وكذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]، وقال بعد ذلك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، فإن هذا عام نسخ حكم التخيير بين المن والفداء.
فأما مجهول التاريخ: فمثل خبر عبادة بن الصامت(1) وأبي سعيد الخدري(2) في الرباء(3)
__________
(1) ـ عبادة بن الصامت، أبو الوليد الخزرجي، السيد النقيب، شهد العقبات الثلاث وبدراً وما بعدها. توفي بالرملة، وقيل: ببيت المقدس سنة أربع وثلاثين، عن اثنتين وتسعين. انظر لوامع الأنوار (3/131، 132).
(2) ـ أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، من مشهوري الصحابة وفضلائهم المكثرين في الرواية، كان في أهل الصفة محالفاً للصبر فقيهاً نبيلاً جليلاً، غزا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- اثنتي عشرة غزوة أولها الخندق واستصغر يوم أحد فرد ولم يكن في أحداث الصحابة أفقه منه، سكن المدينة وبها توفي سنة أربع وسبعين وله أربع وتسعون، وله عقب.
إلى قوله –أيده الله تعالى-: شهد مع علي -عَلَيْه السَّلام- حرب الخوارج وذكر الحديث فيهم. انظر لوامع الأنوار (3/200، 201).
(3) ـ خبر عبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في الربا أنه قال: ((لا يصلح صاعان بصاع ولا درهمان بدرهم))، وقال: ((الفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد، والذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والبر بالبر مثلاً بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والتمر بالتمر مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى))، فهذا عام بأن الربا في كل زيادة سواء كانت يداً بيد أو نسأ.
وخبر أسامة بن زيد وهو ما رواه ابن عباس عن أسامة بن زيد عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((لا ربا إلا في النسيئة)) فهذا خاص بأن الربا لا يكون إلا في الزيادة إذا كانت نسأ، أما يداً بيد فلا ربا فيها؛ فإن أكثر الصحابة عملوا على رواية عبادة وأبي سعيد وعابوا على من عمل بالخبر الذي رواه أسامة.
فهذا الوجه -وهو عمل أكثر الصحابة- أحد المرجحات على العمل بالخبر الأول دون الثاني.
وخبر أسامة بن زيد في أنه لا ربى إلا في النسيئة، وكروايتهم(1) في نهى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وترخيصه في بيع السلم، فأحدهما عام والآخر خاص، والتاريخ مجهول.
ومثّل شيخنا رحمه الله هذه المسألة بقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فيما سقت السماء العشر))، وقوله: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة(2)))، وأخرج القليل من ذلك وجهل التاريخ بينهما فاقتضى تمثيله رحمه الله بهذا أنه كان يذهب إلى أن العام يُبْنى على الخاص وإن جهل التاريخ، ومذهبه هذا هو رأي كثير من الفقهاء والمتكلمين.
وهذه المسألة يتفرّع منها في نفسها مسائل، وهي تفتقر إلى النظر، والله الموفق.
__________
(1) ـ الخبر الأول هو ما رواه حكيم بن حزام، قال: نهاني النبي –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن أبيع ما ليس عندي، والخبر في جواز السلم، وهو قول النبي –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم)) فإن السلف –رضي الله عنهم- بنوا فيهما العام على الخاص على قول من يقول بالترجيح، كما في المسألة الأولى، وقد اعترض على هذه الطريق إلى الترجيح الإمام -عَلَيْه السَّلام- بما ذكره.
(2) ـ أخرجه البخاري (2/524) رقم (1378)، ومسلم في الزكاة (2/673) رقم (979)، وأبو داود (2/94) رقم (1559)، والترمذي (3/22) رقم (626)، والنسائي (5/17) رقم (2445)، وابن ماجه في الزكاة (1/571) رقم (1793)، ومالك في الموطأ (1/244) رقم (577)، وأحمد (3/363) رقم (14170)، والدارمي (1/470) رقم (11044).
