مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} من المجمل]
عندنا أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20]، لاحقٌ بباب المجمل، وقد خالف في ذلك بعض أصحاب الشافعي، واستدلوا به على أن المسلم لا يقتل بالكافر(1).
__________
(1) ـ من استدل من الشافعية بهذه الآية على المنع من قتل المسلم بالكافر ولو ذمياً بناءً منهم على أن الآية تقضي بنفي جميع وجوه المساواة؛ فلو قيل بجواز قتل المسلم بالكافر ولو ذمياً –كما يقتل المسلم بالمسلم والذمي بالمسلم- لكنا قد سوينا بين المسلم والكافر، مع أن أحدهما من أصحاب الجنة والآخر من أصحاب النار، والآية تمنع من استوائهما في كل الصفات.
وبطلان قولهم معلوم؛ لأنا نعلم استوائهما في صفات الذات نحو كونهما مكلفين وحيين وموجودين وقادرين وعاقلين وغير ذلك، فتبين أن المراد أنهما لا يستويان في جميع الصفات، ولا يتفقان، فتبين أنهما لا يستويان في بعض الصفات، ولما لم يذكر ذلك البعض صارت الآية مجملة؛ ثم بين في آخر الآية وجه الإستواء وأنه في الفوز، فتبين أن الآية لا تدل على ما ذهبت إليه بعض الشافعية.
قال في شرح الغاية (2/226): وأصحابنا وإن وافقوه في الحكم فلم يوافقوه في الأصل، وإنما منعوا قتل المسلم بالكافر ولو كان ذمياً بعموم: ((لا يقتل مسلم بكافر)) رواه البخاري وأبو داود) انتهى.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن فيه حد المجمل وحقيقته، فلذلك دخل في جملته؛ لأن المجمل كل خطاب لا يفهم المراد من ظاهره على التعيين إلا باعتبار غيره كما قدمنا، وهذا لا يفهم المراد منه إلا باعتبار غيره؛ لأن القائل إذا قال: زيد وعمرو لا يستويان، حسن من السامع أن يقول فيم؟ إذ الإستحالة اختلافهما في كل شيء، واتفاقهما في كل شيء، فبطل ما قالوه، وأما في هذه الآية فقد بين سبحانه فيما لا يستوون بقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]، فبين أنهم لا يستوون في الفوز.
مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}من المجمل]
ومما أخرج أصحاب الشافعي من هذا الباب، وهو منه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، واستدلوا من ظاهره على أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة الظهار لا تجزي(1).
والذي يدل على لحاق هذه الآية بباب المجمل: أن المراد على التعيين [لا(2)] يعلم من ظاهرها كما قدمنا؛ لأن الخبيث في لغة العرب يستعمل فيما تنفر منه الطباع، وتكرهه النفس، واستعمل في النجس والقذر، ويستعمل في الشرير من الحيوان، فالظاهر له كما ترى فبطل ما قالوه.
__________
(1) ـ لأنهم قالوا: إن الرقبة الكافرة خبيثة فلا تجزئ في العتق بدليل قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26]، فيجب دخوله تحت النهي عن إنفاق الخبيث، وذلك يدل على المنع من إجزاء عتق الرقبة الكافرة في كفارة الظهار.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة غير موجودة في الأصل المصور.
فأما تعلقهم به في الرقبة فبعيد جداً؛ لأن الإنفاق ليس من العتق في شيء؛ لأنه إذا قيل: أنفق فلان شيئاً من ماله، لم يعقل منه العتق لا لغة ولا شرعاً، ولأنه سبحانه قد كشف الغرض في هذه الآية بقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فجعله مما في مقابلة الأخذ وذلك لا يصح في العتق.
مسألة:[مما ألحق بالمجمل وليس منه]
ومما ألحق بالمجمل وليس منه عندنا قولهم: اعط فلاناً دراهماً، فعند بعضهم أنه مجمل.
والذي يدل على ما قلناه: أنه يصح من المأمور امتثال هذا الأمر بظاهره على التعيين وما صحّ امتثاله فليس بمجمل.
أما أنه يصح امتثاله على هذا الوجه: فلأنه إذا أعطاه ما هو أقل الجمع وهو ثلاثة خرج عن عهدة هذا الأمر؛ لأن ما زاد على الثلاثة لا يصح الإنتهاء إلى قدر منه دون ما زاد عليه، وحمل اللفظ على ما يصح تعليقه به لا يمكن لغة ولا شرعاً، فوجب الإقتصار على الثلاثة لاستحالة تعلقه أيضاً بما دونها على وجه الحقيقة، فبقيت الثلاثة معلومة دون الأقلّ والأكثر.
وأما أنما هذا حاله فليس بمجمل: فلأنه خارج عن حده، فلو كان من جملته لما كان خرج عنه.
مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ليس بمجمل]
ذهب بعض الفقهاء(1) إلى أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، مجمل لا يصح التعلق بظاهره، وذهب أكثر العلماء(2) إلى أنه ليس بمجمل وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ هو قول أكثر الحنفية، وجماعة من الشافعية، ونفر من المتكلمين. تمت مقنع
(2) ـ هو قول أكثر الشافعية، وبعض الحنفية، وكثير من المتكلمين كأبي علي والقاضي وأبي الحسين. تمت مقنع.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن الرأس اسم للعضو المخصوص، وأن الباء وضعت في اللغة للإلصاق، فإذا قال سبحانه: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، أفاد ظاهره إلصاق اليد بجميع ما سمي رأساً، وخرج بذلك المأمور عن عهدة الأمر لغة وشرعاً.
وأما خلاف من خالف من أهل العلم في مسح البعض(1) فليس لأن الآية لا ظاهر لها، بل لأدلة نصبوها من الآثار المتبعة عظم الله قدرها، وإلا فالباء عند الجميع تقتضي الإلصاق.
وإن قالوا: إن الباء تفيد التبعيض فلذلك لحقت هذه الآية بالمجمل لم يصح ذلك أيضاً؛ لأنها لو كانت للتبعيض كما قالوا وسلمنا ذلك تسليم جدل لكان إذا مسح البعض خرج عن عهدة الأمر؛ لأنه إذا أمر بمسح البعض أفاد أن الكل مراد على التخيير، فكانت هذه تخرج عن باب المجمل على مجموع القولين فبطل ما قالوه.
__________
(1) ـ وذلك أنهم قالوا: إن الباء تحتمل إلصاق المسح ببعض الرأس كما تحتمل إلصاقه بكله، فإذا لم يتبين القدر الذي يلصق به المسح كان مجملاً، وبيانه ما روي عن النيب -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ((أنه مسح مقدم رأسه)).
والجواب عن ذلك: بأن الباء تفيد إلصاق المسح بما دخلت عليه في أصل اللغة والذي دخلت عليه هو الرأس، والرأس هو مجموع العضو لا بعضه فلا نسلم أن الباء تحتمل إلصاق المسح ببعض الرأس؛ لأن ذلك عدول عن الظاهر إذ ليس فيه ذكر البعض وإنما المذكور هو الرأس فقط، وليس هناك عرف يوجب التبعيض فيجب حمله على الظاهر.
فأما ما روي أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مسح بناصيته؛ فليس فيه أنه لم يمسح بباقي رأسه، فيحتمل أن يكون الراوي إنما رأى مسحه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لناصيته وفاته رؤية الباقي فروى ما رآه فقط. انتهى بتصرف من المقنع.
مسألة:[الكلام في أن ما دخل عليه حرف النفي ليس بمجمل]
اختلف أهل العلم في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب))، و((لا صلاة إلا بطهور(1))) وما شاكله مما يدخل عليه حرف النفي، فذهب كثير من الحنفية إلى أن التعلق بظاهره لا يصح، وأنه من باب المجمل وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي عبدالله وأبي الحسن.
وحكي عن القاضي أن التعلق بظاهره صحيح، وأنه ليس بمجمل.
واستدل الشيخ أبو عبدالله على ما قاله: أن ظاهر اللفظ لا يخلو: إما أن يقتضي نفي وجود الفعل أو نفي أحكامه.
فإن اقتضى نفي الوجود فقد علم خلافه، وأن المعلوم يوجد من دون الفاتحة، ومن دون الوضوء، وإن اقتضى نفي الأحكام فهي تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وحمله على الجميع لا يصح لاتفاق الجميع في الإحتمال.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد ما ذهب إليه القاضي(2) وظاهر المذهب وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد عن علي -عليه السلام-، والإمام المتوكل على الله في أصول الأحكام عن علي -عليه السلام-، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري (1/263) رقم (723)، ومسلم (1/295) رقم (394)، وأبو داود (1/217) رقم (822)، والترمذي (2/25) رقم (247)، والنسائي (2/137) رقم (910) وابن ماجه (1/273) رقم (837)، ومالك (1/84) رقم (188)، وأحمد (5/314) رقم (27729).
(2) ـ وإليه ذهب أكثر الشافعية والمتقدمين من الحنفية، وهو قول شيوخنا المتكلمين كالقاضي وأبي الحسين وهو اختيار السيد أبي طالب. تمت مقنع.
والذي يدل على صحته: أن ظاهر الخطاب يفيد نفي وجود الفعل الشرعي لوروده من صاحب الشرع صلوات الله عليه وآله، وادعاء وجود الفعل الشرعي والحال هذه غير مسلم؛ لأن عدم الفاتحة عندنا تقتضي عدم الصلاة الشرعية على الجملة، وكذلك عدم الوضوء عند الجميع فإذا قال صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب(1))) فكأنه قال: لا صلاة شرعية إلا بفاتحة الكتاب، فاستقام الظاهر الذي رام أبو عبدالله تغييره.
