فأما الشرع: فدلالته في هذا الباب مبنية على علم المصالح، ولا سبيل له إلى العلم بذلك إلا من قبل الله سبحانه، ونعلم ذلك من الخطاب، فإن وجد فلا مانع من جواز التأخير للدليل، ولأنه قد ظهر من أمره صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ما يدل على أن الشرع لم يرد بالتأخير، وهو أنه عَلَيْه السَّلام كان يفزع لأمر الله سبحانه، ولأنه بعد تأدية الرسالة لا يأمن الموت، وكان ذلك الظاهر من أمره، ولا ندري على أي وجه يقع لأن هذا مما استأثر الله بعلمه ونطق به كتابه في قوله سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 24]، فكان لا يأمن أن يؤجل التبليغ فيقع عليه بعض ما يجوز وقوعه قبل التبليغ من موت أو قتل، فيكون قد أخل بالواجب، ولا يبنى عندنا أمره في ذلك على خلاف أهل الفور والتراخي، فإنهم وإن اختلفوا في ذلك، فقد صح لهم بالأدلة الشرعية أن المصلحة متعلقة بالأمرين جميعاً، وأن كل واحد منهما صواب ممن أداه اجتهاده إليه إذا وفَّى الإجتهاد حقه وجمع شروطه.
مسألة:[الكلام في تأخير البيان عن وقت الخطاب]
لا خلاف أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا خلاف أن تأخير التبيين يقع؛ لأنه يجوز أن يخطي المكلف فلا يتبين.
ثم اختلفوا في تأخير البيان عن وقت الخطاب.
فمنهم من منع من جواز التأخير في المجمل والعموم والأمر والخبر عن وقت الخطاب، وهو الذي حكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم والقاضي والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وأصحاب الظاهر.
ومنهم من قال يجوز تأخيره في المجمل والعموم إلى وقت الحاجة وهو قول جماعة من الحنفية والشافعية واختاره المرتضى الموسوي(1)
__________
(1) ـ المرتضى الموسوي هو: علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أبو القاسم الملقب بالشريف المرتضى.
كانت ولادته سنة (353هـ) وكان عالماً متكلماً فقيهاً، متقدماً في فقه الإمامية، وكان فصيحاً أديباً لغوياً شاعراً، وكان إمامياً ناصراً لأقوال الإمامية معدوداً في رجالهم، تولى النقابة وديوان المظالم بعد أخيه الشريف الرضي جامع نهج البلاغة رحمة الله عليه، وكان مدة ولايته ثلاثين سنة وأشهراً، واشتملت خزائنه على مائتي ألف كتاب، وله مؤلفات كثيرة في الفقه والآداب والكلام من أشهرها كتاب القلائد وغرر الفوائد، وكتاب أمالي المرتضى وغيرها. وتوفي في شهر ربيع سنة (436هـ).
ومنهم من قال يجوز تأخير بيان المجمل، وامتنع من جواز تأخير العموم وسائر ما يصح معرفة المراد بظاهره على التفصيل، وحكاه عن الشيخ أبي الحسن وجماعة من الشافعية، وحكي أنه مذهب الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان رحمه الله يختاره.
ومنهم من منع من تأخير البيان في الأخبار وجوزه في الأوامر.
وعندنا أن تأخير البيان لا يجوز إلا بشرطين:
أحدهما: أن ينبه الله سبحانه المكلفَ على أنه يبين له وقت الحاجة.
والثاني: أن يكون الفعل الواجب الخطاب من قبيل التراخي، وسواء كان ذلك في العموم أو المجمل أو الأمر أو الخبر.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بالخطاب بالعام، ويكون المراد به الخاص، ويؤخر الثاني لمصلحة أخرى، وقول من يقول إنه يؤدي إلى إغراء المكلف باعتقاد الجهل لا يصح؛ لأنه إذا علم بالتنبيه(1) أن العام لا بد من خصوصه جوز الممكن، فلم يحمله على العموم.