لأن السلف رحمهم الله وإن بنوا العام على الخاص في بعض المسائل، فقد اعترضوا بالعام على الخاص في بعضها وذلك في مثل قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا وصيّة لوارث(1)))، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، والخبر عام والآية خاصة، وكمنعهم من زواج المسلم للكتابية بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221]، وهي عامة واعترضوا بها قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، وهي خاصة، ولم يبنوا فيها.
__________
(1) ـ رواه أبو عبدالله العلوي في الجامع الكافي والأمير الحسين في الشفاء والإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في شرح التجريد والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام.
قال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد -عَلَيْه السَّلام- في الاعتصام (2/149): وفي الجامع الكبير عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((لا وصية لوارث)) [وقال عقبه] قال: رواه عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن عمرو بن خارجة عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ورواه الشافعي والبيهقي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مرسلاً، ورواه الدارقطني عن جابر عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
مسألة:[الكلام في العام المخصص هل يجوز سماعه من دون سماع المخصص أم لا؟]
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام المخصوص بتخصيص سمعي إلا ويسمع معه الخاص وهو مذهب الشيخ أبي علي(1)، وهكذا رأيه في الناسخ فإنه يقول: إذا تعبد الله بشيء من الأحكام ثم نسخه قبل انتهاء خبر التعبد بالمنسوخ إلى قوم لم يجز أن يرد عليهم خبر التعبد بالمنسوخ دون خبر الناسخ.
وذهب آخرون(2) إلى أن ذلك جائز، وأن الواجب على السامع للخطاب أن يُجَوِّزَ ورود النسخ عليه فيتوقف القدر الذي يمكن عنده ورود دليل التخصيص، وهو المحكي عن أبي هاشم.
واستدل من قال بالأول: بأن العام إذا كان موضوعاً في أصل اللغة للإستغراق ثم ورد من الحكيم سبحانه وتعالى وهو يريد تخصيصه ولم يرد معه المخصص جرى مجرى تلبيس المراد وذلك لا يجوز عليه سبحانه؛ لأنه إذا وجب على المكلف اعتقاد جريان الحكم على جميع ما تقدم له العموم ثم أراد سبحانه وتعالى التخصيص وجب أن يُسْمِعَهُ الخاص؛ لأن لا يقع هذا الإعتقاد جهلاً قبيحاً.
واستدل من ذهب إلى الثاني: بأنه إذا جاز أن يكون العام مخصوصاً بدلالة العقل ويسمعه الله تعالى ذلك من غير أن يكون قد نظر في الدليل العقلي المخصص له ولم يرد ذلك إلى تلبيس الدلالة فكذلك إذا كان يخصصه من جهة السمع.
وإذا قلنا إن المخاطب إذا جوز التخصيص لزمه أن يتوقف قدر وقوفه عليه وهو لا محالة يصله إذا بحث عنه وهذا الذي نختاره؛ لأن الذي لأجله جاز ورود العام المخصوص بدلالة العقل -وإن لم يستدل المكلف- هو التمكن من ذلك بالنظر، وهذا الدليل قائم في المخصوص بالسمع لأنه متمكن بالبحث عن معرفته، ولا يلزم عليه جواز تأخير البيان؛ لأن المخاطَب إذا لم يُبَيَّن له المراد بما خوطب به جرى الخطاب مجرى العبث، وذلك لا يجوز على الله سبحانه، وليس هذا من ذلك؛ لأنه سبحانه إذا أورد العام والخاص وتأخر عن المكلّف الخاص فلم يتأخر عنه البيان، وإنما تأخر المبيِّن، وهذا لا يمتنع كما لا يمتنع أن نخاطب العجم بلغة العرب إذا كان ثم من يترجم.
__________
(1) ـ وأبي الهذيل العلاف والشيخ أبي هاشم أولاً ثم رجع عنه. تمت مقنع.
