ومنهم من ذهب إلى أنه ليس بمجمل وأنه يصح التعلق بظاهره وهو المروي عن جماعة من الحنفية وأكثر الشافعية، وعن الشيخين أبي علي وأبي هاشم والقاضي، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته، وجهان:
أحدهما: إجماع الصحابة على الإحتجاج بما هذا حاله، فلو كان مجملاً لما صح الإستدلال به.
والثاني: أن ما هذا حاله يفيد في العرف التحليل والتحريم، وقد بينا أن الحكم للعرف؛ لأنه ناقل، وذلك ظاهر؛ لأنه إذا قال: أحللت لك هذا الطعام فإن العرف يقضي بإباحة أكله، وكذلك إذا قال: حرمت عليك هذا، قضى بتحريم أكله، وإذا قال: حرمت عليك هذا الشراب أفاد تحريم شربه، وكذلك تحليله، والأمر وغيره في ذلك سواء، كذلك إذا قال هذه الإمرأة محرمة عليك أفاد ما هو المفهوم في العرف من النكاح وما يتبعه من الإستمتاع، وكذلك إذا قال هذه الدار محرمة عليك، أفاد من قبل العرف تحريم السكنى وتوابعه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26].
وقولهم: إن التحريم إذا تعلق بالعين لم يجز حمله على العين لوجهين:
أحدهما: أن العين موجودة والأمر بالموجود لا يصح.
وثانيهما: أنها من أفعال الله سبحانه وهو لا يتعلق بمقدورنا ولا يجوز حمله على الأحكام؛ لأنها كثيرة وغير مذكورة في ظاهره، فليس بعضها أولى من البعض، ولا يصح الحمل على جميعها؛ لأنه شرط لا لفظ في الظاهر يشمله، وقد أتى على هذا القول ما قدمناه فلا وجه لإعادته.

مسألة:[الكلام في حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))؛ ونحوه هل هو مجمل أم ليس بمجمل؟]
اختلف أهل العلم في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((الأعمال بالنيات(1))) وما جرى مجراه مما يقع على الموجودات.
فمنهم من قال: إنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره، وهو قول جماعة من الحنفية والشافعية سوى المحكي عن أبي بكر الرازي(2)، وهو المروي عن أبي الحسين ونصره الشيخ أبو عبدالله.
ومنهم من ذهب إلى أن له ظاهراً يصح التعلق به فيخرج عن باب الإجمال، وهو المروي عن بعض الشافعية، وحكاه شيخنا رحمه الله عن آبائنا عَلَيْهم السَّلام، وهو ظاهر المذهب.
__________
(1) ـ رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري في بدء الوحي (1/15) رقم (1)، ومسلم في الأمارة (3/1515) رقم (1907)، وأبو داود (2/262) رقم (2210)، والترمذي (4/179) رقم (1647)، والنسائي (1/58) رقم (75)، وابن ماجه (2/1413) رقم (4227)، وأحمد (1/25) رقم (168)، والطبراني في الأوسط (1/22) رقم (40)، و(5/196) رقم (7050)، وفي مسند الشهاب (1/35) رقم (1)، والجامع الصحيح المختصر (1/3) رقم (1)، وسنن البيهقي الكبرى (1/41) رقم (181)، وصحيح ابن حبان (2/113) رقم (388)، وصحيح ابن خزيمة (1/73) رقم (142).
(2) ـ أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الحنفي، ذكره الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي ممن يقول بالعدل والتوحيد، وقال فيه: (لم يكن قبله ولا بعده في الفقهاء مثله ورعاً وتصنيفاً وزهداً، وحمل على أن يتولى القضاء فأبى ذلك أشد الإباء، وتُهُدِّد فأبى، وله كتب كثيرة، وشرح كتب محمد بن الحسن، وكتاب الطحاوي في اختلاف الفقهاء، والمختصر، وشرح كتاب أبي الحسن، وكان يأمر غيره يكتب كتب الفقه، ويكتب كتب الكلام بخطه، ويقول: أتقرب إلى الله بذلك) انتهى. توفي سنة (370هـ).

