[الفائدة الثامنة والأربعون والمائة: فيما يترتب على الفرق بين الرواية والشهادة]
واعلم: أنه يترتب على الفرق بين الرواية والشهادة الخلاف في أمور، هل هي من باب الرواية أو من باب الشهادة؟
منها: الإخبار عن رؤية هلال رمضان فإن الخلاف في الاكتفاء فيه بواحد؛ إذ لا يخرج على كونه رواية لعموم المكلفين فهو كالأذان، ومن اشترط العدد ألحقه بالشهادة لا يعم الأعصار، بل يخص تلك السنة، ولا الأمصار على قول، وقد اختلف في ذلك أئمتنا فظاهر ما في البحر عن (م بالله): أنه يكفي خبر الواحد؛ لأنه احتج له بما روى ابن عمر في الشفاء: أن الناس تراءوا هلال رمضان، قال: فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه.
ولخبر ابن عباس في الشفاء: أن أعرابياً أخبر أنه رأى الهلال فامتحنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادتين، ثم أمر الناس فصاموا، ولاعتبار الظن في العبادات.
والقول: بأنه يحتمل أنه قد شهد غيرهما قبلهما غير وارد على الظاهر، وإلا لزم مثله في كل دليل لكثرة الاحتمالات.
وقال (صا وقم): يقبل الواحد في الغيم لاحتمال خفائه على غيره، إلا الصحو فجماعة لبعد خفائه، وهو في الشفاء (عن زيد بن علي و(م بالله).
وروي أن (م بالله) رجع عنه، ورد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسأل الأعرابيين هل كانت السماء مصحية أو لا؟ بل عمل بخبرهما ولم يسأل عن أحد الوجهين وهو في مقام البيان.
وأما أهل المذهب فاعتبروا خبر عدلين أو رجل وامرأتين أو شهادتهما؛ لأن فيه شائبة الخبر والشهادة.
قال (م بالله): في تقرير مذهب الهادي، وقولنا: شهادة عدلين المراد به خبرهما قال: إذ ليس بخبر ولا شهادة على التحقيق، بل فيه شبهة بالشهادة؛ لأنه يعتبر فيه العدد، يعني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا شهد ذوا عدل)) ونحوه وشبه بالخبر؛ لأنه لم يعتبر فيه لفظ الشهادة، يعني كما في خبر ابن عمر ونحوه.
قال: فثبت أنه لا بد من شهادة عدلين أو خبرهما برؤية الهلال.
قال في الشفاء: وهو مذهب الهادي، ورواه في الكافي (عن زيد بن علي و ق و ن) ومنها: إثبات النسب بالقافة، وهي الشبه عند من يعتبرها في ثبوته، فمن جعله حكماً خاصاً ألحقه بالشهادة، أو حكماً عاماً، ألحقه بالخبر، والصواب الأول على أصلهم، لكن أصحابنا لم يثبتوا بها نسباً؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولد للفراش )) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي قال: إن امرأتي أتت بولد أسود: ((عسى أن يكون عرق نزعه)) فلم يعتبر الشبه، وقوله في امراة هلال: ((إن أتت به أصيهب أثيبج فهو لزوجها...)) الخبر.
وذكر حجة الخصم وهي: أنه خلق من ماء من أشبهه وإن لم يثبت نسبه شرعاً.
(ي): أو كان قبل نسخ العمل بالقافة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولد للفراش )).
قال في الشفاء: على أن ما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقوله حجة، وفي شرح مرغم أنه إجماع أهل البيت عليهم السلام، وقال إن ما احتج به المخالف مخالف للأصول، فلا يقبل، ولعل استبشاره صلى الله عليه وآله وسلم بقول المدلجي في زيد وأسامة كان لموافقته الحق، لا يكون ذلك حجة، وفعل عمر ليس بحجة.