ولأن عرف الشرع الشريف جرى بدخول حرف النفي لإثبات الأحكام الشرعية لا لنفيها، فكأنه عَلَيْه السَّلام قال: الصلاة الصحيحة، أو الصلاة الشرعية التي يقرأ فيها فاتحة الكتاب، ولا يمتنع ورود الخطاب المثبت بحرف النفي، كما إذا قيل: لا مفتي في البلد إلا فلان أفاد ذلك إثباته لا نفيه، وكلمة التوحيد على هذا من قولنا: لا إله إلا الله، ورد حرف النفي للإثبات لا للنفي، وقد قال الشاعر:
فما لي إلا آلَ أحمد شيعة .... ومالي إلا مشعبَ الحقّ مشعب(2)
فقسْ جميع القبيل على هذا تُصِبْ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده(1/179) رقم (126)، وأحمد في مسنده(2/428) رقم (9525)، وابن حبان في صحيحه(5/93) رقم (1791)، والحاكم في مستدركه(1/365) رقم (872)، والبيهقي في سننه الكبرى (2/37) رقم (2191)، والدارقطني في سننه(1/321) رقم (16).
(2) ـ قال في كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل: وقول الكميت بن زيد الأسدي:
فما لي إلا آل أحمد شيعة .... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
انتهى.
مسألة:[الكلام في لفظ الصلاة والوضوء]
ذهب بعض الشافعية إلى أن لفظ الصلاة غير منقول وأنه باق على أصله ومفيد للدعاء، وحملوا قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة:43]، على وجوب الدعاء ويضم إليه سائر الأفعال والأذكار بأدلة أخر.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: ما تقدم من أن الحقيقة ما سبق إلى أفهام السامعين من أهل الشرع، فلا يسبق إلى أفهام السامعين من أهل الشرع إلا الأفعال والأذكار المخصوصة دون ما قالوه من الدعاء.
وأما كونها من باب المجمل: فلأنه لما ورد الأمر بعد الإشعار بالنقل وجب تجويز بيان ما المراد؟ وهل هو المعتاد أم غيره؟ ووقع منه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم البيان بالقول والفعل، وذلك في قوله: ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً)) فهذا بيانه بالقول.
وأما بيانه بالفعل فكقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ويلحق بالخلاف في هذه المسألة الخلاف في لفظ الوضوء فإنه عندهم غير منقول بل هو باقٍ على أصله، وعينوا ذلك في مسألة الرعاف في قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من رعف في صلاته فليتوضأ(1))) وفي قوله لبعض أصحابه لما رعف: ((أَحدَثَ بك وضوءاً)) إنه يجب عليه غسل اليد فقط أو غسل موضع الرعاف.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه: أن لفظ الوضوء إذا أطلق سبق إلى الأفهام غسل الأعضاء المخصوصة دون ما كان مفهوماً في الأصل، وهذا هو أمارة الحقائق.
ولأنه لما ورد لفظ الوضوء في الشريعة أمرهم بهذه الأفعال المخصوصة دون ما كان معلوماً في الأصل، فكان من باب المجمل بخلاف ما قالوه.
__________
(1) ـ رواه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام (1/52، 53) والإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع عن علي -عَلَيْه السَّلام- (1/82).
مسألة:[الكلام في العموم إذا خص هل يصير مجملاً أم لا؟]
اختلف أهل العلم في العموم إذا خص هل يصير مجملاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنه يصير مجملاً بأي دليل خص وعلى أي وجه خص، وحكاه شيخنا رحمه الله عن عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: لا يصير مجملاً بأي دليل خص وعلى أي وجه خص، وحكاه عن الفقهاء وعن الحاكم.
ومنهم: من قال: إذا خص بدليل متصل لم يصر مجملاً، وإن خص بدليل منفصل صار مجملاً، وحكاه عن محمد بن شجاع، وأبي الحسن.
ومنهم من قال: إن أخرج الدليلُ بعضاً معلوماً حتى يكون الباقي معلوماً، فليس بمجمل، وإنْ أخرج بعضاً مجهولاً حتى يبقى الباقي مجهولاً، فهو مجمل، وحكاه عن الشيخ أبي الحسين البصري وهو الذي كان رحمه الله يختاره.
وعندنا أن العموم إذا خص لم يَخْلُ الحال فيه من أحد وجهين:
إما أن يعلم المراد من ظاهره مع تخصيصه على التعيين أو لا يعلم؛ فإن علم المراد منه والحال هذه فليس بمجمل، فإن احتيج في معرفة المراد منه مع التخصيص إلى بيان فهو مجمل.
