ولأن الكلام في النسخ بالإجماع والقياس هل يجوز أم لا؟ هو فرع على كون ذلك نسخاً؛ لأن ذلك لو لم يكن داخلاً تحت حد النسخ وحقيقته لم يصح وصفه بأنه ناسخ فضلاً عن أن يقال إنه هل يجوز أم لا يجوز؟
يبين ذلك ويوضحه: أن الزيادة على النص متى اقتضت زوال حكم شرعي وكانت الزيادة ثابتة بالقياس؛ فإن الشيخ أبا الحسين يمنع من جوازها ويعدل المنع من ذلك بأنها تكون نسخاً والنسخ بالقياس لا يجوز، ومتى كان النسخ عنده مقصوراً على ما يثبت بقول الله سبحانه أو قول رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو فعله لم تكن هذه الزيادة داخلة في حد النسخ وحقيقته، ولا يصح وصفها بأنها نسخ، ولا المنع من جوازها لذلك، ولأن النسخ بتقرير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ثابت على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، وليس نصاً ولا فعلاً.
ولأن النسخ يدخل على الفعل دخوله على القول، وإن لم يكن الفعل نسخاً فبطل بهذه التعاليل قول الشيخ أبي الحسين وقاضي القضاة.
وذكر شيخنا رحمه الله حد النسخ تحديدنا المتقدم مطابق له وظننا أنما اخترناه خارج عن قوله، فلذلك أفردناه بالذكر، وذلك أنه قال في حد النسخ إنه إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخيه عنه.
والطريق الموصوف بأنه ناسخ: هو ما اقتضى زوال مثل الحكم الشرعي من الطرائق الشرعية على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخيه عنه.
والمنسوخ: هو الحكم الشرعي المزال بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخي الناسخ عنه، وقد يقال في الطريق الشرعي إنه منسوخ.

قال شيخنا رحمه الله تعالى: والذي يدل على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معناه الشرعي على جهة المطابقة ولا يسبق إلى أفهام أهل الشرع إلا ذلك عند إطلاقه، ولذلك ثبت فيه العكس والطرد وهما أمارة لصحة الحدود، واحترزنا بقولنا: إزالة مثل الحكم؛ لأنه لو كان إزالة لنفس الحكم لكان بَدَا ولم يكن نسخاً.
واشترطنا أن يكون مثل الحكم المزال شرعياً؛ لأن رفع مثل الحكم الثابت بدليل العقل لا يكون نسخاً.
واشترطنا أن يكون النسخ ثابتاً بطريق شرعي؛ لأن إزالة الأحكام الشرعية بدليل العقل لا تكون نسخاً كما قلناه في زوال التكاليف بالموت والعجز وزوال العقل.
وإنما قلنا بطريق شرعي؛ لأن لا يخرج نسخ بعض أخبار الآحاد ببعض، وما جرى مجراها من الأمارات عن هذا الحد؛ لأنها طرق وليست بأدلة؛ لأن الدليل ما يوصل النظر فيه على الوجه الصحيح إلى العلم، والأمارة ما يوصل النظر فيها على الوجه الصحيح إلى غالب الظن، والنسخ واقع عند أهل الشرع فيما ثبت بالأمارة وقوعه في الثابت بالدلالة، فلذلك ذكرنا لفظ الطريقة؛ لأنه يشمل الدلالة والأمارة.
واشترطنا المستقبل؛ لأن الماضي لا يقع فيه.
واشترطنا التراخي؛ لأن المقارن لا يوصف بذلك، كما إذا قال: صم اليوم ولا تصم غداً، فإن ذلك لا يسمى نسخاً، فعلى هذه الطريق يجري القول في حقيقة النسخ.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الشرائع]
ذهب الكافة من علماء المسلمين إلى جواز نسخ الشرائع، وخالف في ذلك بعض المتأخرين من أهل الصلاة(1)، وهذا القول ظاهر البطلان لشذوذه وسبق الإجماع له، فإن المعلوم عندهم ومنهم أن بعض الشريعة منسوخ ببعض، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال البيت الحرام المعظم وما شاكل ذلك.
__________
(1) ـومن المانعين النسخ غلاة الإمامية والتناسخية، حكى ذلك عنهم الإمام يحيى -عَلَيْه السَّلام- في كتاب المعيار. تمت منهاج الوصول.

