الثاني: أنه مخصصٌ بأدلة وجوب العمل بالظن في الفرعيات.
الثالث: أن يبقى على ظاهره، ويقال: ما دل الدليل المعلوم على العمل به لم يكن العامل به مقتفياً ما ليس له علم.
ألا ترى أنه يجب العمل بالشاهدين، وبرجل وامرأتين، وبأخبار الآحاد والقياس الظني، ولم يفد شيء منها العلم لكن دليل العمل بها قطعي، وكذلك يقال في العمل بالكتابة؛ إذ دليلها ودليل العمل بالشهادة في رتبة واحدة، والأمر بالكتابة مكرر مؤكد دون الشهادة.
الرابع: أن المراد بالعلم في الآية معناه: الأعم، وهو ما يشمل الظن، كما في قوله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوْهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }[الممتحنة: 10] وليس إلا الظن الغالب، وعليه فلا إشكال، وبما تقرر عقلاً ونقلاً، يعلم أن العمل بالخط معتبر في المداينة والمعاملة، وغيرهما، وقد قال به من أئمتنا المتأخرين: الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي، والإمام المتوكل يحيى بن محمد، والإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رضي الله عنهم، ومن كلام الإمام الحسن أن المعتبر حصول الظن بصحته، وقال به أيضاً العلامة الشوكاني، والسيد العلامة محمد بن الحسن الوادعي رحمه الله، وعليه العمل في ما تأخر من الزمن، إلا أن الكاتب والشهود معه إن كانوا أحياء فلهم حكم الشهود في التحقيق والنقل، والجرح والتعديل، وإن كانوا أمواتاً فمن المعلوم أنها لم توضع الوثائق إلا لئلا تضيع ما تضمنته من الحقوق، وقد شرطوا في جواز العمل بها معرفة الكاتب وعدالته وخطه؛ لأن الخط إذا لم يكن معروفاً لم يجز العمل به بلا خلاف، وعدم معرفة الكاتب تستلزم عدم معرفة عدالته، والجهل بالعدالة مسقط للرواية والشهادة، فضلاً عن الكتابة، وإذا اجتمعت هذه الشروط تعين العمل بالخط، وإلا ذهبت فائدة الأدلة السابقة سداً، فإذا تضمن إثبات دين أو بيع أو نحوهما وجب العمل بمقتضاه، حيث لم يأت من هو عليه بحجة واحتمال تغير مضمونه بناقل من بيع، أو هبة، أو إيفاء أو إسقاط، أو تجويز تزوير كل ذلك احتمال مرجوح لا يقوى على مقاومة الظاهر، ويؤيده بأن المحتمل، والمجوز خلاف الأصل، والظاهر لأن الأصل عدم النقل، والظاهر
مع المتمسك بالرقم والأصل، والظاهر هما القنطرة التي تجري عليهما غالب الأحكام الشرعية، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفداء من العباس استنادًا إلى خروجه مع المشركين لقتال المسلمين بعد أن قال: ((إنما خرجت مكرهاً)) وهذا ما لم يعارض الرقم ثبوت يد الآخر على ما تضمنه الرقم، فهذا محل إشكال يحتاج إلى دقة نظر أهل الكمال؛ لأن الخط المعتبر شرعاً الذي مات كاتبه وشهوده وإن كان داخلاً في عموم البينة الشرعية، فليس في رتبة الشهود الأحياء الأثبات؛ لأنه يدخله من الاحتمالات ما لا يدخل شهادتهم، وما كثرت فيه الاحتمالات، وإن كانت لا تدفع ظهوره مرجوحاً بالنظر إلى ما قلت فيه كما في الخبر الأحادي والقياس، وطرق الراوية؛ إذ طرق الحكم بالنظر إلى الحاكم، كطرق الأدلة بالنظر إلى المجتهد، وحينئذٍ فلا بد من مرجح ما للخط على ما يقتضيه ظاهر اليد، وإلاَّ حكم باليد، وقد ذكروا صوراً يستدل بها على غيرها، منها:
أن يكون ثابت اليد ممن يجوز منه الاغتصاب، ولا مستند له إلا الثبوت، فهذه قرينة يرجح بها الخط، ومنها طول الزمان وقصره، فإذا كانت قد طالت مدة الثبوت كانت مر جحة له، وإن قصرت، ولا ناقل كانت مرجحة للرقم ومنها الغيبة، والحضور، فإذا كان المتمسك بالرقم غائباً عن البلد الذي الموضع المتنازع عليه فيه رجح الرقم، وإن كان حاضراً فيها رجح الثبوت، ومنها تأجير الثبوت عن تاريخ الرقم فإذا تأخر قوى جانب الثبوت، وإن كان تاريخ الرقم هو المتأخر قوي جانبه؛ لأنه ناقل.
