الكلام في الأخبار
مسألة:[الكلام في حدِّ الخبر]
اختلف أهل العلم في حدّ الخبر؛فقال بعضهم:
هو ما يصح فيه التصديق والتكذيب، وقيل: ما يصح فيه الصدق والكذب، والمعنى واحد.
والمراد بذلك هو أن يصح أن يقال للمتكلم به: صدقت أو كذبت، ومعلوم أنه لا يصح أن يقابل بالتصديق والتكذيب شيء من أنواع الكلام سوى الخبر.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا قول كثير من العلماء، وإليه ذهب قاضي القضاة والحاكم واختاره القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه.
وحكي عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه ذكر في المعتمد(1) في حد الخبر أنه كلام يفيد إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً.
وذكر أيضاً أنه ذكر في زيادات المعتمد(2) في حد الخبر أنه كلام تام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً.
وكان رحمه الله تعالى يقول: إن الحدود الأولة لا يصح الإعتماد عليها؛ لأن صحة التصديق والتكذيب هي حكم كونه خبراً، وليست معنى كونه خبراً، فإن كونه خبراً حكم يرجع إلى الصيغة، وصحة التصديق والتكذيب حكم راجع إلى التصديق والتكذيب والمصدق والمكذب.
قال رحمه الله تعالى: وتحديد الشيء بحكمه لا يجوز؛ لأن من حق الحد والمحدود أن يكونا عبارتين عن شيء واحد.
قال رحمه الله تعالى: ولذلك لم يجز تحديد القادر بأنه من صح منه الفعل؛ لأن صحة الفعل حكم كونه قادراً، وليست كونه قادراً لأن كونه قادراً صفة يختص بها الحي، وصحة الفعل حكم يختص به الفعل.
قال رحمه الله: وكذلك لا يصح ما ذكره الشيخ أبو الحسين في المعتمد من حد الخبر، لا يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أن قولنا خبر أوضح مما حد به، ومن حق الحد أن يكشف عن معنى المحدود ويظهره.
__________
(1) ـ المعتمد في أصول الفقه (2/544).
(2) ـ زيادات المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري أيضاً، طبع ملحقاً بالمعتمد (2/1024).
وثانيها: أنه كان يلزم إذا قلنا: زيدٌ الظريف في الدار، أن يكون قولنا زيد الظريف خبراً؛ لأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور وهو الظريف إلى أمرٍ من الأمور وهو زيد، ومعلوم أنه ليس بخبر وإنما هو جزء الخبر.
وثالثها: أن قول القائل: لا ثاني لله عز وجل، هو خبر وليس هو إضافة أمر إلى أمر، فإن الوجود ليس بصفة عنده، ولا الثاني ذاتاً فيكون قد أضيف الصفة إلى الذات، بل الخبر عن نفي الثاني خبر لا مخبر له.
وما ذكره في زيادات المعتمد فاسد بالوجه الأول والثالث، والأصل في هذا الباب: أنه لا لفظ أوضح من قولنا خبرٌ فيحد به، وإنما يصح تحديده بالإضافة إلى حكمه فيقال: حدّ الخبر: هو الكلام المختص بحكم، الإختصاص به يصح فيه التصديق والتكذيب.
ومعنى هذا أنه يسوغ عند أهل اللغة أن يقال للمتكلم به صدقت أو كذبت، ولا تحظره اللغة ولا تمنع منه، بل تقضي بجوازه، هذا كما أنه لما كان لا لفظ أوضح من قولنا قادر، فيحد به صح تحديده بلا خلاف، فحكمه أن يقال في حد القادر: إنه المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل، ولم يكن هناك مانع.
والدليل على أن ما ذكرناه هو حد الخبر: أنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة فلا يسبق إلى أفهام أهل اللغة من قولنا خبر سوى ذلك، ولذلك لا يسوغون لأحد أن يقابل شيئاً من أقسام الكلام بتصديق ولا تكذيب سوى الخبر، فهذا ما انتهى إليه كلام شيخنا رحمه الله تعالى وتعليله.
واختيارنا في حد الخبر: أنه الكلام المفيد، الذي يحسن مقابلته بالتصديق والتكذيب، وما ذكره رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري مستقيم.
فأما ما اعترض به على حد قاضي القضاة ومن طابقه فيمكن أن يجاب عنه بما ذكره رحمه الله تعالى من أن الحد إنما يراد به الكشف والإبانة عن المحدود، ولا شك أنه لا يكشف عن معنى الخبر غير ما ذكروا.