والذي يدل على صحته: أن حمله على أن الفعل لا يوجد إلا بوجود النية لا يصح؛ لأن المعلوم من طريق العرف خلافه، فعلمنا بهذا أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يريده، وبقيت أحكامه، وهي تنقسم إلى ما يعلم بدلالة العقل، وإلى ما يعلم بدلالة الشرع؛ فما يعلم بدلالة العقل هي أحكام الآخرة من استحقاق الثواب وتوابعه، وأحكام الدنيا الإجزاء وما جرى مجراه، فإذاً المراد به نفي الإجزاء؛ لأن الدليل قد دل على أنه لا يحمل على غيره، وإن كان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أنه إذا احتمل جميع الأحكام وتجرد عن القرائن كان تجرده قرينة توجب حمله على الجميع إلا أنا سلكنا مسلك التفصيل لنخرج من شغب المخالفة وتطويل الكلام بما يرد على الأول من الإعتراضات.
ويلحق بهذه المسألة قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(1))) والكلام فيهما واحد، فلا وجه لإفراده بالذكر وما ورد من هذا القبيل كان الكلام فيه على هذا النحو فاعلم ذلك.
مسألة:[الكلام في العمومين إذا تعارضا]
لا يجوز تعارض العمومين فيما يجب المصير فيه إلى العلم عند الجمهور؛ فأما في الإجتهاديات فيجوز ويرجع إلى القرينة والترجيح، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز ورودهما على حد لا يظهر بينهما ترجيح أم لا؟ على ما يأتي بيانه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى.
فمن جوّز ورودهما على وجه لا يظهر بينهما ترجيح اختلفوا؛
فمنهم من قال: يطرحان ويلغى حكمهما، وحكى شيخنا رحمه الله اختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام وجماعة الفقهاء.
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في الخلع والطلاق (7/584) رقم (15094)، والدارقطني في سننه (4/170) رقم (33) والحاكم في مستدركه (2/198)، وابن حبان (16/202) رقم (7219)، والطبراني في الكبير (11/133) رقم (11274) والأوسط (1/581) رقم (2137)، والصغير (2/52) رقم (765)، وابن ماجه (1/659) رقم (2043).

ومنهم من قال: يكون المكلف مخيراً في العمل بأيهما شاء، وهو قول قاضي القضاة، ومن طابقه وعمدتهم أن العمل بالأخبار واجب ما أمكن، فإذا لم يمكن العمل إلا على وجه التخيير وجب التخيير لأن لا يلغى كلام الحكيم سبحانه مع إمكان استعماله، وهذا القول لا يستقيم على ما نختاره.
وقد كان شيخنا رحمه الله صرح به على وجه الإعتراض، فالواجب عندنا فيهما إذا وردا على وجه لا يظهر بينهما ترجيح أن يطرحا ويلغى حكمهما.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أنهما إذا تعارضا واستويا، ولم يظهر الترجيح، ينسخ حكمهما مهما شك مطلقاً ولم يغلب الظن على واحد منهما لاستوائهما، ولا غلب الظن على صحة مجموعهما لتعارضهما وتنافيهما، ومبتنى العمل في باب الإخبار على غالب الظن على ما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، والعمل على الشك لا يجوز، فإذا قدر الإستواء وعدم الترجيح على هذا الحد كان الواجب عندنا إطراحهما والرجوع إلى غيرهما.
مسألة:[الكلام في أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ...إلخ}؛ خارج عن باب المجمل]
ذهب الأكثر من أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، خارج عن باب المجمل وأنه يصح التعلق بظاهره.
وذهب بعض الشافعية إلى أنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره، قالوا: لأن لفظ اليد يشتمل على العضو المخصوص إلى الزند والمرفق وإلى الابط، وليس حمله على بعضها دون البعض بأولى من البعض الآخر الذي لم يحمل عليه.
ومذهبنا هو الأول.