وإنما يقع الخلاف في هذه المسألة بيننا وبين اليهود، فإنهم منعوا من ذلك، ثم اختلفوا؛ فمنهم من منع منه عقلاً، ومنهم من منع منه سمعاً، وقال: لولا قول موسى عَلَيْه السَّلام إن شريعته لا تنسخ لجوزته.
فأما الكلام مع من منع منه من جهة العقل فظاهر؛ لأنا نقول -وهم مجمعون على ذلك- إن الشرائع مصالح والمصالح يجوز اختلافها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والمكلفين، ونحن نعلم ذلك من جهة العقل، وأن تعبد الغني بخلاف تعبد الفقير، وتعبد الرجل بخلاف تعبد المرأة، وتعبد الطاهر بخلاف تعبد الحائض والجنب، والموسع عليه بخلاف تعبد المضطر، فإذا تقررت هذه الجملة لم يمتنع أن يعلم الله سبحانه أن هذا الفعل الذي أمر به مصلحة في وقت دون وقت، ولشخص دون شخص.
وأما قول من قال من جهال اليهود إن النسخ يدل على البدا، وذلك لا يجوز على الله، فظاهر البطلان؛ لأن البدا هو أن يأمر أحدنا خادمه مثلاً في وقت معين، بفعل معين، على شرط معين، ثم ينهاه عن ذلك الفعل بعينه، في ذلك الوقت بعينه، فأما إذا نهاه عن مثل ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت لم يكن بدا، أو نهى غير ذلك الشخص لم يكن بدا أيضاً، وموضع استقصاء الكلام في هذه الجملة هو أصول الدين(1)، وفيما ذكرناه كفاية بحمد الله تعالى.
فأما الكلام عليهم فيما تعلقوا به من كلام موسى عَلَيْه السَّلام، فنقول لهم: ذلك غير صحيح وهم لا يجدون سبيلاً إلى تصحيحه.
__________
(1) - قال القاضي العلامة عبدالله بن محمد بن حمزة بن أبي النجم في كتابه (التبيان في الناسخ والمنسوخ): والفرق بين النسخ والبدا، أن البدا ما يجمع شروطاً وهي: أن يكون الآمر الناهي واحداً والمأمور المنهي واحداً والفعل والوقت واحداً فإذا اختل واحد منها فهو نسخ. انتهى.

