[الفائدة السابعة عشرة: في الفرق بين العلم النظري والضروري]
قال (ي): في الشامل الفرق بين العلم النظري والضروري واضح بين، فإن العاقل يعلم الضرورية من غير اعتبار نظر، ولا إعمال فكر، والنظري لا بد فيه من العناية باستحضار مقدماته، وترتيبها على وجه صحيح وحراستها من الغلط.
قلت: وقد ذكر أصحابنا أن الضروري إنما يكون ضرورياً بأن يكون مفعولاً فينا بغير اختيارنا، ولا بد من الإقرار بهذا، وإذا كان كذلك فإنا نجد أنفسنا مضطرة إلى العلم بقبح الظلم والكذب، وحسن إرشاد الضال وإنقاذ الغريق ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم، ونحو ذلك، ونجد هذا العلم غير واقف على اختيارنا، ولا نجد فرقاً بينه وبين الأوليات والمشاهدات في كونه ضرورياً، (ي) مع أنا لا ننكر أن العلوم متفاوتة في الظهور والخفاء، لكنها مستوية في التحقق والثبوت.

[الفائدة الثامنة عشرة: في أقسام القبيح]
ينقسم القبيح إلى: صغير وكبير، والكبير إلى: كفر وفسق، وينقسم القبيح أيضاً إلى: ما يزول حكمه بالإكراه، وهو كل ما لا يتعدى إلى الغير كإظهار كلمة الكفر؛ فإنه يجوز لا على جهة الاعتقاد بل يضمر أنكم كلفتموني ذلك، أو أن النصارى يقولون ذلك، وإلى ما لا يزول حكمه بالإكراه وهو كل ما يتعدى ضرره إلى الغير كقتل الغير فإنه لا يباح بالإكراه، بل عليه أن يتذكر أن عقاب الله أشد من عقاب من أكرهه، وأنه إذا صبر على ما ناله منه فإن الله ينيله أجرًا بغير حساب، وللقبيح قسمة أخرى وهو: أنه ينقسم إلى ما لا يمكن الانفكاك عنه إلا بأن لا يفعله كالجهل، وإلى ما لا يمكن الانفكاك عنه بأن يفعله على وجه آخر كالكذب فإنه يمكن فعله على وجه الصدق بالتعريض ونحوه، وكالسجدة بأن يريد بها للرحمن لا للشيطان.

[الفائدة التاسعة عشرة: في الداعي والمرجح]
ظاهر كلام المهدي يقضي بأن كل أمرين استوى الداعي إليهما، فإنه يصح من القادر اختيار أحدهما لا لمرجح، والحجة على ذلك أنه يصح من الهارب سلوك أحد الطريقين، ومن الجائع اختيار أحد الرغيفين، ونحو ذلك مع الاستواء في المقصود من كل وجه، لا لمرجح، وذلك معلوم ضرورة، وأيضاً قد ثبت أن القادر من له أن يفعل وأن لا يفعل، وأنه لا يحتاج في الإيجاد إلى مؤثر سوى قادريته، وهو ينفي القول باحتياجه إلى المرجح، وإلا بطل معنى كونه قادراً.
نعم، والقول بعدم الحاجة إلى المرجح إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، فأما النظر إلى مطابقة الحكمة والعادة فلا بد منه، واختار (ي)، والحسين بن القاسم في الغاية وشرحها القول بالمرجح.
قال (ي) ما حاصله: إن قيل ما الذي يرجح وجود المقدور على عدمه؟
قيل: القادر، فإن قيل: فلم اختص بالحصول دون ضده، وبهذا الوقت دون ما قبله وما بعده؟
قيل: الفاعل المختار أوجده لقيام داعيه، فإن قيل: فلنفرض قيام الداعي في كل واحد من الضدين على سواء؟
قيل: من هاهنا يتميز القادر على الموجب، إذ لو طلبنا مخصصاً لأحد مقدوريه دون الآخر لألحقناه بالموجب، وخرج عند حد الاختيار، وهذا يرفع ما عرفناه ضرورة من الفرق بين القادر والموجب، وقد حصل من مجموع ما ذكرناه أن الفاعل مفتقر في الأصل إلى الداعي ليبعثه على الفعل، وعند فرض الاستواء في الفعلين من كل وجه يفعل أحدهما دون الآخر من غير أثر وراء كونه فاعلاً مختاراً.
وفي كلامه عليه السلام رد لشبهة المجبرة بالداعي والمرجح.