(2) ـ هو مذهب الفقهاء بأسرهم وكثير من المتكلمين كأبي هاشم آخراً، وأبي إسحاق النظام، والقاضي، وأبي الحسين البصري، والحسن بن محمد الرصاص. تمت مقنع.
الكلام في المجمل والبيان والمبيَّن
مسألة:[حدُّ المجمل والمبين]
المجمل: هو كل خطاب لا يفهم المراد منه إلا باعتبار غيره.
والمبيَّن: هو ما يعرف المراد منه بظاهر لفظه، فالأول كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، فإنه يدل على وجوب الصلاة في الجملة دون التفصيل.
والثاني كأمره صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالصلاة مفصلة أفعالها وأذكارها، وقد يستعمل المبين في المجمل إذا ورد بيانه.
مسألة:[الكلام في حدِّ البيان والخلاف فيه]
اختلف أهل العلم في حد البيان؛
فمنهم من قال: هو الأدلة التي تُبَيَّنُ بها الأحكام، وهو قول أبي علي وأبي هاشم، والقاضي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
ومنهم من قال: البيان هو العلم الحادث، وحكي عن الشيخ أبي عبدالله.
ومنهم من جعل البيان الدلالة من جهة القول دون ما عداه من الأدلة.
ومنهم من قال: هو الكلام والخط والإشارة.
وقال الصيرفي(1): البيان ما أخرج الشيء من حد الإشكال إلى حدّ التجلي.
__________
(1) ـ أبو بكر الصيرفي: محمد بن عبدالله، من أهل بغداد، وأحد فقهاء الشافعية المتقدمين فيهم علماً وفضلاً وديناً، ومن أهل العدل والتوحيد، توفي سنة (330هـ).
وذكر الشافعي في كتاب الرسالة: أن البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، وأقلّ ذلك أن يكون بياناً لمن نزل القرآن بلغتهم، وهذا لا يعقل معناه فضلاً عن وقوع التحديد به.
وقد حمل أصحابه كلامه على معان أقربها ما قال قاضي القضاة: إنه أراد ما هو بيان في اللغة العربية.
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى أن البيان قد يستعمل في معنى أعم ومعنى أخص:
فأما الأعم: فهو نصب الأدلة ولهذا يقال بين الله تعالى الأحكام إذا نصب عليها الأدلة.
وأما الأخص: فهو الأدلة التي يعلم بها المراد بالخطاب المجمل على التفصيل.
وإنما قلنا ذلك بأن ما ذكرناه هو معنى البيان؛ لأنه لا يسبق إلى الأفهام في العرف عند إطلاق اسم البيان إلا ما ذكرنا أولاً، وذلك هو أمارة الحقيقة، وكذلك لا يسبق إلى الأفهام من لفظ البيان إذا قيد بالمجمل فقيل بين الله المجمل سوى ما ذكرنا بياناً، فلذلك قلنا بأن ما ذكرنا هو معنى البيان.
وعندنا أن الكلام في حد البيان يقع على وجه التحقيق وعلى وجه التمييز، فإن كان على وجه التمييز فلا أظهر من قولنا بيان، وإن كان على وجه التحقيق فهو كل دليل يكشف بنفسه عن معنى المجمل.
والدليل على صحة هذا الحد أنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحد.
فأما من قال البيان: هو الأدلة التي تبين بها الأحكام، فقد فسر الشيء بنفسه، والإشكال في قوله تبين بها الأحكام كالإشكال في البيان، والحد إنما يقع لرفع الإشكال.
وأما ما قال الشيخ أبو عبدالله من أنه العلم الحادث من فعل المكلف، والبيان فعل الله تعالى ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولأن الله سبحانه ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ورد منهما البيان لمن نظر ولمن لم ينظر، والعلم الحادث يختص الناظرين دون غيرهم.
