قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الراوي قد سمعها من غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ووهم في سماعه حتى ظن أنه سمعها منه عليه وآله السلام، قال: وإن غيرت إعرابه وكان المجلس واحداً ولم يكن راويها أضبط نحو قوله: أو نصف صاع من بر، لم يقبل وعارضه قوله أو صاعاً من بر، فوجب على هذا الرجوع إلى الترجيح.
فأما الزيادة التي لا تغير لفظ المزاد عليه ولا اعرابه بمثل روايتهم عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((أو صاعاً من بر بين اثنين(1))) ومخالفة الراوي لحفظ أدلة النقل من هذا الباب المتقدم، والخلاف فيه على نحو ما تقدم فلا وجه لإعادته.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: من أن أحد الراويين إذا كان عدلاً ضابطاً مساوياً لصاحبه وانفرد بزيادة وجب قبولها: أن الوجه الذي أوجبنا قبول قوله في أصل الخبر هو قائم بعينه في الزيادة، وهو كونه عدلاً ضابطاً فإذا قبلنا منه أصل الخبر قبلنا الزيادة، وقد ثبت قبول أصل الخبر فثبت وجوب قبول الزيادة.
وما قال رحمه الله تعالى من أن المجلس إذا كان واحداً جاز أن يسمعها من غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ويتوهم أنه سمعها من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ويجوز أن ينسى الراوي بعض ما سمعه فلا يرويه، ويجوز أن يشغله بعض العوارض عن بعض الحديث فلا يسمعه.
__________
(1) ـ روى الإمام زيد بن علي -عليهما السلام- في المجموع صفحة (198) عن علي -عَلَيْه السَّلام- قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه وعمن هو في عياله صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى حراً كان أو عبداً نصف صاع من بر..إلخ.
وأخرجه بألفاظ متقاربة في: مسند أحمد (5/432) رقم (23714)، والمعجم الكبير (2/87) رقم (1389) والآحاد والمثاني (1/452) رقم (629).

فأما إذا كان أحدهما أضبط وقدرنا اتفاقهما في السماع، واستواء حالهما في الطلب والإنصات، فتحسين الظن به أيضاً يقضي بأنه سمع الزيادة في موقف آخر إن لم يوقتا لنا الحديث فإن وقتاه بوقت واحد قبلنا رواية الأضبط؛ لأن الظن لما يرويه أقوى، ذلك مفروض علينا سواء كان راوي الزيادة أو الأصل.
فأما رواية نصف الصاع والصاع، فنحن نجعلها من الأخبار التي أحدها تثبت الحكم الشرعي وباقيها ينفيه، وسيأتي الكلام فيه.
فأما رواية الراوي: (أو صاعاً من البر بين اثنين)، فرددنا هذه لضرب من الترجيح.
مسألة:[الكلام في حكم الزيادة أيضاً]
قال شيخنا رحمه الله: وأما إذا روى الراوي زيادة متقدمة أو متأخرة، ثم إنه أسند الرواية إلى مجلسين قُبِل ذلك، وإن لم يسندها أيضاً قُبِلَ ذلك، وحمل أن ما رواه وقع في مجلسين.
قال رحمه الله: وإن أسندهما إلى مجلسٍ آخر، وكان قد روى الخبر وقعات كثيرة من غير زيادة ثم رواه مرة أخرى بزيادة فالأغلب أنه سها في الزيادة، لأن سهو الإنسان مرة واحدة أغلب من سهوه مراراً كثيرة.
والصحيح عندنا في هذه المسألة: أن الزيادة يجب قبولها كما وجب قبول أصل الخبر، وتحسين الظن به يوجب أنه نسيها وسها عنها، وروايته للخبر مراراً كثيرة غير مؤثر في ذلك لأنه لا يمتنع سهو الإنسان في مرارٍ كثيرة، وتذكره مرة واحدة، ونحن نعلم ذلك من نفوسنا، وسهوه في الزيادة أبعد من سهوه في تركها؛ لأن الإنسان قد يسهو فلا يروي، ويبعد أن يسهو فيروي.
وما ذكره رحمه الله تعالى من أنه إذا قال: قد كنت نسيت هذه الزيادة ثم الآن ذكرتها قبلت روايته مستقيم، وتحسين الظن به يوجب اعتقاد ذلك فيه، وإن لم ينطق به.