ومثاله: قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الرقة ربع العشر)) ثم يقول مثلاً:ـ ولا يدريكم ما أخرج ـ من الرقة بعضاً لا يجب فيه الزكاة فإنه يلزمهم أن يعتقدوا وجوب الزكاة في الرقة على سبيل الجملة، إلا فيما أخرجه الدليل، وينتظرون الدليل، ولا يلزمهم الإخراج إلا إذا وقع البيان.
فأما في المجمل فالأمر أظهر؛ لأنه لا يمتنع أن يمنع الله سبحانه تعلق المصلحة في إيهام الخطاب، ولهذا فعله سبحانه وتعالى، ويكون الواجب على المكلف امتثال مقتضاه عند وقوع البيان، ولا يتعبد بما هذا حاله إلا وهو متمكن -عند الحاجة، وتضيق وقته- من بيانه.
__________
(1) ـ التنبيه: الإشعار، وهو أن يقول المتكلم بالعام: اعلموا أنه مخصوص وما يبينه لهم، أو جوزوا خصوصه حتى أبينه. تمت من حاشية على الأصل.
ومثاله: كما قال سبحانه: {وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وإن كان المروي عن جدنا عبدالله بن الحسين(1)
__________
(1) ـ عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمْر بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن علي أمير المؤمنين بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، صنو الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام-، يكنى أبا محمد وأبا الحسين، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي ج2/ 134: ولا يعرف في جميع أنساب الطالبيين وفي مشجراتها وشعرها وكتبها وجرائدها إلا بالعالم ولا يوجد ذلك لغيره، وكفى بذلك شاهداً بفضله، وكذلك رأيناه في الكتب الخارجة من خزانة صاحب بغداد وفيما كان من مصر وغيرهما من الأقطار، وله كتاب الناسخ والمنسوخ، لا يوجد في كتب الناسخ والمنسوخ مثله، وأصوله في العدل والتوحيد معلومة في تصانيفه، ومما استدلت به الزيدية المهدية على إمامة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- تسليم أخيه عبدالله بن الحسين العالم الأمر واعتقاده إمامته، وجهاده بين يديه، انتهى.
وكان مستجمعاً لخصال العلم والفضل مقدماً في أهل البيت، بطلاً شجاعاً، قاد كثيراً من المعارك ضد القرامطة وله المقامات المشهودة في الجهاد، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- بصعدة بعد الثلاثمائة وقبره بالمشهد اليحيوي، وهو جد الأشراف الحمزيين كلهم ينتسبون إليه، وعمر عليه القبة الأمير ياسين بن إدريس الحمزي.
عَلَيْه السَّلام أن هذه الآية من باب المنسوخ(1)، وليست من باب المجمل، وأن فرض الزكاة نسخها، ولكن أوردها شيخنا رحمه الله في التمثيل فأحببنا اقتفاء أثره، فكان الواجب عليهم على هذا أن يعتقدوا في المال وجوبَ حقٍ كميته موقوفة على الدلالة الشرعية، فلا يؤدي إلى الإغراء باعتقاد الجهل فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في سماع العموم قبل معرفة الخصوص؛ هل يجوز أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الشيخ أبا علي ذهب إلى أنه لا يجوز أن يَسمعَ المكلفُ العامَ المخصوص بدليل سمعي إلا أن يسمع معه الخاص، وحكاه عن أبي هاشم أولاً.
__________
(1) ـ قال العالم عبدالله بن الحسين -عَلَيْه السَّلام- في كتاب الناسخ والمنسوخ من القرآن في سياق ما نسخ من الآيات المتعلقة بالزكاة قال: واختلفوا أيضاً في الآية التي في الأنعام، وهو قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فزعم قوم أنه حق أوجبه الله في أموال العباد وفرض عليهم إطعام المساكين منه يوم حصاده، وذلك أنه حق لازم، وزعم آخرون أن هذه الآية منسوخة، ولا أدري ما هذه الرواية، ورووا ذلك عن أبي جعفر وابن عباس وغيرهما.