ومنها الجرح والتعديل للشاهد والمحدث، فمن جعله خبراً اكتفى فيه بعدل أو عدلة، كإخبار الديانات، وهم: (م بالله و ط و ي والمهدي والإمام شرف الدين) وقواه المفتي، فلا يعتبر لفظ الشهادة، فيصح بلفظه وبالرسالة والكتابة، وفي غير وجه الخصم.
قال في البحر: إجماعاً، وقبل التخاصم، واحتج لهذا القول في البحر بهذه الفوائد المرتبة على كونه خبراً، حيث قال بدليل اعتبار عدم اعتبار لفظها... إلخ، وهو احتجاج بمحل النزاع.
وقال (هـ و ن) بل، هما شهادة فلا بد من لفظها، وعدلين أو رجل وامرأتين أو شاهد، ويمين المدعي كالشهادة، وهذا هو المقرر للمذهب، واحتج له في شرح الإبانة بأن حكم الحاكم يتعلق بالتزكية؛ لأن شهادة الشاهدين إنما تثبت بالتزكية فتكون شهادة كالشهادة على الشهادة.
ومنها في الترجمة عن العجمي، قال في الفتح وشرحه: وتصح الشهادة بترجمة عدل عن عجمي لعربي والعكس.
قلت: المذهب خلافه كما في البحر والتاج، وأنه لا بد من عدلين، قال في البحر: وإن عبر عربيان عدلان عن عجمي جازت الشهادة عليه بما عبرا به، وإن استندت إلى الظن.
(المهدي): إن لم يكن على وجه الادعاء ففيه نظر.
قلت: لأن الشهادة لا تكون إلا عن يقين، ويمكن أن يقال خصته الضرورة.
وأما التعبير عن الفتوى فالظاهر أنه يكفي عدل؛ لأنها رواية لا شهادة، وأما الترجمة عن الخط فذكر (أهل المذهب): أنه يكفي في الشهادة على كتاب الوصية، وأوراق المعاملات، وكتاب حاكم إلى مثله، قراءة الفاعل لذلك على الشهود، وأمرهم بالشهادة عليه، وهذا يدل على أنه يكفي ترجمة الفاعل لذلك.
ومنها تقويم السلع فيما يجب فيه التقويم، فلا يثبت إلا بشهادة عدلين بصيرين؛ لأن الله تعالى قد أوجب الرجوع إلى حكم العدلين في جزاء الصيد دفعاً للاختلاف في المماثلة، فوجب الرجوع إليهما فيما أشبهه، ولا فرق عند الهادوية في التقويم للقسمة أو غيرها.
قال (ي): يكفي تقويم واحد في القسمة وكأنه شبهه بالقسمة، فإنه يكفي فيها قسام واحد في تعيين الأنصبه؛ فيقول: هذا إلى هذا، وهذا يناسب هذا، أما فيما لا يفتقر إلى التقويم فهو أجماع، وأما فيما يفتقر إليه فلخبر عبدالله بن رواحة في قسمة ثمار خيبر، سولأنه لم يكن لعلي عليه السلام إلا قسام واحد.
d: فإن اختلف العدلان في التقويم عمل بالأقل، حيث لم يوجد غيرهما فإن وجد كمل.
[الفائدة التاسعة والأربعون والمائة: في تحريم قبول القاضي الهدايا]
في شرح التجريد في باب القضاء، قال أي الهادي عليه السلام: ولا يجوز له أي القاضي أن يقبل الهدايا من الناس، فإن قبل كانت لبيت مال المسلمين، وهذا قد بينا ما ورد فيه في كتاب الزكاة من الآثار، ولأنه متهم، وجار مجرى الرشوة.
وعن علي عليه السلام من طريق زيد بن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((يا علي لا تقبل هدية مخاصم ولا تضيفه دون خصمه ))، وروي: ((هدايا الأمراء غلول )).
قال أبو العباس الحسني: يجيء على مذهبه أن من كان يهاديه قبل القضاء يجوز أن يقبل هديته بعد القضاء، وكذلك هدية ذي الرحم؛ لأنه منع قبولها إذا كانت الهدية لمكان الولاية والتهمة، والذي ذكرناه لا مسرح فيه لهذه العلة.