وكذلك إذا كان له كتاب يرجع إليه مع أنه رحمه الله تعالى قد صرح في هذه المسألة بما ذهبنا إليه؛ لأنه قال: إن نسيان الضابط لما سمعه مع تطاول الزمان أكثر وأغلب من روايته لما لم يسمعه توهماً منه أنه سمعه، فوجب لذلك قبول هذه الزيادة، وهذا الإحتجاج كما ترى شامل للزيادة على أي وجه وقعت؛ فإن تعارضت روايته وزيادته كان الواجب علينا أن نبحثه، فإن قال: أغفلت عن هذه الزيادة عملنا على قوله بلا خلاف في ذلك، وإن لم نبحثه لعارض أو مانع، وكانت الزيادة منافية لبعض الأصل كانت من باب الخاص والعام، وأجرينا عليها حكمه ولا يجوز تقدير زيادة تنافي الجملة في خبر واحد؛ لأن هذا يكون من باب الناسخ والمنسوخ.
فإن وقعت فزعنا إلى التاريخ، فإن علمنا أن الزيادة متراخية عن الأصل على الشروط المعتبرة في الناسخ قضينا بها واطرحنا الأصل، وإن لم يعلم التاريخ تعارضا وفزعنا إلى طلب الدلالة.
مسألة:[الكلام في قبول المراسيل]
اختلف أهل العلم في قبول المراسيل، ومعنى ذلك أن يحذف الراوي الإسناد، ويقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ولا يذكر من رفع له الخبر إليه.
فمنهم من منع منه على الإطلاق، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك قول أصحاب الظاهر، وطائفة من أصحاب الحديث.
ومنهم من قال: إنها مقبولة على الإطلاق وحكى أنه مذهب أكثر الحنفية وكثير من المتكلمين، منهم أبو عبدالله البصري، وأبو الحسين البصري، والحاكم، وأنه اختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
ومنهم من فصَّل:
وقال: تقبل مراسيل الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مَنْ يكون مِنْ أئمة النقل، وحكى ذلك عن عيسى بن أبان.

وقال الشافعي: لا تقبل المراسيل إلا أن يعضدها ما يقويها، وظاهر قوله أن مراسيل الصحابة مقبولة، واختلف قوله في التابعين، ونص أن مراسيل سعيد بن المسيب(1) مقبولة، فكان إطلاقه هذا يقضي بأن من يعلم من حاله أنه لا يسترسل في الرواية أنه يقبل مسنده إما مذهباً وإما إلزاماً، وقوله هذا يقرب من قولنا.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وإلى قريب من مذهبه ذهب القاضي.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من وجوب قبول المراسيل، إجماع الصحابة على ذلك، وإجماعهم حجة فوجب قبول المراسيل.
أما أن الصحابة أجمعت على ذلك: فذلك ظاهر من حالهم لمن تتبع آثارهم، وتصفح أخبارهم، ولهذا قال البراء بن عازب(2)
__________
(1) ـ سعيد بن المسيب –بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، ثم موحدة- بن حزن –بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي، وبالنون- بن أبي وهب، أبو محمد القرشي المخزومي، ولد لسنتين من خلافة عمر، يروي عن علي -عَلَيْه السَّلام- وابن عباس وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة وخلق من الصحابة والتابعين، وعنه: ابن جدعان وابن المنكدر والزهري وعبدالله بن محمد بن عقيل وخلق.
توفي سنة أربع وتسعين عن تسع وسبعين. خرج له الجماعة وأئمتنا الخمسة والسمان.
انظر: لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي –أيده الله تعالى- (ط2- 2/467)، والجداول لسيدي العلامة عبدالله بن الإمام الهادي –رحمهما الله تعالى-.

(2) ـ البراء بن عازب الأنصاري الأوسي، ابو عمارة صحابي جليل القدر استصغر هو وابن عمر يوم بدر وشهد أحداً وما بعدها وبيعة الرضوان، وشهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفين والنهروان.
عنه: ابن أبي ليلى وغيره.
توفي بالكوفة بعد التسعين، خرج له أئمتنا الخمسة الأخوان والموفق بالله والمرشد بالله ومحمد بن منصور -عليهم السلام-. والستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه. انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/67، 68).