وأما من قال البيان: هو الدلالة من جهة القول دون ما عداه فلا يصح لأن البيان قد يقع بالأفعال والقياس كما يقع بالقول على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما من قال البيان: هو الكلام والخط والإشارة فلا يصح؛ لأن هذه الأمور قد تكون تلبيساً فضلاً عن كونها بياناً، ولأن المجمل كلام، ولأن قولنا بيان أظهر منه.
وأما من قال البيان ما أخرج الشيء من حد الإشكال إلى حد التجلي فلا يصح؛ لأن الدليل قد يقترن بالمجمل فلا يقع الإشكال، فيخرج هذا عن الحد فيبطل التحديد به، ولأن المشاهدة والأخبار المتواترة يخرجان المشاهد والمخبر عنه من حد الإشكال إلى حد التجلي، وإن لم يوصف واحد منهما بأنه بيان.
ولأن قولنا ما أخرج الشيء من حد الإشكال يقع فيه من الإبهام ما يحوج إلى الإستفهام، والتحديد وضع للكشف والإيضاح.
فأما إبطال ما ذكر الشافعي على ظهور سقوطه فظاهره يخرج الأفعال والإجماع، والأدلة العقلية والقياس عن البيان وهي أجله، فكيف يقع التحديد بما هذا حاله، ولأنه جعل المحدود بعض جزء الحد، فقال: البيان كيت وكيت، وإنه بيان، ففسر الشيء بما يحتاج إلى تفسير، وهذا ظاهر البطلان.
مسألة:[الكلام في جواز وقوع بيان المجمل بالفعل]
ذهب الفقهاء إلى جواز وقوع بيان المجمل بالفعل كما ثبت بيان المجمل بالقول، وخالف بعض المتأخرين في ذلك، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي بكر الدقاق(1).
__________
(1) ـ أبو بكر الدقاق: محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الدقاق، من علماء الشافعية صنّف كتاباً في أصول الفقه، جمع الفقه والأصول، وولي القضاء ببغداد، توفي في رمضان سنة (392هـ). انظر المنية والأمل.
ومثل شيخنا رحمه الله المسألة بما إذا قال تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، ثم فعل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عقيب هذا الخطاب ركعتين ولا يبين الصلاة المأمور بها بالقول فعند من قال بالأول: هذا بيان، وعند أبي بكر الدقاق ومن قال بقوله: ليس ببيان.
واحتج شيخنا رحمه الله تعالى للأول بأن الصحابة أجمعت على وجوب الرجوع إلى أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إجماعها على الرجوع إلى قوله: فلولا أن أفعاله عليه وآله السلام يقع بها البيان لما صح الرجوع إليها كما فعلوه في مسألة الإيلاج من غير إنزال(1).
واستدل أيضاً بأن فعله حجة كقوله، ويصح في الفعل أن يكون كاشفاً عن معنى الخطاب، ولذلك قال عليه وآله السلام: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي)) فأحالنا على أفعاله في بيان المجمل من الصلاة، فلولا أن البيان يقع بالأفعال لما أحالنا عليها.
وعندنا في هذه المسألة: أن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول وأبلغ، لأنه لا فرق بين قول المعلّم للكتابة مثلاً لمن يتعلمها خذ القلم وافعل به كذا وكذا، واجرِ من موضع كذا إلى موضع كذا، وبين أن يكتب له إما ما يتعلم عليه ويقتدي به، بل يكون هذا أبلغ، ولكن لا بد عندنا من تقديم دليل من القول منبه على اتباع الفعل والإقتداء به وإيجاب الرجوع إليه في البيان.
__________
(1) ـ وذلك أن الإيلاج من غير إنزال كان لا يوجب الغسل بما رواه أبي بن كعب، قال: قلت يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل، قال: يغسل ما لمس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل) ثم اغتسل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من ذلك بما روته عائشة أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- اغتسل.