ومنها: أن يكون الخصمان في أرض تجري فيها الأحكام الشرعية، وينتصف فيها للمظلوم، فهذا مرجح، والعكس فالعكس، ومنها غلبة الظن بصحة الخط بأن تقضي الأمارات المأخوذة من ألفاظه، وملاحظة شروط الصحة فيه أنه من خطوط العلماء، وعليه أسماؤهم وشهادتهم، وإن لم يعرف خطهم، بل ولولم يعرفوا كما في دروج الأوقاف، وهذا أفتى به الإمام الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله، فإنه سئل عما وضعه الأوائل الكرام في الدروج من الموقفات لبعض المساجد، وذو اليد يدعيه ملكاً؟
فأجاب: أن العبرة في الدروج بظن الصحة، ولا حامل لواضعها على التدليس، ولا معارض لها أقوى منها، فإذا كان الأمر كذلك فما كان مبيناً فيها عمل الحاكم به، وقد ذكر الإمام المهدي محمد بن القاسم عليه السلام: أن غلبة الظن بصحة المكتوب أمر لا بد منه، ومنها:
أن يتضمن الرقم نصيب وارث من أبيه، وقد مات الوارث، وكان ما تضمنه الرقم من الأموال قد ثبت عليه آخر، إلا أنها مشهورة بأنها من أموال والد الوارث الذي قد مات، فهذه طريق لترجيح الرقم على الثبوت.
ومنها: فيما يرجع إلى إثبات الأنساب، فإن الإمام المهدي محمد بن القاسم قال: إذا كانت قد ثبتت القرابة إجمالاً بالشهادة أو الشهرة، أو علم الحاكم، نحو أن يثبت أن مدعي الإرث والمورث بيت واحد أو لحمة واحدة، فإنه يعمل بالخطوط الصحيحة كاملة الشروط في إثبات التدريج، إلى غير ذلك من المرجحات ومعيارها: حصول الظن بصحة الخط، وما تضمنه، وعدم المعارض؛ لأن فرض المسألة أن لا يكون للثابت مستنداً إلا مجرد الثبوت، أو مع قرينة لا تقوى على معارضة الظن الحاصل عن الخط؛ لأن مقابل الظن إنما هو الوهم أو الشك، ولا يجوز الحكم بأيهما، والحاكم المعتبر إذا صلحت سريرته، وخلصت نيته، وحسنت سياسته، لا بد أن يوفقه الله لطريق شرعية يستند في الحكم إليها.
كما قيل: الحاكم المباشر يظهر له من شواهد الأحوال والقرائن ما لا يظهر للغائب، وسياسة الحاكم أهم من علمه، هذا وقد رد بعض العلماء نسبة القول بأن ثبوت اليد في أعلى مراتب القوة للدلالة على الملك للمذهب، بأن كتبهم تأباه وإنما هو من كلام الناظري، ولو كان ذلك مصححاً لهم لما منعوا جواز الشهادة على الملك بظاهر اليد، وقالوا: لا يجوز إلا مع النسبة والتصرف، وعدم المنازع؛ لأن هذه دليل الملك، واليد قد تكون لغير مالك كالغاصب والمرتهن، ونحوهما، ومنعوا ثبوت الحق باليد، وما ذلك إلا لضعفها عندهم، سلمنا فالمعتبر الدليل، وقد ثبت اعتبار الخط الجامع لشروط العمل بما لا مزيد عليه. والله الموفق والهادي.
[الفائدة الأربعة والأربعون والمائة: في الفرق بين الشهادة والرواية]
ولكون مرتبة الشهادة كما قال السيد العلامة الحسين بن القاسم عليه السلام في شرح الغاية: أخلق بالاحتياط لقوة البواعث عليها، من الطمع والاعتناء بأمر الخصومات، ولكثرة المساهلة فيها دون الرواية، اعتبر فيها ما لا يعتبر في الرواية اتفاقاً في بعض، ومع الخلاف في بعض.
[الفائدة الخامسة والأربعون والمائة: في شهادة العبد]
لا تصح شهادة العبد لسيده إجماعاً؛ لقوة التهمة ولملكه منافعه، وأما لغيره فتصح عند (هق، وم بالله، وط )؛ لعموم الدليل، ولم يرد ما يمنع من قبول شهادته من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع.