بحضرة الجماعة: (ليس كل ما أحدثكم به سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا أنا لا نكذب)، فدل على أنه كان يحذف ويقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
وكذلك روى ابن عباس عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه قال: ((لا ربا إلا في النسية))، ثم سئل عن ذلك، فقال: رواه أسامة بن زيد(1) عنه عليه وآله السلام.
وروي عنه أنه روى أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قطع التلبية لما رمى جمرة العقبة، وقال بعد ذلك: رواه لي الفضل بن العباس(2).
__________
(1) ـ أسامة بن زيد بن حارثة القضاعي، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاءً، أبو زيد المدني، كان مولى لخديجة بنت خويلد. قلت: أي أبوه.
قال: فوهبته للنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وهو ابن ثمان، وكان يدعى زيد بن محمد، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5].
قال السيد الإمام: وأمه أم أيمن، وكان النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أمره على جلة المهاجرين، وذكر السيد المرشد بالله أنه لم يقاتل مع علي مع تفضيله لعلي تأولاً منه أنه لا يقاتل أهل الشهادتين هكذا قيل..إلى قوله: توفي سنة أربع وخمسين. وروى عنه عبدالرحمن بن عوف وكريب وأبو ظبيان، وأخرج له الستة وبعض أئمتنا. انتهى. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/48، 50).
(2) ـ الفضل بن العباس بن عبدالمطلب، ابن عم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أكبر ولد العباس وبه يكنى، شهد الفتح وما بعدها وثبت في حنين، وأردفه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى وكان جميلاً، دخل الشام للجهاد وبه توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وعنه: أخواه عبدالله وقثم وجابر بن عبدالله وغيرهم. أخرج له: المؤيد بالله والمرشد بالله ومحمد والجماعة. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/171).

وروي أنه روى: ((من شيّع فله قيراط من الأجر، ومن جلس حتى يدفن فله قيراطان(1))) ثم ذكر أن أبا هريرة حدثه بذلك.
وروي عنه أنه روى أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قال: ((من أصبح جنباً فلا صوم له)) ثم أسنده بعد ذلك إلى الفضل بن العباس.
وأمثال هذا كثير يعلمه من تصفح آثارهم بدلالة أن الراوي كان إذا روى لهم عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لم يطالبوه بالإسناد، ولأن ابن عباس لما روى لهم هذه الأخبار لم ينكروا عليه إرساله، وذلك معلوم منهم على الحد الذي علمنا منهم العمل على خبر الواحد.
وأما أن إجماعهم حجة فسيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
ودليل آخر: وهو أن إرسال الراوي لما رواه جارٍ مجرى تعديله لمن روى الخبر عنه، ولا شك أن تعديله لمن روى الخبر عنه يوجب قبول خبره، فكذلك إرساله.
أما أن إرساله لما رواه جارٍ مجرى تعديله لمن روى الخبر عنه: فلأن تحسين الظن به يقضي بذلك؛ لأنه لا يقول قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا فيما يقطع على صحته، فكأنه يقول: أخبرني فلان وهو ثقة عندي، مرضي لدي.
وأما أن تعديله لمن روى الخبر عنه يوجب قبول روايته: فذلك مما لا خلاف فيه.
مسألة:[الكلام في الراويين إذا أرسل أحدهما وأسند الآخر]
أحد الراويين إذا أسند وأرسل غيره لم يقدح ذلك في عدالته، وخالف في ذلك بعض الشافعية.
__________
(1) ـ أخرجه بألفاظ متقاربة في: السنن الكبرى (1/645) رقم (2124)، والجامع الصحيح المختصر (1/26) رقم (47)، وصحيح مسلم (2/652) رقم (945)، وسنن أبي داود (3/202) رقم (3168)، والنسائي في المجتبى من السنن (4/54) رقم (1940)، وسنن ابن ماجه (1/491) رقم (1539)، ومسند أحمد (2/2) رقم (4453)، وصحيح ابن حبان (7/347) رقم (3078) وسنن البيهقي الكبرى (3/412) رقم (6536)، وجلاء الأبصار للحاكم الجشمي رحمه الله تعالى.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن إرسال غيره لا يقدح في عدالته ولا في ضبطه، فوجب قبول خبره مع ذلك.
أما أنه لا يقدح في عدالته ولا في ضبطه؛ فذلك ظاهر؛ لأنه فعل ما يجوز له فلم يقدح ذلك في عدالته إن لم يزدها قوة؛ لأنه إذا ذكر من روى له على بعض الوجوه كان أبعد من التهمة.
وأما أنه إذا لم يقدح في عدالته ولا في ضبطه وجب قبول خبره: فلما تقدم من أن الرواي إذا اجتمعت فيه العدالة والضبط قبل خبره بلا خلاف في ذلك.
مسألة:[الكلام في قبول خبر المدلِّس]
وخبر المدلس مقبول عندنا خلافاً لبعضهم.
ومعنى التدليس: أن يسند الراوي الخبر إلى شيخ شيخه، ويحذف ذكر شيخه إذا كان أرفع منه رتبة، ويوهم أنه سمع منه الحديث كالذي عن عكرمة(1) عن ابن عباس، فيحذف ذكر عكرمة، ويقول: قال ابن عباس قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وما شاكل ذلك.
والذي يدل على جواز قبول ما هذا حاله أن التدليس ضرب من الإرسال، وقد بينا فيما تقدم أن المراسيل مقبولة.
أما أن التدليس ضرب من الإرسال فذلك ظاهر؛ لأن الإرسال حذف جميع الرواة، والتدليس حذف بعضهم، فكان ضرباً منه، وكما جاز له ترك الكل جاز له ترك البعض بطريقة الأولى.
__________
(1) ـ عكرمة مولى ابن عباس البربري، أبو عبدالله، كَذَّبه يحيى بن سعيد الأنصاري، وروى عبدالله بن الحارث عن علي بن عبدالله أنه قال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي، ويروى عن ابن المسيب أنه كذبه، وابن سيرين.
وعن أبي ذيب: ليس بثقة، وقال محمد بن سعد: ليس يحتج بحديثه.
ثم إنهم رووا عنه أنه كان يرى رأي الخوارج.
قال الإمام القاسم بن محمد -عليهما السلام-: عكرمة مولى ابن عباس -رضي الله عنه- كان كذاباً كما هو مذكور في كتب الجرح والتعديل، وكان يبغض علياً -عَلَيْه السَّلام- ولا يبغضه إلا منافق. تمت بتصرف. انظر لوامع الأنوار (1/172)، والاعتصام (1/185).

