(السيد مانكديم): ويمكن عد النظر في طريق معرفة الله من هذا القسم، إذ يكون له لدعاء داع أو تخويف مخوف، ويكمن كونه من الأول، إذ قد يكون سببه نظرًا في كتاب، أو تنبيهاً من جهة النفس، وهذا هو الظاهر؛ لأن سبب وجوبه خوف الضرر من تركه، والخوف من فعلنا وإن اختلف سببه، أي سبب الخوف بأن يكون من فعلنا أو فعل غيرنا، وينقسم الواجب أيضاً إلى: ما يضاف إلى سببه نحو كفارة ظهار، أو إلى وقته كصلاة الظهر، والفرق بين الإضافتين أن إحداهما إضافة إلى سبب موجب بخلاف الأخرى.
[الفائدة الرابعة والعشرون: في وصف الأفعال الشرعية بالصحة والفساد]
اعلم: أن الأفعال الشرعية قد توصف بالصحة والفساد، ويختلف المراد به باختلاف مواضعه، فوصف العقود بالصحة يراد به استيفاؤها الشرائط الشرعية الموجبة للملك وحل التصرف، وبالفساد عدم استيفائها الشروط المعتبرة في الشرع فلم تفد الملك، ولأجل التصرف وإذا وصفت بهما العبادة، فالمراد هل تجب الإعادة أو لا؟ وإذا قيل: شهادة صحيحة أو فاسدة، فالمراد هل يحكم بها أولاً؟ وليس المراد أنها كاذبة أو صادقة، إذ قد تكون صادقة ولا يحكم بها كشهادة العبيد، وقد تكون كاذبة وتوصف بالصحة بحسب الظاهر؛ وذلك إذا لزم الحكم بها وإذا وصف بهما خبر الواحد، فالمراد أنه نقل على وجه يجب العمل به أولاً، ولا يعتبر كونه صدقاً أو كذباً في الواقع، إذ قد يوصف بالصحة؛ لاستيفائه شرائط وجوب العمل به، وإن كان كذباً في الواقع ويوصف بالفساد إن لم يستوفها، وإن كان في الواقع صدقاً.
[الفائدة الخامسة والعشرون: في قسمة الأفعال باعتبار تولدها ومباشرتها]
اختلف المتكلمون في قسمة الأفعال باعتبار تولدها ومباشرتها، على أقوال كثيرة، ونحن نأتي بما يقتضيه كلام الأئمة في ذلك؛ لأن بحثنا في هذا الموضوع مقصور على كلامهم، كما مر أنهم القدوة وبهم الأسوة، فنقول: ذهب الإمام القاسم بن محمد في الأساس إلى أنها تنقسم إلى مبتدأ ومتولد، ورواه عن الجمهور.
قال السيد أحمد بن محمد لقمان: وسواء كانت من الله تعالى أو من العباد، فأما أفعال العباد فقال ابن لقمان: فإن بعضها لا يكون إلا مبتدأ، وبعضها لا يكون إلا متولدًا، وبعضها يجوز فيه الوجهان، قال: فحقيقة المتولدة هي: الأفعال الحاصلة بالقدرة في غير محلها بواسطة فعل في محلها، والمبتدأة عكسها، أي هي الأفعال الحاصلة بالقدرة في محلها، وهي أي المبتدأة والمتولدة تنقسم إلى أفعال قلوب، وأفعال جوارح، فأفعال القلوب هي: الإرداة والعلم والظن والنظر، ونحوها، وأفعال الجوارح الأكوان الخمسة وهي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون والكون المطلق، والاعتمادات، والأصوات والتأليف، والآلام، فالمتولد من أفعال القلوب هو: العلم فقط يتولد عن النظر، وما عداه مباشر، والمتولد من أفعال الجوارح هو الكون والاعتماد، وهما متولدان عن اعتماد، وتولدهما مفترقين ولا يصح أن يولد أحدهما دون الآخر، والتأليف وهو متولد عن الكون بشرط المجاورة، فإن كان في أحد المحلين رطوبة، وفي الأخرى يبوسة حصل مع التأليف صعوبة التفكيك وإلا فلا، والصوت وهو متولد عن الاعتماد بشرط الصحة والألم، وهو متولد عن الكون؛ بشرط
انتفاء الصحة والتأليف والصوت والألم، لا تكون من أفعالنا إلا متولدة، والاعتماد والكون قد يكونا متولدين كما ذكرنا، وقد يكونان مباشرين كالمولد لما ذكرنا، وظاهر كلامه أن المباشر هو المبتدأ.
