واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما أمر ولده بترك النظر؛ لما في النظر من الخطر، مع أنه ليس مقصودًا لذاته، وإنما يقصد به التوصل إلى معرفة الحق؛ فإذا كان من يقطع بصحة نظره كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام والزهراء ومن قاربهم في حسن النظر في سلف الحسن عليه السلام قد نظروا، وعلم ما أداهم إليه نظرهم سماعاً أو بنقل من لا يشك في صدقه عنهم، فقد حصل المطلوب، وهو معرفة الحق الذي تجبُ معرفته، ومن طلب ما أمسكوا عنه فقد جاوز حد عقله، وخرج من رسوخه في العلم إلى ظلمات جهله.
فإن قيل: فكيف يجوز من الحسن أن يأبى قبول ذلك، حتى قال له: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك)، قيل: إن كان أبى ذلك فلم يكن لشكه في كونه حقاً، بل لما يفوته من الأجر على مشقة النظر وطلب العلم، ولذا أورد في الأمر بالنظر والتفكر وفي بيان فضلهما ما ورد.
فإن قيل: هل في كلامه عليه السلام ما يدل على الأخذ بالجمل؟! قيل: لا، بل يدل على وجوب الإمساك عما لم يكلفه الإنسان، وهذا شأن الراسخين في العلم من الأنبياء وغيرهم، بدليل قول أمير المؤمنين عليه السلام:
(واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة، دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق عما لم يكلفهم الله البحث عن كنهه رسوخاً) رواه في النهج.

وقال في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: (ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلف، وأمسك عن الطريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال).
فإن قيل: هل في وصية علي عليه السلام لولده عليه السلام بالأخذ بما مضى عليه آباؤه دليل على جواز تقليد المحق في العقائد وقطعيات العمليات.
قيل: أما إثبات الصانع ونبؤة مدعي النبوة فلا؛ لأنا لا نعرف المحقين إلا بأخبار الأنبياء، ولا نعرف الأنبياء إلا بالمعجز، ولا نعرف المعجز إلا بعد إثبات الصانع، ولا نثبته إلا بالنظر. وأما في سوى ذلك فلا مانع من اتباع من علمنا أنه محق إما بقيام معجز كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو إخبار نبي بعصمته، وبأنه على الحق كعلي والحسنين والزهراء وجماعة العترة، أو الأمة، ولا يكون اتباعهم، والحال هذا تقليداً؛ لأنه لدليل، وقد ذكر نحو هذا الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الجواب المختار، وكلام أمير المؤمنين لا يدل على اتباع ولده سلفه إلا في صفات الله ونفي الشريك، ونحو ذلك مما يجوز فيه الخطأ مع النظر القاصر بدليل قوله عليه السلام: (فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به) حتى قال: (وما كلف الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك) رواه في النهج.

[الفائدة السابعة: في وجوب التثبت في النظر]
في قول أمير المؤمنين عليه السلام: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم)، وقوله: (فإن أيقنت أنه قد صفى قلبك...) إلى آخره، دليل على وجوب التثبت في النظر أصولاً وفروعاً، وبذل الوسع في دلالات الأدلة، ومعاني الألفاظ فلا يكتفي بأول خاطر.
وفي قوله: (وتعلم) دليل على ما أشرنا إليه سابقاً من الاستعانة بأنظار العلماء، إذ هو في معنى التعلم منهم، بل ينبغي له مراجعة من أمكنته مراجعته، فقد قال علي: (فمن شاور الرجال شاركها في عقولها) رواه في النهج.
وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ }[آل عمران: 59] ولم يفصل وقال: (من استبد برأيه هلك) وقد حث أمير المؤمنين عليه السلام على التبصر والتفهم بجعله اليقين على تبصرة الفطنة.
وقوله: (فمن تبصر الفطنة تبينت له الحكمة وجعله العدل على غائص الفهم وغور العلم)، وقوله: (فمن فهم علم غور العلم) ذكر ذلك في سياق قوله: (الإيمان على أربع شعب) وقد نبه الله على ذلك بقوله: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُوْنَ }[الأنعام: 98] والفقه: الفهم.