وعن أنس: ما علمت أحدًا رد شهادة العبد.
وعن (ق): لا تصح؛ إذ منزلته دنيئة، والشهادة رفيعة، فلم تصح كساقط المروءة.
(المهدي): سقوط المرؤة إنما تضعف الثقة بالورع لا الرق فافترقا.
وعن (علي، وق): تقبل على العبد إلا الحر لسقوط مرتبته كالكافر على المسلم.
(المهدي): شارك في شرف الإسلام فافترقا.
[الفائدة السادسة والأربعون والمائة: في صحة رواية الأقارب]
عدم القرابة غير معتبر في الرواية، فتجوز رواية الولد عن والده والعكس؛ لاجماع الصحابة على ذلك، كما تجوز رواية الخبر الذي يثبت حكماً لقريب؛ لان حكم الرواية عام لايختص بواحد بخلاف الشهادة، ولذلك اختلف في قبول شهادة الولد لوالده والعكس، فذهبت(العترة) إلى قبولها إذلم يفصل قوله ذوي عدل منكم ومنع منه (زيد بن علي و م بالله وي)؛ لأنه متهم، وقد نهي عن قبول شهادة المتهم وأجيب بأنه غير صريح، ولعله أراد المتهم لخلل في العدالة أو دفع أو نفع.
قلت: الدليل الصريح الصحيح على عدم القبول، قول علي عليه السلام: (لا تقبل شهادة والد لولده إلا الحسن والحسين) فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهما بالجنة، وتأويله بأنه أراد الشهادة بالنجاة من العذاب تعسف، إلا أن في الحديث إشارة إلى أن العلة قوة التهمة، فإذا اقترنت الشهادة بما ينفي التهمة أو يضعفها فتقبل. والله أعلم.
وأما شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض فتقبل عند العترة؛ لعموم الدليل، ولم أقف على خلافه لأحد من أهل البيت عليهم السلام.
[الفائدة السابعة والأربعون والمائة: في عدم اشتراط الذكورة في الرواية]
لم يشترط في الرواية الذكورة؛ لعموم حكمها، وإنما اشترط فيها ما يكون به غلبة الظن بصدق المخبر من العدالة والضبط، وهما معتبران في الشهادة أيضاً، وكذا لا تعتبر الذكورة في الشهادة، بل تقبل شهادة المرأة إلا في الشهادة على الزنا فلا تقبل شهادة النساء عند الأكثر، ولم ينقل فيه خلاف عن أحد من العترة عليهم السلام للآية، إذ تقتضي التذكير، ولقول الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخليفتين بعده: أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص.
وقول علي عليه السلام: (لا تجوز شهادة النساء في نكاح ولا طلاق، ولا حد ولا قصاص). رواه في المجموع.
قيل: ولا خلاف في عدم قبول شهادتهن في القصاص إلا عن الثوري والأوزاعي في القصاص.
وروي عن الثوري خلاف ذلك قال في أصول الأحكام: والأصل الخبر والإجماع والقياس على الحدود، وقد ثبت بالنص عدم قبول شهادتهنَّ في الحدود.
قالت الهدوية: وسواء كان حقاً لله تعالى كحد الشارب، أو مشوباً بحق آدمي كحد القاذف، والسارق، وزاد في البحر: حد الردة والمحاربة؛ إذ لم يفصل الدليل وذلك رحمة من الله لعباده في درء الحدود، كما ورد الأمر بذلك، وأما فيما عدا ذلك فتقبل شهادتهنَّ.
(المهدي): للآية في الدين، وبالقياس في غيره إلا أنهن لما كن ناقصات عقل ودين انتقصت شهادتهن، فلأحدهما لم يقبلن منفردات، بل مع رجل وللآخر قويت بأخرى، كما في الآية احتياطاً لما هي مظنته من السهو والغلط: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }[البقرة: 282] إلا فيما يتعلق بعورات النساء.
فقال الإمام أحمد بن سليمان: لا خلاف في قبول شهادة النساء وحدهن، فيما لا يطلع عليه الرجال، إلا ما يحكى عن (زفر)، والإجماع يحجه وذلك للحرج.
قالت العترة: وتكفي عدلة، لما روي عن علي عليه السلام أنه قبل شهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال.
وعن علي عليه السلام: أنه قضى بشهادة امرأة واحدة، وكانت قابلة على الولادة، وصلى عليه بشاهدتها وورثه بشهادتها. رواه في المجموع.