ثم لو قدرنا صحته لوجب تأوله؛ لأن نبينا صلى الله عليه وآله قد صحت نبوته بما لا سبيل إلى دفعه من المعجزات، ثم قد علمنا من دينه ضرورة أن شريعته نسخت جميع الشرائع والملل، وأنه يجب على أهل الكتاب اتباعه، ويحرم خلافه، ولذلك كان يدعوهم إلى اتباع دينه ورفض ما هم عليه.
وروي أنه قال: ((لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي))(1)، فلو صح ما قالوه عن موسى لأدى إلى كون أحد الصادقين كاذباً، وكون أحد الحقين باطلاً، وذلك لا يجوز، فما أدّى إليه قُضِيَ ببطلانه، والكلام في حكم الأخبار المنقولة عن الأنبياء عَلَيْهم السَّلام وما يجب المصير فيه إلى العلم من الأخبار وما لا يجب يأتي في موضعه من باب الأخبار فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أنه هل يجوز ورود النسخ على ما لم يرد الإشعار والتنبيه على نسخه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز ورود النسخ على ما لم يرد التنبيه من الله سبحانه وتعالى على نسخه أم لا يجوز إلا فيما علم ورود التنبيه على وقوع نسخه على الجملة؟
فمنهم من جوز النسخ إن لم يقترن بالمنسوخ التنبيه على النسخ والإشعار به في الجملة وهو قول جمهور الفقهاء والمتكلّمين، وهو الذي نختاره.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسين البصري وهو الذي كان يعتمده.
ويحتج لصحته بأن الخطاب إذا ورد من الحكيم سبحانه في وجوب أفعال أو تروك من غير تحديد ولا توقيت، فإنه يجب على المكلف اعتقاد وجوبها عليه على وجه الإستمرار، فلو نسخها عنه سبحانه بعد ذلك لكان مغرياً له باعتقاد الجهل، وذلك عليه لا يجوز، فلم يجز نسخ ما لم يشعر بنسخه في الأول، فعلى هذا بنى رحمه الله احتجاجه.
__________
(1) - رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان -عليه السلام- والله أعلم. تمت من هامش كافل الطبري.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك: أنه قد ثبت من جهة العقل والعرف والدلالة الظاهرة من جملة الشرع أن الأمر الوارد على غير التوقيت والتحديد لا يتوهم استمراره مطلقاً، فكيف باعتقاد ينتج عن نظر واستدلال؟
وإنما قلنا ذلك لأنا نعلم أن المصلحة يجوز تغييرها بتغاير الأشخاص والأوقات، كما قدمنا، وهذا يمنع من تصور اعتقاد دوامها على وجه الإستمرار، ولأنا نعلم زوالها بالعجز والموت فهذا من جهة العقل.
وأما من جهة العرف: فقد علمنا من حال الآمر أنه إذا أمرنا بأمرٍ من الأمور مطلقاً أن ذلك الأمر يجب تكريره ما دام غرضه باقياً، فإذا علم زوال الغرض في الجواز علم زوال الإستمرار في الوهم، وبهذا إذا قال القائل: أكرم زيداً، ثم أقام يوماً أو يومين فقال: لا تكرم زيداً لم يعد مناقضاً بل يعلم زوال غرضه لا غير وذلك ظاهر.
وأما من جهة الشرع: فدلالته على ما قلناه أظهر وأكثر؛ لأنه بجملته ناسخ لما تقدمه من الشرائع، فكيف يُجَوِّزُ مَنْ عَلِمَ أنه ناسخٌ لشرعٍ اعتقادَ وجوبِ استمراره مع ذلك وهو شرع؟ ولم يجز نسخه لما قبله إلا لزوال المصلحة، ومن علم أن المصلحة إذا زالت جاز النسخ منعه هذا العلم من اعتقاد دوام الأمر المطلق، فإذاً الواجب عليه في الأمر المطلق أن يعتقد وجوب دوامه بإدامت المصلحة فيعلقه به، وهذا يخرجه عن الجهل الذي جوز عليه اعتقاده.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا قيد بالتأبيد هل يجوز عليه ورود النسخ أم لا؟]
ذهب بعض المتكلمين إلى أن الأمر إذا قيد بالتأبيد أفاد التأبيد واقتضى دوامه ولم يجز ورود النسخ عليه.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا فرق بين الأمر المطلق والمقيد بالتأبيد في جواز ورود النسخ عليه، وهو الذي نختاره.
وذهب شيخنا رحمه الله إلى أن الأمر المقيد بالتأبيد إذا قارنه تنبيه يؤذن بنسخه جاز ورود النسخ عليه، وإن لم يقترن به لم يجز، وحكى ذلك عن الشيخ أبي الحسين البصري على نحو ما قدمنا أولاً.

والذي يدل على صحة ما قلناه: أن الأمر المقيد بالتأبيد بمنزله المطلق في أنه لا يقتضي الدوام عقلاً ولا عرفاً؛ لأن العقل قد دل على أن التكليف لا بد له من آخر، وأنه مشروط بالإمكان وزوال الموانع، وأن حكمه يتغير بتغير المصالح.
وأما العرف: فبما نعلم من أنه لا فرق عندهم بين قول القائل لعبده: لازم زيداً، وبين قوله: لازم زيداً أبداً، في أن الخطاب في الحالين جميعاً يفيد وجوب ملازمته ما دام الغرض مستمراً، ولهذا لو نهاه بعد ذلك لم يعد مناقضاً، كما قدمنا، ولهذا لو مات لم يجز ملازمته قولاً واحداً لما علم ارتفاع الغرض، ثبت بهذا أن اللفظ المقيد بالتأبيد واللفظ المطلق يجريان مجرى واحداً في أن كل واحدٍ منهما يوجب الملازمة ما دام الغرض باقياً، والخلاف في هذه المسألة ووجوب التبيين ونفيه، كالخلاف في المسألة الأولى؛ فالجواب عنهما واحد، وقد تقدم.
ولهذا فرق أصحابنا رحمهم الله تعالى بين الأمر والخبر بأنه يشترط في الأمر ما لا يشترط في الخبر، فقضوا بأن الخبر المقيد بالتأبيد يقتضي الدوام، ولهذا حملوا آيات الوعيد على الدوام، وقالوا: الأمر المقيد بالتأبيد لا يقتضي الدوام ما قدمنا.
مسألة:[الكلام في جواز النسخ إلى غير بدل، وجواز نسخ الأخف بالأشق]
يجوز نسخ الأشق بالأخف بلا خلاف، ويجوز عندنا نسخ الأخف بالأشق، والنسخ لا إلى بدل، وهو قول الجمهور.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز نسخ الفرض إلا بما هو أخف منه، ولا يجوز نسخه إلا إلى بدل يقوم مقامه، وحكاه شيخنا عن داود.
أما الذي يدل على أنه يجوز النسخ إلى غير بدل: فلأن التعبد إنما وقع للمصلحة فإذا علم الله سبحانه أن المصلحة في الفعل قد زالت لم يمتنع نسخه، وكذلك إذا علم أنه لا مصلحة في بدل يعقبه به لم يجز وروده.