وقال آخرون: إنها آية محكمة، وأن الحق الذي ذكره الله في هذا الموضع هو الزكاة المفروضة وهذا قولنا وبه نأخذ، انتهى من كتاب الناسخ والمنسوخ (مخطوط).
قال: وقال النظام(1): يجوز ويلزمه طلب الخاص والبحث عنه وهو قول أبي هاشم آخراً واختيار القاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أنه لا خلاف في أنه يجوز أن يسمع المكلف العام المخصوص بدليل العقل، وإن لم يسمع ما خصه، وإنما جاز ذلك لكونه متمكناً من معرفة خاصه بالإستدلال، والعام المخصوص بدلالة السمع جارٍ مجراه؛ لأن كل واحد منهما لفظ خوطب به المكلف على وجه يقتضي الشمول، وأن المكلف كما يتمكن [من معرفة المخصص العقلي بالعقل والنظر يتمكن(2)] من معرفة المخصص السمعي بالبحث والسؤال ولأنه قد وقع، والوقوع فرع على الجواز وذلك في قوله سبحانه: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، فسمعه الكل من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وغيرهم، وروى تخصيص قتل المجوس عبد الرحمن دون غيره إلى غير ذلك، ولا يكون ذلك إغراء بالجهل؛ لأنه إذا قصر في النظر في المخصوص العقلي والبحث في المخصوص الشرعي، كان قد أتي في ذلك من جهة نفسه، لا من قبل غيره.
وفصل شيخنا رحمه الله بين هذه المسألة وبين الأولى في أنه يكون في الأولى مغرى باعتقاد الجهل، وفي هذه غير مغرى بأن البيان قد وقع وإن لم يسمعه.
__________
(1) ـ إبراهيم بن سيار النظام البصري المعتزلي أبو إسحاق، من الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة قيل هو مولى، وروي أنه كان لا يكتب ولا يقرأ، وقد حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا، وسمي نظاماً قيل: لأنه كان ينظم الخرز، وقيل: لأنه ينظم الكلام؛ توفي في بضع وعشرين ومائتين، ومن تلامذته الجاحظ وكان يقول: ما رأيت أحداً أعلم بالفقه والكلام من النظام.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة لا يتم الكلام بدونها رمز لها في هامش النسخة (بالظن)، تمت.
وعندنا أنه لا فصل بينهما؛ لأنه وإن لم يقع فقد وقع ما يجري مجراه، وهو التنبيه على جواز تخصيص الخطاب، فجريا مجرى واحداً.
مسألة:[الكلام في تعليق الحكم بصفة؛ هل يدل على أن ماعداه بخلافه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في تعليق الحكم بصفة، هل يدل على أن ما عداه بخلافه أم لا؟
فالمحكي عن الشافعي وأصحابه غير أبي العباس بن سُريج(1) وأبي بكر القفال(2) ومن طابقهما منهم أن ما عداه بخلافه.
ومنهم من يذهب إلى أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على أنما عداه بخلافه؛ بل يدل على أنه مقصود بالخطاب، وما عداه موقوف عنه، وهو مذهب الجمهور من أصحاب أبي حنيفة؛ وحكاه أبو عبدالله عن أبي الحسن، ومشائخنا المتكلمون يذهبون إليه.
وعندنا الصفة التي علق بها الحكم لا تخلو: إما أن تكون بياناً أو جارية مجرى البيان، أو تكون خارجة عن ذلك، فإن لم تكن بياناً ولا جارية مجرى البيان، فإنها لا تدل على أن ما عدا الصفة بخلافها، وذلك مثل قول القائل: اعط زيداً درهماً؛ فإنه لا يدل على أن زيداً الماشي لا يعطى، بل إذا قال: واعط زيداً الماشي درهماً كان الكلام متسقاً غير متناقض، ولأن تعليقه بالصفة جارٍ مجرى تعليقه بالاسم، وتعليقه بالاسم لا يدل على أن ما عداه بخلافه، فكذلك تعليقه بالصفة؛ لأنه إذا قال اعط زيداً لم يدل على ألا يعطي عمراً.