[الفائدة الثامنة: في الدليل]
الدليل لغة ما يُعَرِّفُ طرق الأمكنة على وجه يقتدى به، أو بقوله، جمادًا كان أو حيواناً، عاقلاً كان أو غير عاقل، والدلالة لغةً: العلامة، وأما في الاصطلاح فهما بمعنى واحد، وهو ما إذا نظر الناظر فيه نظراً صحيحاً، أوصله إلى المطلوب ومن خص استعمال الدليل بما يوصل إلى العلم، قال: أوصله إلى العلم بالغير إذ ما يوصل إلى الظن يسمى أمارة، وإطلاق اسم الدليل عليه مجاز، ولا يشترط في الدليل أن يكون واضعه وضعه لذلك، كما قال السيد مانكديم محتجاً بأنه لا يقال في أثر اللص أنه دليل عليه، وإن أمكن الاستدلال به على موضعه؛ لأنه لم يضعه لذلك لمبالغته في إخفاء نفسه، لأنا نقول قد حصل الغرض، وإن لم يقصده فعدم القصد لا يخرجه عن كونه دليلاً كما أن ترك النظر في الدليل لا يخرجه عن كونه دليلاً.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأدلة خمسة: العقل، والكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وللاستدلال بكل منها شروط. أما العقل فيشترط في الاستدلال به أن يستقرأ طرق الشرع، فلا يوجد للحادثة حكم فيها إلا أن تكون قضية العقل مطلقة؛ فلا يشترط ذلك، لأن قضيته المطلقة لا يرفعها الشرع كقبح الظلم، ومن يجوز أن لا يكون للحادثة حكم للعقل زاد وأن يكون للعقل حكم في الحادثة.
وأما من يقول لابد له فيها من حكم فلا حاجة له إلى هذا الشرط.

وأما الكتاب والسنة القولية فشرط الاستدلال بهما نفي الخطاب بالملغز، والمجمل وإلا لم نثق بالظاهر، ومعرفة العدل والمعجز، وإلا لم نثق بهما والعلم بنفي كتمانه صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا لم نثق بالموجود لتجويز استثناء أو نحوه، وبالفعل عدم الاختصاص به، وبالتقرير أن يتنبه له، وأن لا يكون المقرر كافراً ولا غائباً ولا أنكره غيره.
وبالإجماع معرفة كيفيته من كونه قولاً أو فعلاً أو تركاً أو سكوتاً وتواتره في القطعي، والتلقي بالقبول، كالتواتر على الخلاف، وبالقياس معرفة أركانه وشروطها، وكونه قطعياً في القطعي.

[الفائدة التاسعة: قضية العقل]
وقضية العقل المطلقة مقدمة في الاستدلال، إن كان للعقل في الحادثة قضية مطلقة، ولا يلتفت إلى غيرها لأن الشرع لا يرد بخلاف قضية العقل المبتوتة، وإن كانت قضيته مشروطة، والمسألة قطعية انتقل إلى طرق الشرع القطعية، فإن عثر على ما يرفع الحكم العقلي عمل عليه، ولم يعرّج على حكم العقل لوجود الناقل، وإلا رجع إلى قضية العقل، وإن كانت المسألة ظنية تتبع طرق الشرع والقطعية والظنية، فإن وجد مغيراً عمل عليه وإلا رجع إلى قضية العقل، وكان ذلك حد الحادثة.

[الفائدة العاشرة: لابد بين الدليل والمدلول عليه من تعلق]
لا بد بين الدليل والمدلول عليه من تعلق، وإلا لم يكن بأن يدل عليه أولاً من أن يدل على غيره أو من أن لا يدل عليه، وذلك التعلق أن يكون لولا المدلول لما صحت الدلالة كدلالة الفعل على الفاعل، إذ لولا الفاعل لما وجد الفعل، أو لولا المدلول لما وجبت الدلالة، كدلالة المعلول على العلة، والمسبب على السبب، والمقتضَى -بفتح الضاد- على مقتضيه، أو لولاه لما اختيرت، كدلالة القبيح على الجهل، والعدو على الشوك، أو لولاه لما حسنت كدلالة المعجز على صدق مدعي النبوة؛ إذ لو لا الصدق لما حسنت المعجزة، ويدخل في هذا الأدلة الشرعية، فإنه لولا كونها مصالح لما حسن التكليف بها.