قال الإمام عز الدين: ويفتح مقفلها، ويحل معضلها، وقال: إن في كلام (ي) ما يكفي ويشفي في ردها، وقال الحسين بن القاسم: المرجح الإرادة وهي من العبد ولزوم التسلسل ممنوع؛ لأن المحتاج إلى الإرادة هو الفعل المتوجه إليه بالقصد لا الإرداة إذ حصولها ليس إلا بتبعية الفعل المراد، وكل عاقل يعلم من نفسه أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة.
فإن قيل: هل القول بالمرجح يوجب الجبر؟ قيل: لا.
أولاً: أنا نعلم ضرورة أنه قد يحصل الفعل لا لمرجح، وذلك كفعل الساهي والنائم؛ إذ لو لم يصح من دونه لكان تأثيراً بلا مؤثر وهو باطل.
ثانياً: أنه لو كان تأثيره على جهة الإيجاب لما أمكن الفاعل ترك الفعل عند وجود المرجح، والمعلوم ضرورة تمكنه من الترك.
ثالثاً: أن الدواعي والمرجحات من قبيل الاعتقادات والظنون، وهي لا تأثير لها في الإيجاب، ثم إنه لو أوجب الخبر من فعل العبد أوجبه في فعل الله تعالى، (ي): لأن طريق الفاعلية واحد، وهذه فلسفة ظاهرة وقول بالموجب، وخروج من الدين.

قلت: وبيان جريه في أفعال الله تعالى أن يقال حال ما يفعل الله الفعل، إما أن يصح منه الترك أو لا، إن قيل: لا لزم الجبر، وإن قيل: يصح، ولا بد من المرجح، فوقوع فعل الله تعالى عنده إما على سبيل الوجوب لزم قدم العالم، وأن لا يكون مختاراً إذ الداعي هنا ليس من فعل الله حتى يقول فاعل السبب فاعل المسبب، وإما على سبيل الجواز لزم التسلسل بأن يحتاج الداعي إلى داعي، والمرجح إلى مرجح، إذ الفرض أنهم يقولون أن الداعي ليس من فعل الله، فما أجبتم به فهو جوابنا، ولا مخلص لهم من هذا إلا بنفي المرجح وبنفي كونه موجباً.
(ي): فإن قالوا: أن وجوب كون القديم تعالى فاعلاً لا يخرجه عند حد الاختيار، قلنا: فيلزم في العبد مثله، إذ لا فارق إلا كونه تعالى قديماً، والعبد محدثاً، وهو لا يقتضي الفرق في الاختيار.

[الفائدة العشرون: في تفسير الداعي والمرجح]
كثيراً ما يذكر أصحابنا الداعي والمرجح، وقد يخفى معناهما على كثير، فاستحسنا الكشف عنه، فنقول: أما المرجح فهو ما يرجح الفعل على الترك أو العكس، وأما الداعي فهو الباعث على الفعل، وهو قسمان: داعي حكمة، وداعي حاجة، فداعي الحكمة هو: العلم أو الاعتقاد أو الظن بأن في الفعل أو الترك منفعة للغير، أو دفع مضرة عنه، وأما داعي الحاجة فهو: علم الفاعل واعتقاده أو ظنه أن له في الفعل منفعة أو دفع مضرة عنه، أو عمن يحب، وقد يسمى داعي الحاجة إلجاء، وذلك حيث لا يقاومه صارف، والصارف هو: العلم أو الاعتقاد أو الظن بأن عليه في الفعل مضرة أو فوت منفعة عنه، أو عمن يحب.
قلت: فالمرجح يشمل الباعث.

[الفائدة الإحدى والعشرون: في أن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ليس المطلوب منعه من الإغواء بالقهر والإلجاء]
إن قيل: قد أمر الله تعالى بالاستعاذة من الشيطان، فهل المطلوب منعه من إغواء العبد بالقهر والإلجاء؟
قيل: لا، إذ ذلك ينافي التكليف، وليس المطلوب أيضاً منعه بالأمر والنهي؛ لأنه تعالى قد فعله ولا فائدة في طلب ما قد فعل، وإنما المراد فعل الألطاف التي يكون المكلف معها أقرب إلى مخالفة الشيطان لعنه الله من تنبيه على دليل أو إرشاد إلى ذكر، ونحو ذلك مما يعتصم بسببه من شر الشيطان، وفعل اللطف لا يمنع اختيار العبد المعصية، كما قرر في موضعه.

[الفائدة الثانية والعشرون: في حقيقة الفعل والفاعل]
في حقيقة الفعل والفاعل عند متكلمي الأئمة.
فأما الفعل فقال (الأمير ح): هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه ونحوه، (للسيد مانكديم) وزيادة لفظ كان؛ لأن حال وقوعه يخرج عن تعلقه بالقادر، ولئلا يبطل الحد بالمسبب الذي يوجد بعد خروج فاعله عن كونه قادراً بالعجز، أو الموت، كما في الرامي فإنه قد يرمي فيموت، أو يعجز قبل الإصابة.
(المهدي): وأحسن منه أن يقال: ما أثر في وجوده قادرية.
وأما الفاعل فقال الأمير(ح): هو من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه، وزاد لفظ: بعض؛ لأن الفاعل يكون فاعلاً وإن لم توجد منه جميع مقدوراته، ولفظ كان للإحتراز عما تقدم في الفعل.
وقال المهدي: هو من أثرت قادريته في إيجاد.
واعلم: أنه لا فرق بين الفعل والمحدث خلافاً للسيد مانكديم، فإنه قال: إن المحدث يعلم محدثاً وإن لم يعلم أن له محدثاً، لخلاف الفعل فإنه إذا علم أن له فاعلاً ضرورة وإن لم يعلم بعينه، ثم يقع الكلام في تعيين الفاعل، وذلك إما باختبار حاله بأن تجد الفعل واقعاً بحسب قصده وداعيه، منتفياً بحسب كراهته وصارفه، فإذا وجدت ذلك حكمت بأنه فعله على الخصوص، وإما بأن هذا المقدور لا يجوز كونه للقادر بالقدرة، فيجب أن يكون القادر للذات، وهو الله تعالى، وفي دعوى الفرق نظر؛ لأن حاجة المحدث إلى محدثه كحاجة الفعل إلى فاعله وذلك جلي.