والذي يدل على صحته: أن لفظ اليد يفيد على وجه الحقيقة الجارحة المخصوصة من أطراف الأنامل إلى الإبط، ولهذا لما ورد فرض التيمم على الصحابة رضي الله عنهم مسح بعضهم الأيدي إلى الآباط حتى أخبرهم النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه مخصوص، وليس إذا ورد تخصيص في العموم يلحق بباب المجمل، ولأن القائل إذا قال: غوصت يدي في الماء فإن ظاهره يقتضي عموم الجارحة إلى الإبط، وقد كان الواجب في قوله تعالى: {اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، حمله على القطع من الإبط -وقد قال بعضهم(1)- لولا ورود السنة بقطع السارق من الزند والتيمم إلى المرفق.
مسألة:[الكلام في أن العام إذا ورد عقيبه استثناء أو شرط لا يجب قصره على ما تعلَّقا به]
إذا ورد عام وورد عقيبه استثناء أو شرط يوجبان تعلقه ببعض ما تقدم؛ فعندنا لا يجب قصره على ما تعلق به الإستثناء والشرط، وعند الشافعية يقصر.
مثاله قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236]، ثم قال في آخره: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237]، فتناول هذا الإستثناء من يملك العفو منهم، فعندهم أن الخطاب يقصر على من يملك العفو دون من تقدم ذكره. وعندنا هو عام في جميع المطلقات.
والذي يدل على صحة ما قلناه: ما تقدم من أن التخصيص إنما يجب إذا وقع التنافي فإذا لم يقع تنافٍ لم يجب تخصيص ولا تنافي فيما ذكروه، فوجب إجراء الحكم المفهوم من ظاهر الخطاب على جميع المطلقات، وحكم العفو على من يملكه دون غيره، فلو قصرناه لكنا قد ألغينا كلام الحكيم مع إمكان استعماله وذلك لا يجوز.
__________
(1) ـ أي وقد قال بالقطع من الإبط بعضهم.

مسألة:[الكلام في المعلوم بفحوى الخطاب هل يفتقر في معرفته إلى غير الظاهر أم لا؟]
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعلوم بفحوى الخطاب لا يفتقر في معرفته إلى غير الظاهر، وهو الذي نختاره.
ومن الفقهاء من ذهب إلى أن المستفاد من اللفظ هو المذكور فقط، وأن ما عداه إنما يلحق به بضرب من الإستدلال، وهذا يخص مذهب الظاهرية(1).
ومثال المسألة: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، فعندنا أن هذا اللفظ يوجب نفي جميع الأذى بظاهره، وعندهم يوجب نفي هذا القول دون غيره.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن عرف العرب جارٍ في مخاطبتها في النفي والإثبات بما هذا حاله جرياً ظاهراً لا يحتاج إلى برهان، ولهذا فإنا نعلم أن القائل منهم إذا قال: فلان لا يؤمن على حبة خردل، علمنا من ظاهر هذا الخطاب نفي أمانته في جميع ما زاد على أبلغ الوجوه، وهكذا إذا قال: فلان مؤتمن على قنطار، علمنا وجوب الأمانة على ما دونه بظاهر هذه اللفظة، وكان أبلغ عندهم من قوله: فلان أمين، ولا ينكر ما هذا حاله إلا مكابر، فصح ما قلناه.
الكلام في الناسخ والمنسوخ
مسألة:[الكلام في لفظ النسخ هل هو باق على أصل اللغة أم منقول إلى الشرع؟]
اختلف أهل العلم في لفظ النسخ هل هو باق على أصل اللغة، أم منقول إلى الشرع؟ فمنهم من ذهب إلى أنه باق لم ينقل.
ومنهم من ذهب إلى أنه ورد مشبهاً بوضع اللغة، وحكاه شيخنا رحمه الله عن أبي هاشم، وأبي الحسين البصري.
وذكر الشيخ أبو عبدالله أنه لفظ منقول من اللغة إلى الشرع، وهو مذهب القاضي والحاكم، وهو الذي نختاره.
وكان شيخنا رحمه الله يرجح قول الشيخين أبي هاشم وأبي الحسين ويعتمده، ويحتج له بأن النسخ في الشريعة يفيد إزالة مخصوصة، فلم يخرج عما وضع له في الأصل، ولا هو باقٍ عليه؛ لأنه لا يكون نسخاً إلا بشرائط يعتبرها أهل اللغة.
__________
(1) ـ الظاهرية أتباع داود الظاهري وهم الذين يعتمدون على ظواهر النصوص.