قال: وأما أفعاله تعالى فهي أجسام وأعراض وفناء، وجميعها يصح أن يكون مبتدأ ومتولد.
قال بعض المتأخرين: إلا العلم فإنه لا يصح أن يكون منه تعالى إلا مبتدأ، واختاره المهدي يعني أن علمه تعالى لا يكون متولداً عن سبب، بل حاصل له ابتداء.
قال ابن لقمان: وهذا بناء على أن العلم معنى زائد على الذات، كما هو مذهبهم في سائر الصفات.
قلت: وقد عرف من كلامه أن المباشر هو المبتدأ كما أشرنا إليه سابقاً؛ لأنه قال بعد تقسيم أفعال العباد: فهذه هي أفعال العباد المتولدة والمباشرة، ولم يزد على ذلك.
وأما (المهدي) فإنه حكى عن المتأخرين من أصحابنا أن المتولد من أفعالنا ينقسم إلى مباشر ومتعدٍّ؛ فالمباشر الفعل الموجود بالقدرة في محلها بواسطة فعل في محلها، والمتعدي الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، والمبتدأ هو ما يفعل بالقدرة في محلها لا بواسطة.
قال: وعلى هذا فالمباشر من المتولد، وقد اختلقت كلمات المتكلمين في بيان المتولد والمباشر والمبتدأ من أئمتنا وغيرهم.
وحاصل كلام الأئمة ما حررناه في هذه الفائدة، والحاصل أن بعض المتكلمين يجعل المباشرة من المتولد وهو من يعتبر الواسطة في حده، ومنهم من يجعله نفس المبتدأ وهو من لا يعتبر الواسطة في حده، ومنهم من يطلقه على المبتدأ والمتولد، وعليه (السيد أحمد بن محمد الشرفي)؛ فإنه قسم المتولد إلى مباشر ومتعد كالعلم، وتحريك الغير، وقسم المباشر إلى متولد كالعلم ومبتدأ كالاعتماد.
وقال (المهدي): اتفق المتكلمون على أنه لا بد من فرق بين المباشر والمتولد وإن اختلفوا في الفارق، ووجه وجوب الفرق أن الواحد منا لما كان يجد من نفسه أنه قد يفعل فعلاً لا يحتاج في إيقاعه إلى فعل يقدمه عليه كالحركة المبتدأة وكالإرادة والكراهة، ونحوهما، ويجد من نفسه أنه قد يفعل ما يحتاج إلى تقديم فعل غيره كالعلم المحتاج إلى النظر، والتأليف المحتاج إلى الكون أي التحيز، والألم المحتاج إلى الضرب، والكون المحتاج إلى الاعتماد، احتجنا إلى الفصل بين الفعلين، فسمينا المحتاج إلى السبب متولداً تشبيهاً بتولد الحيوان، وافتقار الولد في وجوده إلى الوالد، وسمينا ما لا يحتاج مباشراً تشبيهاً بالمباشر للبدن من اللباس لما لم يكن بينه وبين إيجاده بالقدرة حائل كاللباس المباشر، وكل أهل الأقوال ملاحظون لهذا التشبيه.