ثم تستقري على هذا العموم المخصوص فما وجدت فيه صفة المجمل ألحقته ببابه، وما لم تجدها فيه أخرجته عنه وسواء كان الدليل متصلاً أو منفصلاً، وسواء أخرج بعضاً معلوماً أو غير معلوم، كما قدمنا في مسألة المسح؛ لأنه وإن وجب خروج بعض مجهول فإنه يصير بخروجه معلوماً في الثاني، والباقي معلوماً بخروج بعض معلوم منه؛ لأنه إذا تعبده الله سبحانه بإخراج البعض المجهول، ولم يعينه كان بإخراجه له يتعين، ويتعين الباقي في الثاني فيخرج بهذا عن باب الإجمال.
وأمثال هذه المسألة على تفاصيلها كثيرة، فمنها: قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، ثم أخرج الكتابيين ومن جرى مجراهم من المجوس والحربيين بالصلح والجزية والذمة بأدلة منفصلة إلا أنها أخرجت بعضاً معلوماً فكان الباقي معلوماً.
فأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهو من باب المجمل لأنا لا نفهم المراد من ظاهره على التعيين؛ لأنه أخرج بعضاً مجهولاً لم يتعين في حال إخراجه له فكان علينا مجملاً.
وقد ذكر شيخنا رحمه الله أن قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، بيان لهذا المجمل، وأن البعض الذي يشاء سبحانه له المغفرة هم أصحاب الصغائر، وهو الصحيح عندنا لأن الأدلة قد دلت على أن الكبائر لا تغفر مع فقد التوبة، فلو ألحقنا بها الصغائر تعرت الآية عن الفائدة ولحقت بالكذب، وذلك لا يجوز على الله سبحانه وتعالى على ما ذلك مقرر في موضعه من أصول الدين.
فأما قوله رحمه الله: متى خرج منه بعض مجهول بقي الباقي مجهولاً، فغير مستقيم، لأنه بخروجه يتعين ويتعين الباقي في بعض المواضع كما بينا أولاً فلا يلحق بالمجمل على هذا الوجه، والله الهادي.
مسألة:[الكلام في جواز تأخير التبليغ]
اختلف أهل العلم في تأخير التبليغ هل يجوز عقلاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنه لا يجوز.
وحكى شيخنا رحمه الله أن أصحابنا ذهبوا إلى جواز التأخير عقلاً؛ لأنه إنما يجب للمصلحة ولا يمتنع أن تتعلق بالتأخير.
فأما في الشرع فحكي الإختلاف فيه على حسب الإختلاف في مسألة الفور والتراخي، ومثله بأن يأمر الله سبحانه نبيه عَلَيْه السَّلام بتبليغ فريضة الحج في شهر رجب هل يجوز له تأخير ذلك إلى شهر الحجة مثلاً أم لا؟
وعندنا في هذه المسألة تفصيل، ونحن نقول: ما أمر الله نبيه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بتبليغه لا يخلو أن يكون وقته متراخياً أم لا.
فإن لم يكن متراخياً فلا خلاف أنه لا يجوز التأخير كما فعل في يوم عاشوراء(1).
وإن كان متراخياً لا يخلو إما أن يعلم من قبل الله سبحانه أن المصلحة في التأخير أو لا يعلم، فإن علم أن المصلحة في التأخير فلا خلاف أنه يجب التأخير، وإن لم يعلم المصلحة في التأخير من قبل الله سبحانه لم يجز(2) له التأخير عندنا من قبل العقل وهذا موضع الخلاف.
والذي يدل على صحة ما نقوله: أن الله سبحانه أمره بالتبليغ لتعلق المصلحة لا لوقوع الفعل، ولا سبيل له عَلَيْه السَّلام إلى علم المصالح؛ لأن المصالح غيوب استأثر الله سبحانه بها، ولهذا اختلف التعبد، ولهذا نُفِيَ أن يكون إلى الأنبياء عَلَيْهم السَّلام التحليل والتحريم، خلافاً لبعضهم؛ لأنه لا هداية لهم إلى علم المصالح، ولأنه كما يصح تجويز تعليق المصلحة بالتأخير، يصح تجويز تعليقها بالفور، ومع هذين التجويزين يرجع إلى الظاهر، وهو الفور في حقه عَلَيْه السَّلام، هذا من جهة العقل.
__________
(1) - وذلك أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال: ((من أكل فليمسك بقية يومه ومن لم يأكل فليصم)).
(2) ـ نحو ما روي أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أمر بالنص على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في حجة الوداع بمكة؛ فقال لجبريل -عَلَيْه السَّلام- إذاً تثلغ قريش رأسي)) فأخر ذلك حتى انتهى إلى غدير خم، فنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..إلخ} [المائدة:67]، فبلغ كما أمر فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه..إلخ)) الخبر المشهور. تمت من المقنع.