والذي يدل على صحة ما قلناه: أن لفظ النسخ إذا ورد لم يسبق إلى فهمنا ما كان موضوعاً له في أصل اللغة من الإزالة في قولهم: نسخت الرياح آثار بني فلان، ولا النقل في قولهم: نسخت هذا الكتاب من اللوح إلى القرطاس، فإذا ثبت ذلك وثبت أنه لا يفهم من ظاهره ما كان موضوعاً له في الأصل علمنا أنه منقول إلى الشرع، وجرى مجرى لفظ الصلاة والزكاة والحج والصيام، وقد ثبت عند من خالف في هذه المسألة أن هذه الألفاظ منقولة إلى الشرع، وأنها لا تفيد على وجه الحقيقة ما كانت وضعت له في الأصل فيبطل قول من قال إنه باق لم ينقل.
وأما قول من قال إنه مشبه بوضع اللغة: فلا ينكر ذلك، ولكنه بذلك لا يخرج عن كونه منقولاً، ألا ترى أن لفظ الصيام في الأصل يفيد الإمساك عن الحركة والكلام، وما نافاهما، وهو في الشريعة يفيد الإمساك عن الطعام والشراب وما شاكلهما في وقت مخصوص، ومشابهته لما وضع له في الأصل والحال هذه أبلغ من مشابهة لفظ النسخ في الشريعة لما كان موضوعاً له في الأصل؛ فإذا وجب نقل اللفظ في الصيام إلى الشرع، فنقل لفظ النسخ إلى الشرع أولى؛ لأن المعنى فيه أغمض وأبعد من الشبه، وكذلك الكلام في الحج لأنه كان يفيد القصد على كل حال، فأفاد في الشرع قصداً مخصوصاً، فكما وجب كونه منقولاً إلى الشرع والحال هذه، وإن كان مشبهاً لما كان موضوعاً له في الأصل، فلفظ النسخ بذلك أولى.
فأما مشابهته لما كان موضوعاً له في الأصل فلا ننكره، ولكن لا يخرجه ذلك عن كونه منقولاً إلى الشرع كما تقدم، فإذا قد تقررت هذه الجملة صح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في معنى النسخ في أصل اللغة]
اختلف أهل العلم في معنى النسخ في أصل اللغة؛
فقال الشيخ أبو هاشم: هو الإزالة.
وقال بعضهم: هو النقل.
وقال القاضي: أولاً إنه النقل والإزالة ثم رجع إلى قول أبي هاشم.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أنه حقيقة في اللفظين جميعاً عند أهل اللغة.

والذي عندنا في ذلك: أنه لا فرق بين النقل والإزالة في الأصل، ولهذا لا يصح أن تقول: أزلت هذا العود وما نقلته، ولا تقول: نقلته وما أزلته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول: أزلته وما أزلته، وقد تقرر عند الجميع أن كل لفظين يثبت بأحدهما ما يثبت بالآخر، وينتفي به ما ينتفي بالآخر، فإن معناهما واحد كالجلوس والقعود، فلا فرق عند أهل اللغة على هذا بين النقل والإزالة.
وأما النسخ فلا يطرد عندهم في كل مُزَال، ولا يطرد في كل منقول، ومن حق الحقائق صحة الإطراد، فإذاً النسخ عندهم إزالة مخصوصة ونقل مخصوص، ومعناهما واحد، بدليل أنهم يعقلون من قول قائلهم: نسخت الرياح آثار بني فلان، ما يعقلون من قوله: نقلت آثارهم، ويعقلون من قوله: نسخت هذا الكتاب من هذا اللوح إلى هذا القرطاس، ما يعقلون من قوله: أزلت هذا الكتاب من هذا اللوح إلى هذا القرطاس.
مسألة:[الكلام في معنى النسخ في الشريعة]
اختلف أهل العلم في معنى النسخ في الشريعة.
فقال بعضهم: هو زوال الحكم بعد استقراره، وهذا فاسد؛ لأن الاستقرار لا يكون إلا بالفعل، والإرادة، فما استقر بالفعل استحالت إزالته لوقوعه، وما استقر بالإرادة استحالت إزالته لكونها تدل على البَدَا الذي لا يجوز على الحكيم سبحانه.
وقال بعضهم: هو إزالة مثل الحكم بعد استقراره، وهذا باطل أيضاً؛ لأن مثل الحكم يزول ببلوغ الغاية، وزوال الشرط وحصول العجز، ولا يكون نسخاً عند الجميع.
وقال بعضهم: هو نقل الحكم إلى خلافه، وهذا بعيد؛ لأن نفس الحكم لا يجوز أن ينقل عرفاً؛ لأنه يدل على البدا ولا حقيقة، لأن ذلك محال.
وقال بعضهم: هو بيان مدة الحكم، وهذا ينقض بالتوقيت والغاية والشرط.
وقال الجرجاني وجماعة: هو بيان مدة الحكم الذي في التقدير والوهم جواز بقائه، وهذا بعيد من وجوه:
منها: أن الله تعالى لو تعبدنا بفعل وأخبرنا أنه ينسخه عنا بعد مدة لما توهمنا بقاه.