قال عليه السلام: خلا أن ما اخترناه هو الأشبه والأقرب ذكره في الدامغ، وهذا بالنظر إلى أفعال العباد، وأما أفعال الله فقد تقدم أنها تنقسم إلى: مبتدأ ومتولد، والقول: بأنه لا متولد في أفعاله عز وجل لاستلزام الحاجة إلى السبب مدفوع بما ذكره الإمام القاسم بن محمد في الأساس، وابن لقمان في شرحه: بأنه لا يستلزم الحاجة إلا لو كان لا يقدر عليه إلا بالسبب كالواحد منا، لكنا نقول أن الله تعالى يقتدر عليه ابتداءً بأن يوجده من غير سبب، لكنه جعله سبباً متولداً لحكمة ومصلحة يعلمها الله، فهو فاعل مختار يختار في أفعاله ما يشاء من جعلها مبتدأة أو متولدة، وقد دل على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } [الروم: 48]وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ } [الروم: 24]وقوله:{وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22] فصرح بأن إثارة السحاب متولد عن الرياح، وإحياء الأرض متولد عن المطر، وجري الفلك متولد عن الريح، والآيات الدالة على إثبات المتولد من أفعاله تعالى كثيرة، وقد منع بعض المتكلمين إطلاق المباشر على أفعاله تعالى المبتدأ منها والمتولد، وقال: إن أفعاله كلها مخترعة، وأقره الإمام عز الدين قال: إذا لا يفعل بقدرة ولا يعتبر في أفعاله محل القدرة، وظاهر كلام المهدي: أن المتولد من فعل الله لا يسمى مخترعاً، وإنما يختص باسم المخترع المبتدأ؛ لأنه قال: اتفق أصحابنا على أن الفعل المخترع ما وجد لا بالقدرة ابتداءً.
قال عليه السلام: ويختص به الباري تعالى ولا يصح من غير اختراع، وأجاز الشرفي إطلاق المباشر على أفعاله تعالى، وقال: هو المفعول بلا واسطة وهو المبتدأ.
قلت: والظاهر منعه لإيهامه التشبيه.
[الفائدة السادسة والعشرون: في أفعال العباد]
الذي عليه (أهل البيت عليهم السلام )كافة أن العباد المحدثون لأفعالهم حسنها وقبيحها، وأنها غير مخلوقة فيهم، وقد اتفق الناس على أن لأفعالنا بنا تعلقا، وذلك معلوم ضرورة، واتفق المسلمون على أن لها بالباري تعالى تعلقاً، فتعلقها بنا من حيث إيجادنا لها كما ذكرنا.
وأما تعلقها بالباري فمعناه أنه خلق فينا قدرة يصح تأثيرها في إيجاد أفعالنا، أو جعلنا على صفة تؤثر في ذلك على حسب الخلاف بين الأصحاب في القدرة، هل هي معنا أو نفس الصحة أو اعتدال المزاج؟ وما ذهب إليه الأئمة فهو قول العدلية قاطبة، إلا أنهم اختلفوا هل العلم بذلك ضروري أو استدلالي؟ فقال الأمير الحسين وغيره: أن العلم بذلك ضروري يعلمه حتى الصبيان، وعليه ابتناء المعاملة والمدح والذم والتعجب، وسائر الأمور المتفرعة التي لا تكون إلا مع صدور موجبها عمن مدح أو ذم أو تعجب منه، والعلم بهذه الفروع ضروري فكيف بأصلها، ولا يقدح في العلم بذلك الإنكار إذ منكره كمنكر كون دجلة في الأنهار، ونافيه كنافي ظلمة الليل وضوء النهار، وما هذا حاله لا يحتاج إلى نصب دلالة، إذ لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن أمر العباد بأفعالهم ونهيهم عنها ومدحهم وذمهم عليها، وترغيبهم في فعلها، أو ترهيبهم منه، ويعللون ذلك؛ بأنه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم المحدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة، والأصل استدلالاً يوضحه أنَّا نجد من أنفسنا الفرق الضروري بين أمرنا بالقيام والقعود، وبين أمرنا بإيجاد السماء والكواكب، فلولا أنا الموجدون لأفعالنا لما