وأما أن المراسيل مقبولة: فقد تقدم، فلا وجه لإعادته، وهو وإن أساء في إيهامه مثل هذا القدر لا يقدح في عدالته من حيث أنه لم يأخذ إلا عن الثقة العدل، وإنما عدل إلى الأكبر وهو صادق في روايته عنه لبعض الأغراض الصحيحة في الدين، فلم يقدح في عدالته فوجب قبول خبره.
مسألة:[الكلام في المرفوع والموقوف]
إذا أسند أحد الراويين ووقفه الآخر على الصحابي قبل عندنا، وقد خالف بعضهم في ذلك.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الراوي إذا كان عدلاً ضابطاً وجب قبول خبره، ووقف غيره للخبر لا يقدح في عدالته؛ لأنه لا يمتنع أن يرفع الصحابي الخبر مرة، ولا يرفعه مرة أخرى فيسنده من سمعه مرفوعاً، ويقفه من سمعه موقوفاً.
مسألة:[الكلام في الرواية بالمعنى]
اختلف أهل العلم في رواية الحديث بالمعنى من دون إيراد اللفظ الذي نطق به النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الجمهور ذهبوا إلى جواز روايته بالمعنى على الإطلاق.
وأن قوماً ذهبوا إلى المنع منه على الإطلاق، وهم بعض أصحاب الحديث.
وذهب القاضي إلى أنه إذا كان الراوي ضابطاً عارفاً بمعناه جاز، وإلا وجب نقله بلفظه وهو الذي نختاره.
وحكى أبو عبدالله الجرجاني(1) عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه إذا كان للخبر معنى واحداً جاز نقله بمعناه، وإن كان له معنيان أو أكثر وجب نقله بلفظ النبي صلى الله عليه وآله.
__________
(1) ـ أبو عبدالله الجرجاني: هو محمد بن يحيى الجرجاني من مشاهير أصحاب أبي حنيفة، له كتاب ترجيح مذهب أبي حنيفة. توفي سنة (297هـ).

