وأما المفاسد اللازمة عليه فهي كثيرة منها أنهم جعلوا الاستقراء والتمثيل من الظنيات، واعتمدوا عليهما في حد القياس ويلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم ظنياً لا يقينياً، أما الاستقراء فلأنه قد روي إجماع محققيهم على أن المقدمات الحقيقية إنما يتصيدها العقل من استقراء الجزئيات بأن يتصور صورة زيد، ثم صورة شخص آخر، ثم كذلك حتى يرتسم في نفسه صورة الكلية الشاملة لجميع أشخاص الناس، وأما التمثيل فلأن اليقيني لا يكون قياساً إلا إذا حصل فيه علة جامعة، وحينئذٍ يكون من قياس التمثيل الذي جعلوه ظنياً؛ فيقال: لسنا نعلم أن العالم حادث إلا لحصول معنى، وهو التغير إذ لا معنى لقياس التمثيل إلا إذا كان مبنياً على علة، فإذا كان الأمر كذلك، وهم قد صرحوا بأن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان إلا الظن؛ فقد نقضوا قولهم وظهر أنه لا يقيني عندهم؛ لأن المقدمات التي يسمونها يقينية قد بنوها على ما لا يفيد عندهم إلا الظن، وبهذا يتبين لك أنه لا غرض لهم إلا الخداع، والإلحاد لا بيان الأدلة وأن دعواهم هذه لو تمت لكان حدوث العالم ظنياً، ويلزم منه أن يكون إثبات الصانع جل وعلا ظنياً، فيحصل ما راموه من نفي الصانع وإبطال الشرائع.
[الفائدة الثالثة عشرة: فيما يعلم بالدليل]
ما يعلم بالدليل أنواع:
أحدهما: ما لا يعلم إلا بالعقل، وهو ما توقفت صحة الشرع على العلم به، كإثبات الصانع وصفاته من كونه قادراً، عالماً، حياً، غنياً، عدلاً، حكيماً؛ إذ ما عدا معرفة ذلك موقوف على العلم به، ولا يصح الاستدلال بفرع الشيء على أصله، ألا ترى أن الكتاب لا يكون حجة إلا إذا ثبت أنه كلام ذلك العدل الحكيم، والسنة لا تكون حجة إلا بعد ثبوت أنها سنة رسول ذلك العدل الحكيم، والإجماع والقياس يرجعان إلى الكتاب والسنة، ولا شك أن ذلك كله فرع على معرفة الله وعدله وحكمته، ولا يصح الاستدلال على ذلك بالسمع، ذكره السيد مانكديم وهو ظاهر قول سائر العترة، إلا أنه يصح الاستدلال على إثبات الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول عند أئمتنا، ومعنى ذلك أنا نبين وجه دلالتها على المطلوب بما يستخرج منها من الطرق العقلية؛ لأنها منبهة على أقوى طرق الفكر الموصل إلى العلم بالمطلوب؛ فهي دليل بالتدريج، إذ دلت على أقوى طرق الفكر، والفكر دليل عليه جل وعلا، كما يستدل بصحة الفعل على كونه قادراً، وبكونه قادراً على كونه حياً.
ومن كلام علي عليه السلام: (فبعث إليهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه؛ ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة، من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعائش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم)، رواه في النهج. وهو نص في ذلك.
فأما غير المثير فلا يصح الاستدلال به على إثبات الصانع وعدله؛ لأنه يكون دوراً إذ يكون دليلاً، إلا إذا أثبت أنه من عند الله، ولا يثبت ذلك إلا بعد صحة ثبوت الله تعالى وعدله، فيتوقف الدليل على ثبوت المدلول عليه، وهذا هو الدور.