[الفائدة الثالثة والعشرون: في تقسيم الفعل]
لأصحابنا في تقسيم الفعل طريقة حسنة، وذلك أنهم قالوا: ينقسم إلى ماله صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه، وإلى ما ليس ذلك أي ليس له صفة زائدة على كونه فعلاً كانخفاض الرمل عند السير، والكلام اليسير، ونحو ما يقع من الساهي ولا مدح فيه، وأما ما له صفة زائدة فهو فعل العالم بفعله المميز له إذا لم يكن ملجأ، وهو ينقسم إلى: ماله فعله، وإلى ما ليس له فعله، الأول الحسن وهو ما لا يستحق فاعله ذماً بوجه، والثاني القبيح وهو ما يستحق فاعله الذم على بعض الوجوه إلا في حالة عارضة، وقلنا: على بعض الوجوه لتدخل الصغائر والقبائح الواقعة من الساهي والنائم؛ لأن القصد غير شرط عندنا ولتدخل ما يقع من الصبي والمجنون؛ لأن العلم غير شرط وما وقع من المكره والملجأ عند من يقول بقبحها، إذ لا يستحق الذم عليها إلا على بعض الوجوه.
فإن قيل: لم وصفتم فعل الساهي ونحوه بالقبح، ولم تصفوه بالحسن؟ قيل: لأن القبيح يقبح لوقوعه على وجه من أي فاعل كان، ولا يحسن الحسن إلا لغرض فيه وتعريه عن سائر وجوه القبح عند الجمهور، وقلنا: إلا في حالة عارضة للاحتراز عن أكل الميتة وشرب الخمر للمضطر فقد يجب، ومع ذلك فإنه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، وحالة الوجوب عارضة، والأصل القبح؛ لدخوله في حد القبيح، ثم الحسن ينقسم إلى ما له صفة زائدة على حسنه، وإلى ما ليس له ذلك، وهو ما أعلم فاعله حسنه أو دل عليه.
(السيد مانكديم): ولهذا لا توصف أفعال القديم تعالى بالمباح، وإن كان فيها ما صورته صورة المباح كالعقاب.

(المهدي): فلا يسمى مباحًا؛ لأن المباح ما أعلم فاعله حسنه، وينقسم إلى ماله صفة زائدة على حسنه، وإلى ما يستحق بتركه الذم أولاً.
المخيرة، وفرض الكفاية، والموسع، والمضيق الذي تركه صغيرة، وقد دخل في الحد ما يستحق بتركه الذم في حالة عارضة، كتناول الميتة للمضطر، إذ يجب للضرورة وهي حالة عارضة.
والثاني: إما أن يستحق بتركه المدح أولاً.
الأول: المكروه وهو شرعي كقتل القمل في الصلاة، وعقلي كتقطيب الوجه لغير سبب، ثم الواجب ينقسم إلى معين وهو ما لا بدل له عقلياً كمعرفة الله والاعتراف بنعمه، وشرعياً كالصلوات، ومخير وهو ما له بدل كخصال الكفارة في الشرعي، ورد الوديعة بالنفس أو الغلام في العقلي، ومضيق وهو ما لا يجوز تأخيره عن وقته كقضاء الدين عند المطالبة في العقلي، والصلاة في آخر الوقت في الشرعي، وموسع كالمثالين مع عدم المطالبة وتضييق الوقت، وينقسم الواجب إلى ما له سبب موجب، وإلى ما ليس له ذلك، فالأول كقضاء الدين إذ سببه الاستقراض وشكر المنعم، فإن سببه النعمة، ورد الوديعة سببه القبض، وحفظها سببه التكفل هذا في العقليات، وفي الشرعيات كالكفارات، فإن سببها ما تضاف إليه من ظهار أو قتل، وفي كفارة اليمين أو الحنث أو مجموعهما على الخلاف، والثاني كالإنصاف في العقليات، إذ لا سبب له موجب، وكالصلاة والصيام في الشرعيات، وينقسم ماله سبب إلى ما يكون سبب وجوبه من جهتنا كالكفارات، إذ سببها في حنث أو ظهار من جهتنا، وإلى ما يكون سببه من الغير، نحو ما تحمله العاقلة من دية الخطأ؛ فإن سببه القتل وهو من غيرهم.

8 / 28
ع
En
A+
A-