وقال في كتاب الإجارة: قال القاسم عليه السلام: ولو أن رجلاً كلم رجلاً في حاجة لرجل فأهدى إليه شيئاً جاز له ذلك، وإنما يجوز ما قاله إذا لم يكن مشروطاً للنهي الوراد فيه، فإما إذا لم يكن مشروطاً فهو جائز؛ لأن ذلك مقابلة الإحسان ومكافأة على الإحسان، وقد قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ }[الرحمن: 60]، وقال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }[النساء: 86]، وفيه أيضاً قال: والرشا على الحكم حرام لا خلاف في كونه حراماً بين المسلمين؛ لأن المرتشي آثم؛ لأنه أخذ العوض على ما لزمه ووجب عليه.
فإن قيل: إنكم تجوزون أن يأخذ القاضي رزقاً من الإمام؟
وروى أن أمير المؤمنين عليه السلام أعطى شريحاً، قيل له: هذا ليس بارتشاء؛ لأن الارتشاء هو: أن يأخذ أحد الخصمين إما ليظلم أو لينصف، وعلى كلا الوجهين هو حرام، وما يأخذ القاضي من الإمام ليس على هذا الوجه؛ لأنه يجري مجرى ما يأخذه الإمام لنفسه من بيت مال المسلمين ليستعين به على ما هو فيه من تحري مصالح المسلمين.
وقال ابن حزم: من أعطى شيئاً من غير مسألة ففرض عليه قبوله، واحتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أتاك من هذا المال غير مسألة ولا إشراف نفس فاقبله )) أخرجه البزار من حديث عمر، وأخرجه من حديثه أيضاً مسلم.
وروى ابن حزم بإسناده إلى خالد بن عدي الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من جاءه من أخيه معروف فليقبله ولا يرده ، فإنما هو رزق ساقه الله إليه)) قال: وأخذ بذلك من الصحابة ابن عمر، وروى نحوه بأسانيده عن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وإبراهيم النخعي، وقد ذكر ألفاظهم في كتابه المحلى.
قلت: ومما يدل على ما ذهب إليه ابن حزم ما رواه الإمام الموفق بالله عليه السلام في السلوة بسنده إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو له يغفر زلته...)) الخبر وفيه ((ويجيب دعوته ويقبل هديته)) وفي آخره سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له عليه)).
[الفائدة الخمسون والمائة: في عدم صحة العفو عن الجناية قبلها]
ولما كانت الجناية هي السبب في استحقاق القصاص لم يصح العفو عنه قبله. ذكره في البحر، ولو بعد خروج الرمية؛ لأن ذلك يتضمن الإباحة للقتل، وذلك لا يجوز؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة: 195] ونحوها، فأما بعد الجناية فيصح من المجني عليه العفو عنه.
قال في التذكرة: ويسقط القود والدية.
قال في الحاشية: يعني إذا عفا عنهما وخرجت الدية من الثلث، فإن مات ولم يعف فالقصاص حق للورثة إجماعاً، ولهم إسقاطه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يؤدي، وإما أن يقاد)).
فإن قيل: وما الدليل على أن للمجني عليه العفو عن القود؟
قيل: الإجماع علىأنه يورث عنه ولا يورث عنه ما لا يستحقه، وإذ يملك بدله وهو الدية، وإلا لما صارت من جملة تركته، ولهذا ورث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزوجة من دية زوجها، وإنما لم يكن له استيفاء القصاص لتعذره إذ لا يستقر إلا بموته.
