عبدالله البصري وأبي الحسن الكرخي أنهما مخالفان للأصول فلا يقبلان بل يردان، ومخالفتهما للأصول كما يلي:
أما خبر القرعة: فإنه يقضي بنقل الحرية، والإجماع منعقد على أنه لا يطرأ عليها الرق، أما كونه يقضي بنقل الحرية: فإن كل واحد من العبيد يعتق ثلثه، والقرعة تقضي بنقل الثلث من الستة العبيد إلى الإثنين اللذين خرجت القرعة بحريتهما.
وأما كونه لا يطرأ عليها الرق: فإن القياس هو عتقهم جميعاً لأن الحرية تسري في جميع العبد إذا أعتق بعضه، ويسعى بقيمة ما تبقى، فكان القياس أن يسعى كل واحد بثلثي قيمته.
وأما خبر المصراة: فإنه مخالف للإجماع؛ لأن الإجماع منعقد على أن التالف يضمن بمثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً، وخبر المصراة ضمن فيه المثلي وهو اللبن بقيمي وهو التمر.
أما عند الشافعي فإن الخبرين المتقدمين مخالفان لقياس الأصول فقط فيقبلان، ومخالفتهما للقياس كما يلي:
أما خبر القرعة: فإن الإجماع إنما وقع على من عرفت حريته بعينه وإسلامه أنه لا يطرأ عليه رق، وخبر القرعة إنما أوجب الرق عليهم حيث التبس التعيين.
وأما خبر المصراة: فإن الإجماع إنما انعقد على ضمان المثلي بمثله حيث حصل اليقين بتماثلهما جنساً وصفة، ولبن المصراة يجوز أن يخالف لبن غير المصراة في صفة أو خاصية، وخبر المصراة إنما منع من قياس ما ظن فيه التماثل على ما يتيقن فيه.
ورد بخلاف الأصول، وخبر المصراة، وأن خبر نبيذ التمر(1) والقهقهة ورد بخلاف قياس الأصول.
وعند الشافعي جميع ذلك بخلاف قياس الأصول، وهي مقبولة.
وفرق أبو عبدالله بين هذه الأخبار بأن قال: كلما ورد ونفس ما تضمنه الخبر في الأصول بخلافه فهو بخلاف الأصول كخبر القرعة فإنه نقل للحرية.
__________
(1) ـ أما خبر نبيذ التمر فهو: ما ورد في حديث ابن مسعود عند البيهقي وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبدالله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن: ((ما في إداوتك؟))، قلت نبيذ تمر، قال رسول الله-صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((تمرة طيبة، وماء طهور))، وفي رواية الترمذي: ((فتوضأ منه))، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: ((هل معك من وضوء))، قلت: لا، قال:((فما في إداوتك))، قلت: نبيذ تمر، قال:((تمرة حلوة وماء طيب))، ثم توضّأ وأقام الصلاة، انتهى من الوض النضير، (1/172)، وأما خبر القهقة فقال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الاعتصام: وفيه - أي في الجامع الكافي - أيضاً، وروى محمد بإسناده عن زكريا بن سلّام عن عبيد بن حسان وحمزة بن سنان رفعاه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((يُعاد الوضوء من سبع: من دم سائل، أو قيء ذارع، أو من دسعة تملأ الفم، أو من نوم مضطجع، أو قهقهة في الصلاة، أو من تقطار بول، أو من حدث))، انتهى، فهذان الخبران وما شابههما مخالفان لقياس الأصول بالإجماع، ووجه المخالفة:
أن خبر نبيذ التمر مخالف للقياس على سائر الأنبذة؛ فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجزي التوضئ بها، وخبر نبيذ التمر من أنواعها، فالخبر الوارد مخالف للقياس عليها.
وخبر القهقهة مخالف للقياس على الكلام في الصلاة؛ لأن الكلام في الصلاة لا يوجب نقض الوضوء، والقهقهة من جنس الكلام؛ فالخبر الوارد مخالف للقياس عليها أيضاً.
وأجمعوا أنه لا يجوز خلاف قياس فهو ما ورد به النص ولم يوجد خلافه بعينه في الأصول، ولكن نظائره توجد كنبيذ التمر ليس في الأصول، ومخالفهم يقيسه بنبيذ الزبيب، وكذلك القهقهة يقيسها المخالف على سائر الأحداث، وعلى هذه الطريقة يجري الخلاف في سائر الأخبار هل هي مخالفة للأصول أو لقياس الأصول؟ وذلك يخرج إلى اعتبار كل خبر في نفسه.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في فيما يجب درؤه بالشبهة هل يُرد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في خبر الواحد إذا ورد فيما يجب درؤه بالشبهة كالحدود(1) هل يرد أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وأبي عبدالله أولاً أنه لا يقبل، ثم حكى رجوع أبي عبدالله عن ذلك، وقوله إنه يقبل.
قال رحمه الله تعالى: وذلك هو قول أبي يوسف نص عليه في الرجوع عن الشهادات، وهو ظاهر قول الشافعي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه يقبل، وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ فلو ورد خبر آحادي في أن من قَبَّلَ امرأة، أو أتاها في دبرها أقيم عليه الحد، وجب قبول الخبر وإن كان آحادياً عند من يقول بقبوله، أو رده عند من يقول بأنه لا يقبل، على حسب الخلاف في المسألة. تمت قسطاس معنى.
والدليل على صحته: ما تقدم من وجوب العمل على خبر الواحد من غير تفصيل، وجرى ذلك بإجماع الصحابة والإجماع آكد الدلالة؛ ولأن ذلك مما قد جرت به السنة، وأن عمال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يقيمون الحدود بأمر النبي لهم بذلك، والأمة تقبل قولهم فيه من غير فَزَع إلى سواه، وأكثر ما يقال في ذلك إن خبر الواحد لا يحصل به العلم، وانتفاء العلم يكون شبهة في درأ الحد، وهذا لا يوجب ترك العمل بخبر الواحد في ذلك؛ لأن هذه العلة قائمة في شهادة الإثنين على السارق، والأربعة على الزاني؛ لأن العلم قد لا يحصل بشهادتهم بل لا يجب مراعاته فلو كان ذلك شبهة لارتفع الحد من أصله، وهذا ما لم يقل به أحد، ولأن الحد إنما يدرء عن الشخص المعين بالشبهة وورود الخبر على الجملة لا يختص بشخص ولا يعنيه فلا يصح فيه معنى الدرء، بل هو وغيره سواء، وهو في حال وروده على الجملة في حكم المرتفع، وإنما يكون الدرء لما هو في حكم الواقع.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في المقادير هل يُقبل أم لا؟]
اختلف أهل العلم في خبر [الواحد(1)] إذا ورد في المقادير(2) كابتداء النصب والكفارات هل يقبل أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وأبي عبدالله أنه لا يقبل.
وحكى عن الشافعي والقاضي أنه يقبل، وكان رحمه الله تعالى يعتمده، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد في مثل ذلك، وإجماعهم حجة، فثبت وجوب قبوله.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة غير موجودة في النسخة.
(2) ـ النصب: المراد بها تقدير أنصباء الزكاة، فلو ورد خطاب بخبر آحادي أن نصاب الخضروات مائتا درهم، وكذلك نصاب أموال التجارة، أو ورد خبر آحادي بتقدير الدية أو الكفارة، كأن يقول: عليكم في كفارة اليمين كذا وكذا، أو تقدير الحدود أو غير ذلك من المقادير. تمت قسطاس، معنى.