وأما قوله رحمه الله تعالى إن صحة التصديق والتكذيب حكم كونه خبراً فذلك لا يمنع من التحديد كما حقق رحمه الله تعالى في تحقيق معنى القادر تعالى، ولأن أمارة صحة الحد قائمة فيما ذكروه وهي صحة العكس والطرد، ولأنك تقول كل خبر يحسن دخول التصديق والتكذيب فيه، وكلما حسن فيه دخول التصديق والتكذيب فهو خبر.
والدليل على صحة ما ذكرناه واخترنا من التحديد: هو الدليل على صحة حد القاضي رحمه الله تعالى ومن تابعه، إلا أن ما ذكرناه أكمل؛ لأنا بقولنا الكلام فصلناه عن الحرف والنغمة، وقولنا المفيد فصلناه عما ليس بمفيد، وقولنا الذي يحسن أن يقابل بالتصديق والتكذيب فصلناه عن سائر أنواع الكلام، والواجب في الحد التحفظ؛ لأنه أخصر للفائدة وأقطع للشغب.
مسألة:[الكلام في أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً]
ذهب شيخنا رحمه الله تعالى إلى أن للخبر بكونه خبراً حكماً زائداً على صيغته، وحكى أن ذلك قول أكثر شيوخنا المتكلمين، وأن قاضي القضاة ذهب إليه والحاكم، واختاره شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه.
وذكر رحمه الله أن الشيخ أبا الحسين ذهب هو وجماعة إلى أن لا حكم للخبر بكونه خبراً وهذا الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن القائل إذا قال: زيد في الدار، صلحت هذه اللفظة لكل زيد ولا يخصها ببعض الزيدين دون بعض إلا إرادة المخبر للمخبر عنه، وإرادته للمخبر عنه ترجع إليه لا إلى الخبر، فيوجب له كونه مخبراً عن ذلك الشخص دون غيره ممن شاركه في الصيغة، فلم يكن له بمجرد كونه خبراً حكم زائد.
وما ذكره رحمه الله تعالى من فصله بين الخبر عن زيد بن عبدالله، وزيد بن خالد، لأمر يرجع إلى الخبر غير مسلم؛ بل فصلنا بينهما لأمر يرجع إلى المخبر، وهو كونه مريداً للخبر عن أحدهما دون الآخر، بدلالة أن اللفظ لو تجرد لما عقلنا من ظاهره أمراً زائداً يفرق بين الخبرين.
ولأن الخبر يجري مجرى الأمر فهو بعينه في كثير من الأحكام، فكما لم يكن للأمر بكونه أمراً حال كذلك الخبر، ومهما أمكن أن يجاب به عن الأمر فهو بعينه الجواب عن نفي الحكم الثابت للخبر بكونه خبراً، بعلة أن كل واحد منهما نوع من أنواع الكلام له صيغة مخصوصة، يتبعها أحكام مخصوصة، تصلح للأمور مجملة، ولا تختص ببعضها دون البعض إلا لأمر يرجع إلى محدثها وهو الإرادة، فيقع الفصل بها بين الأمر والسؤال والتهديد، وبين الخبر عن ذلك، محمد بن عبدالله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مثلاً وغيره من المحمدين، وعن الأوقات الثلاثة التي يقع فيها الفعل، ويفصل بها بين الخبر المطلق والأمر الوارد بلفظ الخبر.
ولأنه لا يعقل من قولنا خبر إلا ورود الصيغة المفيدة التي يحسن أن يقابل قائلها بالتصديق والتكذيب، فمن عقلها واردة على هذا الوجه عقل كونها خبراً، ومن لم يعقلها واردة عليه لم يعقلها خبراً، ولا يراعى سوى ما ذكرنا.
مسألة:[الكلام في الخبر بما يثبت الحكم له بكونه خبراً]
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وإنما ثبت للخبر الحكم بكونه خبراً عن شخص دون شخص كما أن المخبر مريد لكونه خبراً عنه دون غيره، وهذا قول أكثر شيوخنا المتكلّمين، وهو مذهب السيدين المؤيد بالله وأبي طالب عَلَيْهما السَّلام، واختيار سيدنا شمس الدين.
قال رحمه الله تعالى: فأما أبو القاسم البلخي فإنه ذهب إلى أنه خبر لذاته.
