وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي؛ فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) رواه المرشد بالله، عن أبي سعيد، وهذا حديث الثقلين مروي من طرق عن جماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام عند أئمتنا والمحدثين، وهو متواتر عند من بحث.
وذكر الموفق بالله في الإحاطة تلقي الأمة له بالقبول، وأنه ظهر في أيام الأموية والعباسية من دون نكير.
ومن كلام علي عليه السلام بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ((ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحرًا لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، إلى أن قال: فهو معدن الإيمان، وبحبوحته، وينابيع العلم، وبحوره، ورياض العلم وغدرانه. إلى قوله: جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاج لطريق الصلحاء. إلى قوله: وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى))، رواه في النهج.
ولزيد بن علي والقاسم والهادي وغيرهم من أئمتنا كلمات تؤدي هذا المعنى، ولا خلاف في فضل القرآن الكريم، ولا في وجوب العمل به.
[الفائدة الثالثة: في العلوم المستنبطة من القرآن]
العلوم المستنبطة من القرآن العظيم كثيرة بحيث يمكن معرفة كل شيء منه، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]تبياناً لكل شيء، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم )).
وفي البحر المحيط لأبي حيان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن )).
قال في المختار: ثورالقرآن بحث عن علمه.
وروى ابن أبي جمرة -بالجيم- عن علي عليه السلام: (لو شئت أو أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت).
وعن ابن عباس: لو ضاع علي عقال لوجدته في كتاب الله، حتى لقد استنبطوا منه علم الجبر، والمقابلة، والحساب، والغياصة، وغير ذلك، إلا أنه ينبغي تقديم النظر فيما لا يعذر المكلف بجهله من علومه، كعلم العدل، والتوحيد، والوعد، والوعيد، والحلال، والحرام، وأحكام العبادات والمعاملات، وعلم الطريقة وآداب أهل الحقيقة.
[الفائدة الرابعة: في حكم من تمسك بالقرآن وترك السنة]
ذهب شذوذ من الناس إلى التعلق بظاهر القرآن، وترك العمل بالسنة، وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44]، والبيان منه صلى الله عليه وآله وسلم هو السنة، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ }[النور: 63]، وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ ...} [الحشر: 7] الآية، وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ } [الشورى: 52]، وفرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في غير آية، وقرن طاعته بطاعته.
وعن علي عليه السلام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ،،، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)) رواه أبو طالب.
قال ابن حابس وإسناده موثوق به وكفى به زاجراً عن تقليد الرجال، وباعثاً لكل عاقل على بذل الوسع، فيما يخلصه عند حلول رمسه، ولقاء ربه.
وفي حديث عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرضه: ((يا أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي ، فالمضيع لكتاب الله، كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي، كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لم يفترقا حتى ألقاه على الحوض)).
وفي رواية: ((لن يفترقا)) رواه زيد بن علي عليه السلام في المجموع.
وعن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد؛ إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقرؤه؛ فإن لم يقرؤه فله أن يعقبهم بمثل قراه)) أخرجه أبو داود، وفيه التحذير من مخالفة السنن المتضمنة بيان الكتاب بما لم يذكر فيه نصاً، وإنما تضمنه عموم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوهُ ...} [الحشر: 7] ونحوه، والبيان منه صلى الله عليه وآله وسلم يكون بالتعميم والتخصيص والزيادة كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين في قوله: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف فيكم الكتاب مبيناً حلاله وحرامه) إلى آخره، ومبيناً بصيغة اسم الفاعل والبيان من غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن نص الشرع على حجية قوله وعصمته كأمير المؤمنين والزهراء والسبطين عليهم السلام، وإجماع العترة أو الأمة جارٍ مجرى البيان منه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنهم مؤدون عنه ومبلغون شرعه، وقد يكون بيانهم بما فهموه من مدلولات الكتاب والسنة، كما قال على عليه السلام: (ليس عندنا إلا ما في هذه الصحيفة أو فهماً أوتيه الرجل) أو كما قال.
وقال عليه السلام في الخطبة الزهراء بعد أن ذكر أنه ما من نبي إلا كان له هاد من بعده (وإن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أقامني هادياً مهدياً، فأنا نظيره إلاَّ أني لست بنبي... إلى أن قال: وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، فكل ملة ضالة مضلة إلا من أخذ بحجزتي، وحجزة أهل بيت رسوله، وكتابه، وسنته، واتبع الحبل الأكبر والحبل الأصغر) روى الخطبة هذه الإمام الحسن بن بدر الدين في شرح أنوار اليقين.
وقال زيد بن علي عليه السلام: (الحجة عند الله عز وجل الطاعة لله، ولرسوله، وما اجتمعت عليه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم )، إلى أن قال: (والآخذون بما جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مطيعون لله وللرسول).
وفي الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى عليهم السلام (فيما أجمعت عليه الأمة من الفرائض، فإجماعهم هو الحجة على اختلافهم)، وفيه عنه عليه السلام: (الحجة من الله على الخلق آية محكمة، تدل على هدى، أو ترد عن ردى، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهورة، متسقاً بها الخبر من غير تواطئ، أو عن علي عليه السلام، أو عن الحسن، أو عن الحسين (عليهم السلام)، أو عن أبرار العترة العلماء الأتقياء، المتمسكين بالكتاب والسنة، الذين دل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر أن الهدى فيهم)، وتقدم من كلام الهادي وغيره ما يؤدي هذا المعنى.