(السيد أحمد بن محمد لقمان): ويصح الاستدلال بالقرآن على وجوده تعالى، لا على طريقة الاستدلال به على الأحكام الشرعية، بل على طريقة أخرى وهي أن يقال القرآن كلام، ولا بد له من متكلم، وليس المتكلم به البشر؛ لعجزهم عن معارضته بعد التحدي، فلم يبق إلا أنه كلام متكلم غيرهم، مخالف لهم في جميع صفاتهم، وليس ذلك إلا الله، والاستدلال به على هذه الطريقة؛ كالاستدلال بسائر المخلوقات، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:52]، فبين تعالى أن القرآن جميعه بلاغ ومنذر وسبب للعلم بوحدانية الله تعالى، وللتذكر، والتفكر من أهل العقول، وليس ذلك إلا على هذه الطريقة.
(المنصور بالله): ولا يستدل على نفي التشبيه، وعلى كونه تعالى موجوداً بالسمع، لما مر الإمام عز الدين عن (ي)، ويصح الاستدلال على كون أفعال العباد منهم، وما جانسها بالسمع إذ يكفي في صحة السمع الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم على الجملة؛ لأنه إذا ثبت ذلك، وثبت نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صح السمع.
قال: (ي) لأن أصوله قد تمهدت، قال: وهذا من جهة النظر، أما من حيث الإلزام فلا لأنه ما لم يثبت أن الله لا يفعل القبيح لم يصح الاستدلال بالسمع.
النوع الثاني: ما يستدل عليه بالعقل والشرع كمسألة الرؤية، وكون الآحاد حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضه.
النوع الثالث: ما لا يعلم إلا بالشرع كالأحكام الشرعية، وبعض ماله تعلق بها نحو كون الإجماع والقياس حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضها.
[الفائدة الرابعة عشرة: فيما يعرف به بطلان الدليل]
يعرف بطلان الدليل بإبطاله بقاطع في القطعيات والظنيات؛ فإن القطعيات كإبطالنا لدليل من ينفي التحسين والتقبيح العقليين، بدليلنا القاطع على ثبوتهما والظنيات كإبطال مذهب من يقول إنما الربا في النسيئة بالأدلة القاطعة على تحريم الربا مطلقاً، أي ربا الفضل والنسيئة، ويبطل الظني أيضاً بإبطاله بظني يلتزمه الخصم، وذلك كمعارضة القياس لعدم وجوب الصوم في الاعتكاف قياساً على الوقوف بعرفة بجامع، كون كل منهما لبث في مكان مخصوص، فيعارض بأنه يلزم ألا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة، والخصم يلتزم أن الوقوف بعرفة ليس قربة بنفسه أو يبطل بدليل قد ثبت كونه دليلاً بقاطع، وذلك كإبطال دليل الخصم بقياس صحيح لقيام الدليل القطعي على حجية القياس.
قال في الأساس: (ولا يبطل بغير الدليل القطعي أو الظني الذي يلتزمه الخصم أو يدل على كونه دليلاً دليل قاطع، واعلم أن الدليل الذي أبطل به دليل الخصم أن تضمن إثبات خلافه صح إبطال دليل الخصم، وإثبات خلافه وإن لم يتضمنه ثبت الإبطال فقط، إلا أن يكونا في طرفي نقيض إذا بطل أحدهما ثبت الآخر كإبطال القول بقدم العالم؛ فإنه إذا بطل القدم ثبت الحدوث إذ لا واسطة بينهما).
[الفائدة الخامسة عشرة: في التحسين والتقبيح العقليين]
قال المهدي: الحسن ما ليس بقبيح، ولفاعله فيه غرض صحيح، فخرج فعل الساهي وغير المكلف، وما لم يقصد كانخفاض الرمل عند المشي، فكل ذلك لا يوصف بحسن ولا قبح، وأقرب منه قول الإمام القاسم بن محمد: هو ما لا عقاب عليه، فيدخل في ذلك الواجب والمندوب والمباح.