وذهب الشيخ أبو الحسين البصري إلى أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً فيحتاج إلى التعليل، بل المعقول من كون الصيغة خبراً عن شخص دون غيره هو أن الفاعل أوردها لغرض يختص ذلك الشخص دون غيره.
وعندنا أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً.
والدليل عليه: ما قدمناه في المسألة الأولى.
ومما يؤيده أنا نقول: إن الخبر جارٍ مجرى الأمر، ولا حكم للأمر بكونه أمراً فكذلك الخبر، وشيخنا رحمه الله تعالى يوافقنا في الأمر، فأما اختصاصه على الخبر بشخص دون غيره فذلك الأمر يرجع إلى المخبر لا إلى الخبر، ومعناه أن يريد الإخبار عن شخص دون غيره، ولأن الأمر لا يختص بشخص دون غيره إلا بإرادة الآمر للأمر له دون غيره؛ لأن ما به من صيغة تصلح لأمر شخص إلا وهي تصلح لغيره من جنسه.
وقد احتج شيخنا رحمه الله تعالى لمذهبه في هذه المسألة بأن ما جاز أن يكون خبراً عن شخص جاز أن يكون خبراً عن غيره، فلا بد من أمر يُخَصصه بمن هو خبر عنه دون غيره.
ونحن نقول: إن هذا يلزمه في الأمر؛ لأنا نقول: ما به صيغة تصلح لأمر شخص إلا وهي تصلح لأمر غيره فلا بد من أمر يخصصها به دون غيره، فكما لا يجب عنده بهذه الطريقة أن يكون للأمر بكونه أمراً حكم كذلك قولنا في الخبر.
ثم ذكر أن كلما يرجع إلى الصيغة وإلى الفاعل والمعاني المتوسطة بينهما مع الأشخاص كلها على سواء، قال: فلم يبق إلا كونه مريداً للإخبار عمن أخبر عنه، فذلك حقيقة عندنا، ولكنه لا يوجب للخبر حكماً كما قلناه في الأمر الضروري بل لا يعقل من كونه خبراً إلا ورود صيغة الخبر، وإرادة الإخبار عمن أخبر عنه، فإذاً التعويل في هذه المسألة على اعتبار حال المخبر، لا حال الخبر فإذا علمته مع ورود الصيغة مريداً للإخبار عن شخص دون شخص غيره عقلته مخبراً عنه، وإن لم تعلمه مريداً للإخبار عمن أخبر عنه لم يعلم الخبر خبراً عنه، فهذا ما احتمله هذا الموضع من الكلام.
مسألة:[الكلام في حد الصدق والكذب]
عندنا أن الخبر لا يخلو من صدق أو كذب، سواء علم المخبر أنه صادقٌ أو لم يعلم؛ وخالف في ذلك الجاحظ فقال: إن علم أن خبره على ما أخبر به فالخبر صدق، وإن علم أنه بخلاف ما أخبر به فهو كذب، وإن لم يعلم أنه على ما أخبر به أو بخلافه فهو خبر ليس بصدق ولا كذب.
واعلم أن الخبر عندنا لا يخرج عن الصدق والكذب، وإنما حصرناه في هذين النوعين؛ لأن القسمة فيه دائرة بين النفي والإثبات، والقسمة إذا دارت بين النفي والإثبات لم يجز دخول متوسط.
وإنما قلنا إنها دائرة؛ لأن حد الصدق عندنا: هو الخبر الذي يكون مخبره أو ما يجري مجرى المخبر على ما تناوله.
والكذب هو الخبر الذي لا يكون مخبره أو ما يجري مجراه على ما تناوله، والقسمة إذا دارت بين النفي والإثبات لم يجز دخول متوسط بينهما، فلا يكون جهلنا بحال المخبر، يخرجه عن حد هذين النوعين.
وقد قال الله تبارك وتعالى حاكياً عن المنافقين: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} [الحشر:11ـ12]، فأخبر عن حالهم في المستقبل، ووصف كذبهم في الخبر وهو أمر لم يتبين لهم حاله بعد هل هو ما قالوا أم بخلافه؟ لأنه لا سبيل للعباد إلى علم الحال في المستقبل فبطل ما قاله الجاحظ(1).
وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى حدوداً لأهل العلم في الصدق والكذب واعترضها باعتراضات لازمة، وغرضنا حصر الفائدة بالإيجاز إلا فيما لا بد من ذكره.