وإنما قلنا ذلك لأن دلالة العقل تقضي باختلاف المصالح في الفعل بيننا وبينه عَلَيْه السَّلام، وبيننا أيضاً إلا فيما خصه الدليل، فإذا قال تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، وجب علينا انتظار البيان قدر إمكان وصوله إلينا، فإن وصل إلينا منه بيان وإلا وجب علينا امتثال ما هو المعلوم من الصلاة في أصل اللغة؛ لأن ذلك الواجب في خطاب الحكيم سبحانه وتعالى، ولهذا قال صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي))، فوجب علينا اتباع فعله في بيان المجمل بدليل من القول، ونحن لا نمنع على هذا الوجه من وقوع البيان بالفعل له بما يكون والحال هذه أبلغ من البيان بالقول، وذلك ظاهر كما قدمنا، وقد كان أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام وغيره من العلماء إذا سئل عن بيان مجمل بينه بالفعل للتأكيد كما فعل لما سئل عن وضوء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فبينه بالفعل.
وما ذكر شيخنا رحمه الله من إجماع الصحابة على الرجوع إلى أفعاله عليه وآله السلام في بيان المجمل فذلك بعدما أمرنا باتباعه في الفعل واستقرار الشرع بذلك بعد موته عليه وآله السلام بخلاف حال الإبتداء.
وأما أن فعله ـ عَلَيْه السَّلام ـ حجة فذلك مسلم فيما أمرنا باتباعه فيه دون غيره. وأما كونه كاشفاً عن معنى الخطاب فهو اختيارنا فيما أحالنا عليه الخطاب.
مسألة:[الكلام في وقوع البيان بالتقرير]
ويقع البيان بالتقرير كما يقع بالقول ولا يظهر خلاف في هذا.
ومثاله: أن يأمر صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم رجلاً بالزكاة مثلاً، ثم يخرج من بحضرته عن ذلك قدراً من المال فسكت عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ فإن ذلك يجري مجرى قوله: هذا هو الواجب عليك؛ لأنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بعث للدلالة والإرشاد، فلو لم يقع ذلك لانتقض المراد بالبعثة، وذلك لا يجوز عليه سبحانه وتعالى.
مسألة:[الكلام في جواز تبيين الظاهر بالغامض]
حكى الشيخ أبو عبدالله عن الشيخ أبي الحسن رحمه الله تعالى أن البيان يجب أن يكون في حكم المبين في الظهور، ولذلك يمنع أن يكون خبر الأوساق مبيناً لآية الزكاة؛ لأنه خبر واحد فلا يساوى الآية في الظهور.
وعندنا أن ذلك لا يجب؛ لأنه لا يمتنع في العقل أن يعلم الله سبحانه تعلق الصلاح في تبيين الظاهر بالغامض فيبينه به، ولأنهما قد استويا في كونهما دليلين شرعيين فجاز قيام أحدهما مقام الآخر كما نقوله في البيانين.
مسألة:[الكلام في أن آيات المدح والذم ليست من باب المجمل]
ألحق بعض أصحاب الشافعي الآيات التي ذكر فيها المدح والذم بباب المجمل وليست منه؛ لأن معرفة المراد من ظاهرها على التفصيل ممكن، وليس كذلك المجمل.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].
فالذي يدل على صحة ما قلناه: أن ذمه سبحانه وتعالى على ترك الفعل أكثر من الأمر به؛ لأنه لا يذم إلا على ترك الواجب، وقد صح أمره بالنفل فإذا ثبت ذلك، وقد تقرر وجوب الفعل للأمر، فوجوبه مع ذم تركه أولى، وكذلك تعليقه بالمدح مع أنه أمر آكد في الوجوب من الأمر المطلق، وكان ظاهر آية الإنفاق للكنز يوجب إنفاق جميع المكنوز، ويصح التعليق بظاهره لولا تخصيص الدلالة وهي قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((كل مال أُخْرِجت زكاته فليس بكنز(1)))، ولم يقل ذلك صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا عند فزعهم إلى العمل بمقتضى الخطاب.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين بن بدر الدين، والطبراني في الأوسط (6) رقم (8279).