[الفائدة الإحدى والخمسون والمائة: في صحة الوصية بالمنافع]
وتصح الوصية بالمنافع والغلات المعدومة دون الرقبة، كأن يوصي بمنافع أرضه لشخص دون رقبته، ولا خلاف فيه إلا عن ابن أبي ليلى لنا، عموم قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا } [النساء: 11]وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ...}[البقرة: 181]الآية. ولم يفصل بين المنافع وغيرها، والجهالة مغتفرة بدليل صحة الثلث.
d: فإن كانت موجودة انصرفت إليها، إذ هو الظاهر، ولا تدخل المستقبلة إذ القول بدخولها مخالف لظاهر اللفظ، فإن كانت معدومة استحق الموصى له المستقبلة، وإن لم تؤبد ليكون للوصية ثمرة.
d: وإنما يستحقها الموصي له إلى موته فقط، وإن قيدت بالتأييد، ولا تورث عنه، بل ترجع إلى ورثة الموصي؛ لأن الوصية والهبة بالمعدوم تكون إباحة لا تملك، ولذا خالفت النذر بالمنافع من أنه يملك ويورث كالوقف؛ لأن التمليك في الوصية حقيقي فلم تصح بالمعدوم فكانت إباحة بخلاف النذر.
وفي حواشي الأزهار: والفرق بين الوقف والوصية في كون منافع الوقف تورث دون الوصية، إن رقبة الوقف لله معدومة منفعة، والوصية الرقبة لمالكها فلا تورث منفعته، بل تعود لصاحب الرقبة، وفي البيان ومن نذر على غيره بالمنافع فالأقرب أنها تملك وتورث عنه، كما في منفعة الوقف، وفي المعيار الوصية بالمنافع إباحة كالعارية، فليس له أن يعير ولا يكري، والأجرة له على الغاصب للورثة، ولا تورث عنه أي عن الموصى له، ولا تصح لغير معين كالفقراء، كما لا تصح إعارة غير معين، وذكر أبو طالب في الوصية بالمنافع أنها إباحة لا تملك.
[الفائدة الثانية والخمسون والمائة: في أن الوارث ليس بخليفة]
الوارث ليس بخليفة، فلا يملك تركة المستغرق ماله بالدين، ولا تنتقل الديون إليه؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }[النساء: 12]فشرط في انتقال الملك إليه تقديم الدين والوصية، واشتراط مؤاذنته في البيع لا تقتضي ملكه، بل أولويته وليس خليفة، حيث لا تركة إجماعاً، فلا يلزم الدين، وخليفة حيث لا دين ولا وصية إجماعاً.
d: ولا يجوز الشراء منه حيث باع لا لقضاء الدين لتعلق حق الغرماء بالتركة، لكن لا يبطل بيعه، بل يَكون موقوفاً على إيفاء الغرماء بدينهم أو برائتهم للميت لا للورثة؛ إذلم يتعلق الدين بذممهم، فإذا وقع الإيفاء أو الإبراء صَحَّ البيع؛ لأن للوارث ملكاً ضعيفاً، ولذا يجب مؤاذنته للبيع وإلا فلا ويلزم المشتري رده ولو أجازه الغرماء.
d: وليس للوارث الانتفاع بتركة المستغرق على وجه الاستهلاك، لما مر، ويجوز بما لا تنقص به قيمتها، كالزراعة إلا أن يكون الدين أكثر من التركة ضمن قيمة المنفعة للغرماء.
d: وإنما يكون للوارث البيع للقضاء، حيث لا وصي، أو كان وتراخى، وإلا لم يصح بيعه، إذ الولاية في ذلك إلى الوصي.
[الفائدة الثالثة والخمسون والمائة: في حكم التصرف بالمال الزائد على الدين قبل إخراج الدين]
إذا كانت التركة زائدة على الدين فالوارث خليفة في الزائد، لكن لا ينفذ تصرفه فيه إلا بعد قضاء الدين؛ لتعلق حق الغرماء بجملة التركة.
d: أما لو لم يستغرق الدين إلا ربع التركة، فباع الوارث ربعاً، ثم ربعاً، ثم ربعاً، ثم تلف الربع الرابع، فإنه يبطل البيع في آخر صفقة؛ لتعلق حق الغرماء بها بعد بيع الربعين الأولين، فإن التبست الأخيرة كان كالتباس الأملاك للغرماء ثلث، وللمشتري ثلثان.