__________
(1) ـ الجاحظ هو: عمرو بن بحر الجاحظ، أبو عثمان، كناني، وقيل مولى لكنانة، أخذ عن النظام، كان نسيج وحده في جميع العلوم، جمع بين علم الكلام والأخبار والفتيا والعربية وتأويل القرآن وأيام العرب مع ما فيه من الفصاحة، وكان حريصاً على العلم، من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، وهو من معتزلة البصرة، له الكثير من المؤلفات في التوحيد والنبؤة والإمامة وغير ذلك. توفي سنة (255هـ) في أيام المهتدي.
فصل: [في تقسيم الأخبار]
فإذا صح لك انحصار الخبر بحده وحقيقته شرعنا في الكلام في قسمته.
واعلم أن الأخبار الشرعية تنقسم إلى قسمين: أحدهما: يوجب العلم. والثاني: لا يوجبه.
وما يوجب العلم ينقسم أيضاً إلى قسمين: أحدهما: يوجب العلم الضروري، والثاني: يوجب العلم(1) الإستدلالي.
وما لا يوجب العلم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يوجب العمل. والثاني: لا يوجبه.
وإنما انحصرت الأخبار في هذه الأقسام لأنها دائرة بين النفي والإثبات، فلم يجز لذلك دخول متوسط كما قدمنا.
[شروط العلم الضروري والإستدلالي]
واعلم أن لكل نوع من هذه الأنواع شرطاً يقف حصوله عليه وصحته، فنبدأ من ذلك بالعلم الضروري لأنه أصل العلم، ثم نفرع منه الكلام في الأنواع.
فللعلم الضروري ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون المخبرون كثرة بحيث يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب.
وثانيها: أن يكون متساوي الأطراف أو متقاربيها في الكثرة.
وثالثها: أن يكونوا عالمين بما يخبرون به ضرورة.
وأما الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي باعتبار حكمة المخبر، أو من يكون خبره كأنه من جهته أو من يقره على ذلك.
فمنها: ما يكون طريقاً إلى العلم من دون هذا الإعتبار؛ فالأول هو الأخبار الواردة عن الله سبحانه، أو عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو العترة الطاهرة، أو الأمة، أو الأخبار التي يخبرها آحاد الرجال بحضرة الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيما يتعلق بشريعته أو معجزاته، ثم لا يقابل ذلك بإنكار ولا تكذيب، أو ما يدعي عليه آحاد الرجال العلم به أو المشاهدة له بحضرته ثم لم ينكر ذلك، ونحو ذلك مما يحكيه الله تعالى من الأخبار عمن لم تثبت حكمته إذا عري ذلك عن إنكاره وتكذيبه.
__________
(1) ـ في النسخة: العمل، ولكن العلم هو الموافق للمعنى لما يأتي، والله أعلم.
والثاني: كأن يخبر عدد كثير يستحيل عليهم التواطؤ وافتعال الكذب عن أمر من الأمور مما تنجلي الحال فيه، ولا تدخله طريقة اللبس، فإنا متى فرضنا أن العلم الضروري لا يحصل بخبرهم فإن العلم الإستدلالي حاصل له، ونحو أن يخبر الواحد بحضرة العدد الذين وصفنا حالهم عن مخبر حاله ما وصفنا ويدعي عليهم العلم بذلك والمشاهدة له فيقرونه على ذلك، ولا يقابلون دعواه بإنكار ولا تكذيب إلى غير ذلك.
وأما ما لا يكون طريقاً إلى العلم، ويكون موجباً للعمل فله شروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً لما يرويه.
وثانيها: أن يكون الخبر متناولاً لأمر من حقّه متى صح أن يكون ظاهراً مشهوراً.
وثالثها: أن لا يكون معارضاً لشيء من الأدلة العقلية والسمعية.
وأما ما لا يوجب العمل: فهو ما لم تتكامل فيه هذه الشروط من أخبار الآحاد، وبيان صحة ما ادعيناه في هذه الأخبار يأتي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى، وهذه الجملة وما ابتنى عليها من التفصيل أورده شيخنا رحمه الله تعالى فأتينا به على ما ذكره.
مسألة:[الكلام في الأخبار هل تكون طريقاً إلى العلم أم لا؟]
اختلف الناس في الأخبار هل تكون طريقاً إلى العلم أم لا؟
فذهب السُّمَنِّية(1) وهم فرقة من الملحدة إلى أنها لا تكون طريقاً إلى العلم البتة، وأنه لا طريق إلى العلم إلا المشاهدة.