وحكى رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري تفصيلاً ذكر أنه مذهب الحسن البصري(1) وأبي حنيفة والشافعي، وهو أنه قال: لا يخلو إما أن يَسُدَّ خبر الراوي مسدَّ خبر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بغير زيادة ولا نقصان، أو يزيد أو ينقص.
فإن لم يسد مسده بل زاد أو نقص لم يجز تأدية الحديث به؛ لأنه يكون كذباً على النبي صلى الله عليه وآله والكذب عليه لا يجوز.
وإن سد مسده بغير زيادة ولا نقصان لم يخل أيضاً إما أن يكون لفظ الراوي أغمض من لفظ النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو أجلى، فإن كان أغمض أو أجلى لم يجز.
قال رحمه الله تعالى: لأنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى تعلق المصلحة بإيراده غامضاً أو إيراده جلياً، ولا سد لفظ الراوي مسده، ولا يقوم مقامه فينقض الغرض.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الراوي إذا كان عدلاً ضابطاً عارفاً بمعناه جاز له روايته؛ لأنا متعبدون بمعنى الحديث دون تلاوة لفظه، والمعنى حاصل، وإن نقل إلينا بلفظ آخر.
__________
(1) ـ الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، ولد لسنتين من إمارة عمر، سمع أمير المؤمنين على الصحيح وجماعة من الصحابة، كان إماماً كبير الشأن عدلياً قوالاً بالحق آمراً بالمعروف ناهٍ عن المنكر، وروي عنه كلمات في جناب الوصي اعتذر أنها تقية وهو الحق.
ذكر المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم بسنده إلى يونس بن عبيد أنه سأل الحسن: لم ترفع الحديث إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأنت لم تدركه؟ فقال: سألتني عما لم يسألني أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى –وكان في زمان الحجاج- كل شيء سمعتني أقول فيه قال رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فهو عن علي بن أبي طالب غير أنني لا أستطيع أن أذكر علياً. توفي سنة عشر ومائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. انظر الجداول (خ)، المنية والأمل.

أما أنا متعبدون بمعناه دون تلاوة لفظه: فذلك ظاهر بالإجماع.
وأما أن المعنى حاصل وإن نقل إلينا بلفظ آخر: فذلك معلوم لنا من ألفاظ اللغة العربية؛ لأن أكثرها يكشف عن معنى غيره، ويقوم مقامه كالجلوس والقعود والقيام والإنتصاب والمشي والسير، والرزق والإنفاق، والسعي والإحصار..إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وفيما ذكرنا كفاية.
وقوله رحمه الله تعالى: إن المصلحة لا يمتنع تعلقها بالظاهر أو الغامض لا يلزم؛ لأنا نقول: لو علم الله تعالى ذلك لتعبدنا بتلاوة لفظ الخبر كما تعبدنا بتلاوة لفظ القرآن، ولفظ الأذان والتشهد لما علم أن المصلحة متعلقة بتلاوة لفظ ذلك، فلما لم يتعبدنا بتلاوة لفظ الخبر علمنا أنه لا مصلحة لنا في اللفظ، وإنما تعلق مصلحتنا بالمعنى، فإذا حصل لنا المعنى جاز بأي لفظ كان.
مسألة:[الكلام في الوجادة]
إذا عرف الراوي خطه في كتابه وذكر أنه قرأه على شيخه إما جملة وإما تفصيلاً أو قرأه عليه شيخه، فلا خلاف أنه يجوز له روايته، ويجب قبول خبره، وإن شك في سماعه أو التبس عليه حاله، ولم يرجح وقوع السماع ولا نفيه فلا خلاف أنه لا يجوز له روايته؛ لأنه لا يجوز أن يروي الإنسان عن غيره ما لا يغلب على ظنه صحته بالإتفاق؛ فإن غلب على ظنه سماعه أو عرف علامة خط شيخه أو خط نفسه فيما يغلب على ظنه أنها لا تقع إلا فيما سمعه، فقد اختلفوا في ذلك.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي حنيفة أنه لا يجوز له أن يرويه ولا يجوز له قبول روايته ولا العمل على خبره؛ لأنه لا يجوز أن يقول: حدثني فلان وهو لا يعلم أنه حدثه، وبناه على الشهادة.

20 / 41
ع
En
A+
A-