وأما الذي يدل على جواز نسخ الأخف بالأشق: فلما علمنا من أن الشرائع مصالح، فمتى علم سبحانه أن المصلحة في ورود نسخ الأخف بالأشق وجب في الحكمة إيراده من قبله سبحانه، وقد ورد ذلك في مسألة الصيام؛ فإن الواجب كان صيام يوم واحد وهو عاشوراء، فنسخ بصيام شهر وهو أشق وهو شهر رمضان المعظم زاده الله شرفاً، وكذلك كان المكلف مخيراً بين الصيام والإطعام ثم حتم بعد ذلك الصيام وهو أشق، وذلك ظاهر في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فنفى التخيير الأول في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]، ولأنه يجوز ورود الأشق ابتداء ولا وجه لجوازه إلا تعلق المصلحة به، وكذلك إذا تعلقت المصلحة به بعد التعبد بالأخف.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الأخبار، والتفصيل في ذلك]
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ورود النسخ في الأخبار لا يجوز، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم وجماعة.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك يجوز، وحكاه عن الشيخ أبي عبدالله رحمه الله والقاضي وجماعة من الفقهاء.
وكان رحمه الله يفصل ويقول: إن كانت الأخبار مما يجوز تغير مخبراتها جاز ورود النسخ فيها، وإن كانت مما لا يجوز تغير مخبراتها كالإخبار بما يجب ثبوته لله سبحانه، ونفي ما يجب نفيه عنه، فإنه لا يجوز ورود النسخ فيما هذا حاله، ويحكى هذا التفصيل عن الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن النسخ إنما يرد للمصلحة كما تقدم، فإذا تغير المخبر عنه عن حالته الأولى التي تناولها الخبر الأول جاز أن تتعلق المصلحة بالمخبر عنه بما هو عليه في الحالة الثانية، فيقع كل واحد من الخبرين صدقاً.

ومثاله: كأن يكفر زيد مثلاً فيعلمنا الله سبحانه بكفره لتعلق المصلحة بالإعلام، ثم يؤمن بعد ذلك فيعلمنا الله سبحانه بإيمانه لتعلق المصلحة بالإعلام، ويكون كل واحد من هذين الخبرين صدقاً والآخرُ ناسخٌ للأول.
ولأن بعض ما أمرنا الله سبحانه بفعله ورد بلفظ الخبر كقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97]، ولا مانع من تجويز ورود النسخ على ما هذا حاله فتبين ما قلناه.
مسألة:[جواز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة، ونسخهما معاً]
عندنا يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة، ونسخهما معاً.
مثال الأول: ما روي أنه كان يتلى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله) فنسخت التلاوة دون الحكم.
ومثال الثاني: كثير التعداد من ذلك الإعتداد بالحول نسخ، والتلاوة باقية، والوصية للوالدين والأقربين.
ومثال الثالث: ما روي عن عائشة: ((عشر رضعات نسخن بخمس)) وغرضنا التمثيل لا القطع على صحة كون ذلك كما تقدم.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنهما عبادات مختلفات، وكل عبادتين مختلفتين يجوز نسخ أحدهما دون الأخرى، أما كونهما مختلفتين فذلك ظاهر، ولهذا تعبدنا بالتلاوة في حال دون حال، وبالحكم في حال دون حال، يوضحه أن المكلف الجنب تُعُبِّدَ بحكم الإغتسال لموجب لفظ الكتاب، ولم يتعبد بتلاوته، بل تعبد بتركه.
وأما أن كل عبادتين مختلفتين يجوز نسخ أحدهما دون الأخرى، فهو أظهر ولا خلاف فيه، فيحتج عليه.
مسألة:[الكلام في نسخ الشيء قبل وقت فعله]
لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله عندنا، وهو حكاية الشيخ رحمه الله تعالى عن أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وذهب جماعة منهم كالصيرفي وطبقته إلى أن ذلك جائز.
فالذي يدل على ذلك: أن نسخ الشيء قبل وقت فعله يؤدي إلى إضافة القبيح إلى الله سبحانه، وما أدى إلى ذلك قضي بفساده.