وذهب سائر أهل العلم إلى أن الأخبار طريق إلى العلم، ثم اختلفوا؛
فمنهم من ذهب إلى أن الأخبار المتواترة طريق إلى العلم الضروري، وهو الذي ذهب إليه شيخنا رحمه الله تعالى، وحكاه عن مشائخنا المتكلمين، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: هو طريق إلى العلم الإستدلالي ولا يحصل إلا بضرب من الإستدلال، ورواه عن البغدادية والشيخ أبي الحسين البصري.
__________
(1) ـ السمنية: بضم السين وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ وتنفي وقوع العلم بالأخبار.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن أمارة العلم الضروري حاصلة فيه، فوجب أن يكون العلم بمخبر الأخبار ضرورياً، أما أنها حاصلة فإنا لا نفرق بين العلم الضروري والعلم الإستدلالي في الأصل، إلا بأن العلم الضروري لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة وإن انفرد، والمكتسب ينتفي عن النفس بالشك والشبهة إذا انفرد، وهذه الأمارة قائمة فيما علمناه بالأخبار المتواترة كعلمنا بمكة وبغداد وما شاكلهما، ولأنه يحصل لمن لا حظ له في النظر كالعوام والمهملين، ولأنه يحصل لمن لا سبيل له إلى النظر كالسفهاء المنقوصين والمراهقين، ولأنه لو كان العلم به مكتسباً كما قالوا لما حصل إلا لمن نظر في الأخبار وتعرف أحوال المخبرين في إختلاف دواعيهم، وتباين أغراضهم، واختلاف دواعيهم، ومبلغهم في الكثرة، واستحالة التواطؤ عليهم، ومعلوم أنه يحصل لمن لا يعلم شيئاً من ذلك.
ولأنا نعلم من نفوسنا حصوله لنا بدون النظر والإستدلال، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه؛ فأما السُّمَنِّية فبطلان قولهم أظهر من أن يحتاج إلى تطويل، واعتبار دليل، ولأنا نعلم خلاف قولهم ضرورة؛ وهم مع ذلك عدد قليل يجوز على مثلهم دفع الضرورات، والتواطؤ على الكذب، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي]
فأما الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي فقد ذكرنا أنها على نوعين:
أحدهما: تعتبر فيه حكمة المخبر.
وثانيهما: لا تعتبر فيه حكمته.
فالذي تعتبر فيه حكمة المخبر: هو الخبر الوارد عن الله سبحانه، أو عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأن خبر الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في الحكم كأنه من جهة الله سبحانه وتعالى، وكذلك تقرير الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن يخبر عنه بحضرته، أو يحكي شيئاً عنه عَلَيْه السَّلام ثم يدعي عليه علمه، فلو كان كذباً لوجب عليه إنكاره، وهو لا يخل بما يجب عليه صلوات الله عليه سيما فيما يتعلق بالشريعة ويلحق بهذه الأخبار الواردة عن العترة والأمة وتقريراتهم، وسيأتي شرحها مفصلة في بابها.
ويلحق بذلك ما يحكيه القديم سبحانه عمن لم تثبت حكمته ثم لا يتعقبه بإنكار، مع أن البيان واجب عليه سبحانه في الحكمة وهو لا يخل بالواجب على ما ذلك مقرر في موضعه من أصول الدين، وقد تقدم الكلام في أن كلام الحكيم سبحانه وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حجتان واجبتا الإتباع، وكذلك تقريره سبحانه وتقرير الرسول عَلَيْه السَّلام، وسيأتي الكلام مستوفى فيما ترويه العترة والأمة في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
وأما ما لا يعتبر فيه حكمة المخبر ولا من يقره: فهي الأخبار التي يرويها الأعداد الكثيرة عن أمثالها في الكثرة، حتى ينتهي ذلك إلى أمر لا يجوز فيه دخول الإلتباس.
وأما ما قلنا إن خبر من هذه حاله يوصل إلى العلم لأنا إذا فرضنا استحالة التواطؤ على مثلهم في مجرى العادة لاختلاف الأغراض، ونقلوا خبراً واحداً يستند إلى أمر لا يجوز فيه الإلتباس، كنا عند العلم بتعذر التواطؤ نعلم أنهم أخذوه عن المشاهدة؛ لأن العدد الكثير إذا نقلوا الخبر كان نقلهم لا يخلو إما أن يكون لعلمهم به أو لا يكون؛ فإن كان لعلمهم به فهو الذي نقول، وإن لم يكن لعلمهم به فهو إما للتواطؤ، وإما لاختيار الكذب بالإتفاق.