ومنها: أن العبد لو لم يحصل له هذا الوهم، ولم يخطر بباله هل سيستقر أم لا؟ لم يتغير حكم النسخ.
ومنها: أنا لو جوزنا معصيته في اعتقاد بقاء الحكم حتى لا يتوهم استقراره أو زواله لصح النسخ مع ذلك.
وقال بعضهم: هو إزالة مثل الحكم الثابت بالنص.
والدليل الموصوف بأنه ناسخ: هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالمنسوخ -وهو النص الأول- غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه، والمنسوخ هو النص الأول، وهذا الحد يحكى عن أبي علي وأبي هاشم، وإن كان هذَّبَهُ القاضي، وهو اختيار الحاكم.
وهذا الحد أيضاً ينتقض بزوال التكاليف الشرعية بالعجز والموت وزوال الشرط من العقل وغيره؛ لأن زوال التكليف عنا بهذه الوجوه يدخل تحت الحد لأنه أزال مثل الحكم الثابت عنا بالنص المتقدم الذي نفى المنسوخ بالدليل العقلي مع التراخي، ولولا زوال الشرط مثلاً كان الحكم باقياً، ومع ذلك لا نسمي هذا نسخاً لوجهين:
أحدهما: أن زوال التكليف عنا بما ذكرنا لا يسمى نسخاً لا لغة ولا شرعاً.
والثاني: أنا علمنا زواله بدلالة العقل، ومن حق الناسخ أن يكون شرعياً عند الكافة، ولأن مثل الحكم قد ثبت بغير النص، ويصح نسخه فيخرج أيضاً من هذا.
وعندنا أن النسخ هو إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه.
والدليل على صحة هذا الحد: أنه يكشف عن معنى النسخ على جهة المطابقة ويحصر معناه، ويجري عليه الطرد والعكس، وهما أمارة لصحة الحد.
والناسخ: هو الطريق الشرعي الموجب ثبوت الحكم على المكلف به ما لم يرد عليه النسخ.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري في حد النسخ: أنه إزالة مثل الحكم الثابت بقول وارد من الله سبحانه وتعالى، أو بقول أو فعل منقولين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، مع تراخي ذلك عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً بأحد الأدلة المتقدمة أو مجموعها.

والدليل الموصوف بأنه ناسخ: هو القول الوارد من الله سبحانه أو من رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو فعل رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المقتضي لإزالة مثل الحكم الثابت بقول وارد من الله سبحانه أو من رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أو فعل منقول عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً لأجله.
والمنسوخ: ما ثبت بهذه الأدلة على هذه الشروط، وقد يقال في القول أو الفعل اللذين أزيل حكمهما ببعض هذه الأدلة على هذه الشروط إنهما منسوخان، وذكر شيخنا رحمه الله أن الحدّ لا يصح لأنه يخرج منه ما هو منه، وبذلك نعلم انتقاض الحدود؛ لأن إزالة مثل الحكم الشرعي بدلالة شرعية قد يسمى نسخاً، وإن لم يكن الحكم المزال، والدليل المزيل ثابتين بقول وارد من الله سبحانه أو بقول وفعل منقولين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، بأن يكونا ثابتين بالتقرير أو الإجماع أو يكون أحدهما ثابتاً ببعض هذه الأدلة.
وذكر رحمه الله تعالى أن هذه الطريقة تبطل الحد المحكي عن أبي هاشم، ومن طابقه؛ لأنهم قصدوا ثبوت الحكم بالنص وبنوا عليه الكلام ولم يذكروا ما ثبت بالتقرير والقياس والإجماع، فخرج عن الحد ما هو منه فبطل.
فإن قيل: إنما قصرنا النسخ على ما يكون ثابتاً بالنص، أو بقول الله سبحانه وتعالى، أو قول رسوله عليه وآله السلام، أو فعله؛ لأن ما عدا ذلك لا يجوز نسخه، ولا النسخ به، فإن القياس والإجماع لا يجوز نسخهما ولا النسخ بهما.
قلنا: إن كلامنا ليس في حد النسخ الحسن أو الجائز، وإنما هو في حد النسخ على الإطلاق وليس كل ما كان شرطاً في جواز الشيء أو حسنه يجب أن يذكر في حده، وإنما يذكر في الحد ما به يتميز المحدود عن غيره؛ لأن الغرض بالحد هو الكشف والإبانة عن معنى المحدود فقط من غير زيادة ولا نقصان.

14 / 41
ع
En
A+
A-