واعلم أن البيان على وجهين:
أحدهما: بيان مجمل؛ كبيان الصلاة وقتاً وصفة وعدداً، أو بيان الحج ومقادير الزكاة وما تجب فيه.
والثاني: بيان لحكم لم يذكر في الكتاب نصاً، إلا أنه مدلول عليه بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ ...} [الحشر: 7] ونحوه، وذلك كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع والحمر الأهلية وغير ذلك.
[الفائدة الخامسة: في منع تفسير القرآن بالرأي]
في الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى عليهم السلام أنه قال: (فكلما أجمع عليه علماء العترة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله، فقد لزم أهل الإسلام العمل به، ثم عدد صوراً، مما أجمعوا عليه، حتى قال: أجمعوا على النهي عن الكلام في تفسير القرآن بغير علم، ورووا في ذلك هم والأمة معهم من فسر القرآن برأيه، وقال فيه بغير علم قولاً عظيماً، ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن بعده ممن يجب الأخذ عنه، ثم قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من فسر آية من كتاب الله برأيه لقي الله وهو عليه ساخط )).
قلت: حديث النهي عن تفسير القرآن بالرأي أخرجه أحمد والترمذي عن ابن عباس، قال شيخ العزيزي: حديث حسن، وأخرجه الترمذي، وقال: غريب، والنسائي، وأبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي، وقال العلقمي: بجانبه علامة الحسن، وفي بعض ألفاظ الحديث: ((فليتبوأ مقعده من النار))، وفي بعضها: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ))، ولرزين: ((ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر ))، وفي بعضها: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ))، أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس.
قال العلقمي: بجانبه علامة الصحة.
فإن قيل: ما هو الرأي المنهي عنه؟ قيل: هو الرأي الصادر بلا مستند، مما نبه الله عليه في كتابه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة؛ لأن القرآن باعتبار ما يرجع إليه في تأويله على وجوه:
أحدها: ما لا يعرف تأويله إلا من الكتاب أو السنة، وما يلحق بها نحو كلام علي عليه السلام؛ لأنه حجة، ويدل على هذا ما مر من وصف القرآن بأنه هدى وبيان، وقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام: ((أنت تبين للناس ما اختلفوا فيه من بعدي )) أو كما قال.
الثاني: ما يعرف بالرجوع إلى لغة العرب، وعليه قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً }[الزخرف: 3] ورجوع السلف في تفسيره إليها، ومن ذلك جواب ابن عباس على ابن الأزرق وهو مروي في الإتقان للسيوطي، وفي البحر المحيط لأبي حيان، عن ابن عباس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي علم القرآن أفضل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (( عربيته فالتمسوها في الشعر )).
الثالث: ما يعرف بالرجوع إلى القواعد النحوية والأصولية، مع دقة النظر وإعمال الفكر، وهذا في حق من يريد استنباط الأحكام، والمسائل الكلامية المتعلقة بالعقائد منه.
الرابع: ما لا يحتاج في تفسيره إلى غير تلاوته، وقد دل على هذا كله، وصفه بأنه هدى وبيان لكل شيء.
فإن قيل: في الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى عليه السلام، أنه قال: (إنما التأويل هو الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعلمه إياه من رب العالمين ليس يوصل إلى ذلك إلا بالأخبار المشهورة المتسقة، من غير تواطؤ، أو بنقل صادق عن صادق، وهذا يدل على أنه لا يجوز تأويله إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ).
قيل: نقول بموجبه إذ المراد أنه لا يجوز تأويله إلا بما أرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرجوع إليه، وقد نبه على ذلك بأمره بالرجوع إلى الكتاب تارة، وإلى السنة أخرى، وإلى العربية تارة أخرى، وهذا هو المراد بما مر في بعض الروايات من قال في القرآن بغير علم، ورواية الحسن بن يحيى؛ لإجماع العترة على النهي عن تفسير القرآن بغير علم، ومن رجع إلى ما دَلَّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرجوع إليه في التفسير؛ فقد رجع إلى ما نزل به جبريل عليه السلام، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يفسر من كتاب الله إلا آياً بعدد عَلَّمَهُ إياهن جبريل عليه السلام، وهذا نص في أنه ليس كل آية يتوقف تفسيرها على تفسير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ثبت أن الصحابة كانوا يفسرون القرآن ويستنبطون منه على وجوه مختلفة؛ لأنه ذو وجوه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لابن عباس لما أمره بمحاججة الخوارج (حاججهم بالسنة؛ فإن القرآن ذو وجوه)، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس بعلم التأويل دليل على أن من التأويل ما يرجع فيه إلى قوة الفهم، وقد قال علي عليه السلام في ابن عباس: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وكان يثني على تفسيره، ويحض على الأخذ عنه، والحاصل أن الرأي المنهي عن التفسير به ما لا أصل له في كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا لغة، ولا تقتضيه القواعد النحوية، والأصولية، والقضايا العقلية، بل مجرد عصبية، واتباع للهوى.
[الفائدة السادسة:في وصية الإمام علي عليه السلام لولده الحسن عليه السلام]
قال علي عليه السلام في وصيته لابنه الحسن بن علي عليهم السلام: (واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا إن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردتهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك، دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك لذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفى قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً، فانظر فيما فسرت لك وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب نفسك، وفراغ نظرك، وفكرك؛ فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط والإمساك عن ذلك أمثل) رواه في النهج.
وفي كلامه عليه السلام التوصية بآداب النظر وبياناتها، التي قد وسع المتكلمون فيها الكلام، ومن أنصف عرف أن القول ما قالت حذام.