صح ذلك، والمجبرة يعلمون ذلك، وإنما جحده علماؤهم؛ ميلاً إلى الهوى وطلباً للرئاسة، وليست شبههم أدق من شبه السوفسطائية، ولم يدل ذلك على أنهم غير جاحدين للضرورة، ولذلك إنك إذا حكيت مذهبهم لعوامهم أنكروه ونزهوهم منه، بل تجد علماءهم عدلية في المعاملات، فيقولون: باع فلان، ظُلم حسنٌ، شريت منه... إلى غير ذلك ولو جرحت أحداً منهم لذمك ووثب عليك كالمضطر إلى أنك الذي جرحته، ولكون العلم بهذه المسألة ضرورياً بديهياً، كما حققناه، فالشبه التي يتعلق بها المجبرة لا يجب الجواب عنها وإن قدحت؛ لأن ما قدح في الضروريات لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه للقطع بصحة ما قدح فيه، فإن قيل: قد تضمن هذا البحث ما ظاهره الاستدلال على أنا الموجدون لأفعالنا، وذلك ينافي الضرورة.
قيل: لم يورد مورد الاستدلال، وإنما المقصود بالتنبيه على تحقيق دعوى كون ذلك ضرورياً.
وأما المهدي فمقتضى كلامه أن ذلك ضروري، لكن لا بالبديهة بل بعد أدنى تأمل أو من باب إلحاق التفصيل بالجملة، فهاتان طريقان:
الطريق الأولى: في احتياج كون العلم بأنَّا الموجدون لأفعالنا ضرورياً إلى أدنى تأمل، وبيانه: أن الذي نعلمه ضرورة ولا يقبل التشكيك، هو: وقوف أفعالنا على دواعينا ووقوعها مطابقة لها.
وأما كوننا الموجدين لها أم الباري تعالى هو الموجد للداعي إليها، والموجد لها مطابقة له، فذلك يقبل التشكيك، فلذلك افتقر إلى أدنى تأمل، كما أن بعض الضروريات يحتاج إلى مراجعة النفس والفكر اليسير، لكن العلم الحاصل بعد التأمل ضروري؛ لأنه ليس متولداً عن دليل ومقدمات بعضها لا يعلم إلا دلالة؛ لأنا إذا تأملنا وجدنا من أنفسنا أنه كان يمكننا ترك ما قد وقع منا وإن لم نضطر إلى أنه وقع بحسب دواعينا، ولا ينازع في ذلك إلا سفسطي، لكن هذا لا ينفع في من قد سبق له اعتقاد شبهة.
الطريقة الثانية: طريق إلحاق التفصيل بالجملة، وبيان ذلك: أن العقلاء يعلمون ضرورة حسن الزجر عن القبيح، وقبح زجر الرجل عن طوله وسواده، ونعلم ضرورة أنه لا وجه لاستقباحه إلا لكونه مضطراً إليه لا يمكنه الانفكاك عنه، ويتفرع على هذه المقدمات مقدمتان هما:
أن كل ما اضطر إليه قبح التوبيخ عليه ضرورة، وأن في أفعالنا ما لا يقبح الزجر عنه كالظلم فيحصل من هذين العلمين علم ثالث، وهو أن في أفعالنا ما لا نضطر إليه، والخصم لا ينازع في كون العلم بالمقدمتين الأوليين ضرورياً، وإن نازع في تفسير القبح وقال: إنه صفة نقص فمطلوبنا حاصل وإن نازع في أي المقدمتين فذلك سفسطة، وكذلك وإن نازع في كون وجه الاستقباح الاضطرار؛ لعلمنا ضرورة أنه هو العلة والمشكك في ذلك كالمشكك في المشاهدات أنها خيالات.
فإن قلت: فما هذا العلم الثالث؟ أضروري هو أم استدلالي؟.