وأما القبيح فأحسن ما حد به قول الإمام القاسم بن محمد حيث جعله ضد الحسن، فهو ما يعاقب فاعله، وقد يزاد فيه على بعض الوجوه للاحتراز عن الصغائر إن لم تكن من مرتكب الكبيرة أو من المصر عليها فإنها قبيحة، ولا يعاقب عليها؛ لأنها مكفرة لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء:31]، أما إذا كانت من مُصر فإنه يعاقب عليها؛ لقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ...}الآية [الكهف: 49]، واحترز به أيضاً عن القبائح الواقعة من الملجأ، ومن لا تكليف عليه فإنها قبائح، ولا يستحق العقاب عليها، وقد دخل في الحد الإخلال بالواجب؛ فإنه يسمى قبيحاً.
وأما المهدي فقال: القبيح لغة من صفات الأفعال؛ إذ لا يقال: نفي قبيح، بل فعل قبيح، وإطلاقه على الإخلال بالواجب مجاز تشبيهاً للترك بالفعل، وإنما استحق على الإخلال بالواجب عقاباً؛ لكونه معصية لا لكونه يسمى قبيحاً، وإنما كان القبح مختصاً بالأفعال؛ لأنه مسبب عن وجه يقع عليه، والنفي لا يعقل فيه اختلاف وجوه وقوعه؛ لأن وقوعه غير متجدد إذ الأصل النفي.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا خلاف أن العقل يستقل عن السمع، بمعرفة الله تعالى وتوحيده ودلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة، ولا خلاف في استقلاله بمعرفة حسن الشيء بكونه صفة لكمال كالعلم، أو نقص كالجهل، أو بمعنى ملائمته للطبع كالملاذ ومنافرته له كالألم.
قلت: والتحقيق أن ما كان بمعنى الملاءمة، أو المنافرة فليس بعقلي إذ يدركهما العاقل وغيره، ولو سلم فقول المهدي إنه يلزم قبح بعض المحسنات كالفصد وحسن ما يلتذ به من المقبحات كالظلم مدفوع باعتبار قيد الحيثية، فإن النفرة من الفصد من حيث التألم له، ولا يختص بذلك العقلاء وحسنه من حيث معرفة نفعه، وحسن الظلم من حيث الالتذاذ به لا من حيث كونه ظلماً، وهو وجه قبحه، قال أئمتنا عليهم السلام: ويستقل العقل بمعرفة حسن الفعل وقبحه باعتبار كونه متعلقاً للمدح والثواب، أو للذم والعقاب في العاجل، وباعتبار كونه متعلقاً للمدح والثواب أو للذم والعقاب في العاجل والآجل؛ لأن ذلك هو المعلوم من تصويب العقلاء لمن مدح المحسن، أو أحسن إليه، أو ذم المسيء، أو عاقبه، وإن تراخى ذلك، وليس ذلك بتأديب الشرع، وإلا لما استوى فيه الموحد والملحد.
(الإمام أحمد بن سليمان): ألا ترى أن الملحد لو رأى صبياً يريد أن يتردى في بئر، أو يتناول ما يضره لمنعه واستحسن منعه واستقبح تركه، وليس ذلك أيضاً لرجاء الثواب.
(السيد مانكديم): لأنا نفرض ذلك في ملحد لا يؤمن بالله واليوم الآخر ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن إرشاد الضال وليس ذلك إلا لحسنه عنده، وكونه إحساناً.