[الفائدة الحادية عشرة: امتناع ثبوت ما لا دليل عليه]
اعلم أنه يمتنع ثبوت ما لا دليل عليه، ويجب نفي ما ادعي من ذلك، والقطع ببطلانه إذ في تجويز ذلك فتح باب الجهالات، والقدح في المعلومات ضرورة أو استدلالاً، وعدم الثقة بالمشاهدات؛ إذ يؤدي إلى تجويز كون الخردلة كالجبل ورأس الآدمي كرأس الحمار، وتجويز شبه للخصم في الاستدلاليات قادحة، فلا يولد النظر العلم إذ توليده إياه يقف على العلم بالدليل، وتجويز القادح ينافي العلم؛ لأنه يغير علمه بالدليل فلا يولد نظره فيه العلم بالمدلول، ويلزم عدم صحة قيام الغائب على الشاهد، لتجويز أن حاجة أفعالنا إلينا لأمر غير حدوثها، فلا يحتاج العالم إلى محدث ذلك معلوم، ويلزم أن لا نقطع باستناد فعل إلى فاعله لجواز أن الفاعل غيره فتبطل أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما هذا في العقليات، وأما السمعيات فإن كان الْمُدَّعَى مما يعم به التكليف كصلاة سادسة وجب القطع ببطلان الدعوى، إذ لو كان لعلمه المكلفون وإلا لزم تكليف ما لا يعلم والمعاقبة عليه وذلك قبيح، وإن كان مما لا يعم به التكليف وجب الوقف حتى يظهر الدليل أو عدمه بعد البحث في مظان وجوده؛ لأنه يجوز خفا دليله على بعض المكلفين.

[الفائدة الثانية عشرة: في بيان الاستغناء عن فن المنطق وبيان مفاسده]
لم يعول قدماء أئمتنا عليهم السلام وكثير من متأخريهم على علم المنطق ولم يذكروه في كتبهم ولا بنوا عليه شيئاً من قواعد دينهم، وما ذلك إلا للاستغناء عنه بالأدلة العقلية والنقلية، ولما يؤدي إليه ويلزم على التمسك بقواعده من المفاسد.
قال السيد محمد بن إبراهيم رحمه الله: قد اشتملت خطب أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه، وسائر الأئمة على أدلة التوحيد من غير ترتيب أدلة المنطقيين وتقاسيم أساليب المتكلمين، ودرج السلف على ذلك وقال السيد حميدان: إن الحد المركب من جنس وفصل لم يتضمن إلا حكاية المذهب ومجرد الحكاية لا يصح أن يكون دليلاً على صحة المحكي إذ ما من حكاية باطلة إلا ويمكن أن تحد بحد من جنس وفصل.

وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ما معناه: إن جميع العلوم الإسلامية مستغنية عن المنطق؛ لأنه في معرفة الحد والبرهان فأما الحد فهو ضرب من التفسير، ونحن نعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة ولغة العرب، ونستعمل ألفاظ العموم التي يراد بها الخصوص كاستعمال الألفاظ الخاصة اكتفاءً بما يدل على التخصيص من القرائن الحالية والمقالية، ونكتفي في إخراج ما يجب إخراجه من الحد وإدخال ما يجب إدخاله بما علم من موجبات الإدخال والإخراج، قال: وبذلك يعرف بطلان اعتبار المنطق في الحدود؛ لأن ما ذكرناه معلوم بالاستقراء، وأما البرهان فهو عندهم إن وسط المقدمتين يستلزم المطلوب، وعلوم الإسلام إنما تستمد من أصل عقلي، أو من أحد الأدلة الشرعية، فالأصل العقلي كقضية العقل المبتوتة، نحو وجوب شكر المنعم والسمعي نحو: {وَأَقِيْمُوا الصَّلاَةَ }[يونس: 87]، وكالقياس والمعتبر في ثبوته ثبوت الجامع بين الأصل والفرع بدليل عقلي أو سمعي، فمتى ثبت ذلك استغنى عن المقدمتين، وكفى في التعبير عنه أن يقال مثلاً: النبيذ حرام كالخمر؛ لمشاركته له في المقتضي لتحريمه وهو السكر، وكذا في العقلي، ومتى لم يثبت لم يصح بهما ولو أمكن تركيبهما -يعني المقدمتين-، ثم قرر ما ذكره بأمثلة تدل على صحته ذكره في الجواب المختار، والحاصل أن جميع ما يذكرونه من الأمثلة لا ثمرة لها، ولا فائدة فإنا إذا علمنا أن كل إنسان حيوان علمنا أنه لا شيء من الإنسان بحجر من دون تكلف إيراد المقدمتين، وتركيبهما في شكل مخصوص، وهكذا يقال في سائر الأشكال هذا في بيان الاستغناء عنه.

6 / 28
ع
En
A+
A-