__________
(1) ـ أبو العباس بن سريج، اسمه: أحمد بن عمرو بن سريج، كان من عظماء أصحاب الشافعي، وكان كثير الاختلاف إلى الشيخ أبي الحسين الخياط وأخذ عنه. توفي سنة (306هـ).
(2) ـ أبو بكر القفال هو: محمد بن علي بن إسماعيل الشاسي أخذ عن ابن سريج، وهو أول من صنف في الجدل بين الفقهاء، ومنه انتشر فقه الشافعي من وراء النهر، مات سنة (336) ست وثلاثين وثلاثمائة. انظر: المنية والأمل.
وأما الصفة: فهو مثل قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الإبل السائمة شاة)) بياناً لقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمس من الإبل شاة))؛ فإن هذه الصفة تدل على أن ما عدا السائمة بخلافها؛ لأنه قال في الأول: ((في خمس من الإبل شاة))، فلو لم يكن الحكم مقصوراً على السائمة لم يكن لتخصيصه بهذه الصفة فائدة، وكلامه عَلَيْه السَّلام محروس عن هذا.
وما يجري مجرى البيان: ينقسم إلى ما يتعين فيه المأمور به، وإلى مالا يتعين.
فالذي يتعين فيه المأمور به يجب قصره على من وجدت فيه الصفة دون غيره، كأن يقول: اعط زيداً الطويل هذا الدرهم، فإنه إذا قال اعط زيداً القصير هذا الدرهم الذي أمر أن يعطيه الطويل عد غالطاً أو نادماً، وذلك لا يجوز وقوع مثله في كلامه سبحانه وتعالى وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
والذي لا يتعين: مثل قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((إذا اختلف البيّعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا(1))) وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرى القول في هذه المسألة إلى ما يوفقه الله من نتيجة النظر، ومضى إلى رحمة الله سبحانه ولم أعلم ما حصَّل في ذلك.
مسألة:[الكلام في الحكم إذا كان بياناً لمجمل هل يدل على أن ماعداه بخلافه أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي عبدالله أن الحكم إذا كان بياناً لمجمل دل على أن ما عداه بخلافه، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن.
وحكي عن أبي هاشم والقاضي أنه لا يدل.
ومثال المسألة: قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمسٍ من الإبل شاة))، ثم قال: ((في خمس من الإبل السائمة شاة))، وقد بينا اختيارنا فيما هذا حاله في المسألة الأولى بما فيه كفاية.
__________
(1) ـ أخرجه أحمد في مسنده(1/466) رقم (4447)، والترمذي في سننه(3/570) رقم (1270)، والدارمي في سننه(2/325) رقم (2549) والدارقطني في سننه(3/18) رقم (60) بألفاظ متقاربة.
وكان رحمه الله تعالى ربما نصر القول الأول، وربما نصر الثاني، فكان يحتج للقول الآخر بأن الخطاب إذا وقع بياناً جرى مجرى الخطاب المبتدأ، فكما لا يجب في الخطاب المبتدأ لا يجب فيه إذا كان بياناً لمجمل، وهذا القول يعترض بأنه لا يجري مجرى الخطاب المبتدأ، ولهذا شرط فيه ما لم يشرط في المبتدأ، ووقع على وجه مخالف للخطاب المبتدأ، فمن أين يجري مجراه؟
وكان يحتج للأول بما ثبت أن المطلق والمقيد إذا وردا في حكم واحد أن المطلق يخص بالمقيد بالإجماع، وسواء كان متصلاً أو منفصلا ً، فلولا أن تقييد الحكم بالصفة يدل على أنما عداه بخلافه لما جاز تقييد المطلق به؛ لأنه ليس بينهما تنافٍ فيحتاج إلى حمل أحدهما على الآخر بطريقة التخصيص، ولم يقطع رحمه الله تعالى على أحد القولين بل أحال مذهبه على النظر، على ما قدمنا.