وأما ما قيل من أن هذه قضايا مشهورة، وآراء محمودة تنغرس في الصبا وأوائل النشوء، وربما يكون سببها التسالم والمعاشرة، وليست أمورًا بديهية، فقد أجاب عنه (ي)، والسيد أحمد بن محمد الشرفي بما حاصله: أنكم إن أردتم بقولكم أنها مشهورة أن العقول قاضية بحسنها وقبحها، فهو المطلوب بقولنا أنها ضرورية، وإن أردتم أنها مستفيضة فيما بينهم وحسنها متغرس في قلوبهم، من غير علم بحسنها وقبحها ولا ثقة بذلك، فهو باطل للقطع بقبح الظلم ونحوه، وبوجوب القضاء وشكر المنعم ونحوهما كالقطع بسائر العلوم البديهية نحو كون العشرة أكثر من الخمسة، ونعلم أن المخالف يعلم بضروة عقله الفرق بين من أحسن إليه، وبين من أساء إليه وبين الظلم والعدل والجور، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، مع أن كلامنا معهم كما قال (ي) ليس إلا في كون هذه القضايا مقررة في الأذهان، متحققة في العقول؛ فإذا ساعدونا على ذلك فقولهم بعده أنها قضايا مشهورة تنغرس في الصبا، وأوائل النشوء لا يضرنا بعد تسليم، كونها عقلية.
(الأمير الحسين): والعقلاء يعلمون بعقولهم التفرقة بين من قطع يده، لا لغرض وبين من قطعها؛ لمنع سراية الجراحة المؤدية إلى هلاكه، ويمدحون على الأول، ويذمون على الثاني مع اشتراك الفعلين في النفور منه، وليس ذلك إلا لعلمهم بقبح إحدهما دون الآخر، وهذا أمر لا يرده إلا مكابر.
قال أئمتنا عليهم السلام: ويحسن الانتفاع بما لا ضرر فيه على أحد مما لم يرد فيه حكم شرعي من الأشياء، والحجة عدم حكم العقلاء بمدح، أو ذم أو ثواب أو عقاب من استظل تحت شجرة، أو تنفس في الهواء، أو مشى في الفضاء، فوجب القول بحسنه لما مر من أن الحسن ما لا عقاب عليه، وللقطع بحسن الإحسان ونعلمه ضرورة من غير فرق؛ ولأنه خلاف في حسن ما يضطر إليه الإنسان كالشرب من الماء الجاري عند العطش، ونحو ذلك مما تدعو إليه الضرورة فكذلك سائر المنافع بعلة أنها منفعة لا مضرة فيها على أحد، وأيضاً لا بد في خلقها من غرض، وإلا لكان عبثاً ولا يجوز عود الغرض على الباري تعالى؛ لاستحالة الضرر والنفع عليه فتعين عوده علينا، ولا يجوز أن يكون ضرراً؛ لأنا لا نعلم في تناولها ضرراً، بل نفعاً عظيماً، ولو ضرت فضررها إنما يكون بتناولها وفي ذلك إباحتها، ثم إنه تعالى لا يفعل الضرر ولا يريده لغير المستحق؛ لتعاليه عن الظلم، فتعين أن غرضه تعالى انتفاعنا بها للتنعم، ولا يتم ذلك إلا بتناولها وفي ذلك إباحتها.
[الفائدة السادسة عشرة: وجوب شكر المنعم]
قد ثبت عند أئمتنا أن وجوب شكر المنعم حكم عقلي، وأنه معلوم بالضرورة، ويزيده بياناً أن المعلوم: أن فاعل الإحسان يجد عنده فرقاً جلياً بين من قابل إحسانه بالثناء ونحوه، وبين من قابله بالذم والإساءة إليه، وفي عهد علي عليه السلام للأشتر: (ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه). رواه في النهج.
وفيه إشارة إلى فائدة التمييز بين المحسن والمسيء، وهو نوع من فوائد وجوب شكر المنعم، ومن فوائده استحقاق الشاكر المدح والسلامة من الذم، والتحلي بصفة الكمال والسلامة من صفة النقص مع استحقاق الثواب آجلاً، والسلامة من العقاب كذلك، ولا شك أن الشكر من أسباب المزيد والكفر من أسباب الحرمان وقال الشاعر:
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي .... والكفر مخبثة لنفس المنعم
ومن كلام علي عليه السلام: (لولم يتوعد الله على معصيته لكان يجب أن لا يُعْصَى شكراً لنعمته) رواه في النهج. وهو نص في المقصود.