أما أنه يؤدي إلى إضافة القبيح إلى الله سبحانه وتعالى: فلأنه إذا أمر بالفعل لم يخل إما أن يكون المأمور به حسناً أو قبيحاً، فإن كان حسناً فالنهي الذي جوزوه عنه قبيح، وإن كان قبيحاً فالأمر به في الأول قبيح -تعالى الله عن ذلك-، وقد أدى إلى هذين القبيحين القول بجواز نسخ الشيء قبل وقت فعله، فيجب أن يكون باطلاً.
ولا يجوز أن يقال إنه سبحانه ظهر له من الأمر ما لم يظهر أولاً؛ لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فالأول والآخر عنده سواء على ما ذلك مقرر عنده من أصول الدين، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الزيادة هل تقتضي النسخ أم لا؟]
اختلفوا في الزيادة على النص هل تكون نسخاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنها تكون نسخاً إذا غيرت حال المزيد(1) في المستقبل، وإن لم تقتض ذلك لم تكن نسخاً، وهذا محكي عن الشيخ أبي عبدالله، وهو حكاه أبو عبدالله عن أبي الحسن، وهو ظاهر مذهب الحنفية.
مثال الأول: زيادة التغريب في الحد، وعشرين في حد القاذف، أنه يغير الحكم حتى من ضرب ثمانين قبلت شهادته، ومن ضرب مائة لم تقبل.
وقال بعضهم: إنه لا يوجب النسخ البتة، وهو مذهب أكثر الشافعية، وإليه ذهب الشيخان أبو علي وأبو هاشم.
قال القاضي: والذي يجب أن يحصل عندنا فيه أن الزيادة إن غيرت حال المزيد عليه حتى صار لا يجزي إذا وقع منفرداً حتى تنضم إليه الزيادة فإنها توجب النسخ، فأما الزيادة إذا صح المزيد عليه دونها -فإنما يجب أن تضم إليه الزيادة ومتى فعل دون الزيادة لم يجب الإستئناف، وإنما يجب فعلها- لم تكن نسخاً.
مثال الأول: لو زاد في الفجر ركعتين وصار الفرض أربعاً، فإنه نسخ؛ لأنه لو أدى ركعتين لم تجزه، ووجب الإستئناف.
ومثال الثاني: زيادة النفي، وعشرين في حد القاذف فإن الحد لا يتغير وإنما يجب فيه ضم الزيادة لا الإستئناف، بل إلحاق الزيادة به.
فهذا لا يجب فيه النسخ، وإلى هذا القول ذهب الحاكم.
__________
(1) ـ المزاد (نخ).

وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه يجب أن ينظر في هذه الزيادة، فإن اقتضت زوال حكم شرعي على الشرائط المذكورة في حدّ النسخ، فهي نسخ، وإن لم تقتض ذلك لم تكن نسخاً، وهذا الذي كان يعتمده رحمه الله تعالى.
ويحتج له: بأن الحد إذا دخله العكس والطرد دلا على صحته، فإذا أزالت الزيادة حكماً شرعياً على تلك الشرائط قُضِيَ بأنها نسخ وإلا فسد الحد الذي قضت الدلالة بصحته، وذلك لا يجوز، وأبطل ما قال الشيخ أبو عبدالله من أن الزيادة إذا غيرت حال المزيد عليه كانت نسخاً بأن حكم المزيد عليه قد يكون حكماً عقلياً فغير بالزيادة، ولا يكون نسخاً مع ذلك.
ويبطل ما ذهب إليه الشيخان أبو علي وأبو هاشم من أن الزيادة لا تكون نسخاً أصلاً، بأنها قد تقتضي زوال حكم شرعي على الشرائط في النسخ، فيكون نسخاً.
ويبطل ما ذكره القاضي من أن الزيادة إذا غيرت حال المزيد عليه في الإجزاء كانت نسخاً، وإن لم تغير حال المزيد عليه في الإجزاء لم تكن نسخاً، بأن الإجزاء حكم عقلي سواء كان المرجع به إلى الكفاية أو إلى سقوط القضاء، فلا يكون ما اقتضى زواله نسخاً.
ولأن الزيادة قد تقتضي زوال حكم شرعي على الشرائط المتقدمة فيكون نسخاً، وإن لم تغير حال المزيد عليه في الإجزاء كما ذكره القاضي في زيادة كفارة على الكفارات فإنه قضى بأن ذلك نسخ لاقتضائه زوال حكم شرعي، وإن لم يغير حال الكفارات الثلاث في الإجزاء فبان أنه لا عبرة بما ذكره الأول.

15 / 41
ع
En
A+
A-