مسألة:[الكلام في الحكم إذا كان معلقاً بشرط؛ هل يدل على أن ما عداه بخلافه أم لا؟]
فأما إذا كانت الصفة شرطاً؛ فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وجماعة الفقهاء، والشيخ أبي الحسين البصري أن ذلك يدل على أن ما عداه بخلافه.
وحكى عن أبي علي وأبي هاشم والقاضي وجماعة من العلماء أنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه كان ربما نصر الأول وربما نصر الثاني.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد القول الأول، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته(1): أن تعليقه بالشرط لو لم يفد قصره لخرج الشرط عن الفائدة، ولما كان لذكره معنى؛ لأنه إنما وضع في اللغة ليتميز المشروط عن غيره وإذا كان وغيره سواء في أنه لا يقصر لم يكن لتعليقه بالشرط معنى.
ومثال المسألة: قوله سبحانه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، فلو لم يجب قصره لم يكن له فائدة، وكذلك قول القائل: إن دخل زيد الدار فأعطوه ديناراً؛ فإنه يدل على نفي الإعطاء إذا عدِم الدخول.
فإن قيل: وما المانع من جواز ذلك بدليل أنه إذا قال وإن لم يدخل فأعطوه أيضاً ديناراً لم يعد مناقضاً.
قلنا: إنه وإن لم يعد مناقضاً عد عابثاً لتعري الشرط عن الفائدة، والحال هذه، ومثل ذلك لا يكون في الخطاب الشرعي الشريف.
__________
(1) ـ قال في هامش النسخة: ومما يدل على أن تعليق الحكم بالشرط يدلّ على أن ما عداه بخلافه ما روي أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب قال: ما بالنا نقصر وقد أَمِنا؟ وقال: تعجبتُ مما تعجبتَ منه فسألت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: ((صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) فلو لم يكن تعليق الحكم بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه ما كان لتعجبه معنى. انتهى.
(2) ـ أبو رشيد سعيد بن محمد النيسابوري، من أصحاب قاضي القضاة، وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة بعد قاضي القضاة، وكان بغدادي المذهب، انتقل إلى الري وتوفي بها، وكان قاضي القضاة يخاطبه بالشيخ ولا يخاطب به أحداً غيره، وله مؤلفات منها ديوان الأصول وغيره.
مسألة:[الكلام في تعليق الحكم بالغاية؛ هل يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه أم لا؟]
تعليق الحكم بغاية يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه، وهو قول الجمهور؛ ويحكى خلافه عن أبي رشيد(2).
واختيارنا هو الأول.
والذي يدل عليه: أنه لو لم يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه لانْتَقَضَ كونها غاية، وما أدى إلى نقض فائدة الخطاب وإخراجه عن بابه لم يجز استعماله.
ومثال المسألة: قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، فإنه يفيد زوال إباحة الأكل والشرب بطلوع الفجر الذي هو الغاية، ويفيد زوال وجوب الصيام بدخول الليل إذ هو الغاية، فلو لم يكن ما بعده بخلافه لم يكن غاية الفعل بل كان وسطاً وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في التحليل والتحريم إذا تعلق بالأعيان؛ هل هو مجمل أم ليس بمجمل؟]
اختلفوا في التحليل والتحريم إذا تعلق بالأعيان كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...الآية} [النساء:23]، وما شاكله.
فمنهم من ذهب إلى أنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره وهو المروي عن جماعة من الحنفية وعن الشيخ أبي عبدالله البصري وأبي الحسن الكرخي.