[الفائدة الإحدى والأربعون والمائة: ويحل اقتناء الهِرِّ]
ويحل اقتناء الهر لخبر المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت، وفيه: ((فلا هي أطعمتها )) ولا يضمن مالك الهرة ما جنته ليلاً ولا نهاراً، إذ لا يعتاد حبسها، ولا ربطها نهارًا.
[الفائدة الثانية والأربعون والمائة: متى يصير العقور عقوراً؟]
وإنما يثبت العقور عقوراً بعد عقره مرة واحدة، أو حمله ولو مرة ليعقر، فيضمن مالكه الثانية إن علم بذلك، وفرط في حفظه إذ عرف عدوه بالأولى فكفت.
d: وإنما يكون عقوراً إن ضر فيما لا يعتاد إطعامه منه، فلا تكون البهيمة عقوراً بأكل الزرع، والهرة بأكل اللحم والطعام، ونحو ذلك؛ لأن ذلك من طبعها، ولا يضمن المالك إلا حيث جرى عرف بالحفظ.
قال في التاج: بخلاف ما إذا عرفت بالضرر بأي وجه من عضة أو نفخة، أو نطحة أو لعص ثياب أو حملها ولو لم تعقر، ونحو ذلك ولو مرة واحدة فإنه يثبت بذلك؛ كونها عقوراً، وهذا في غير الكلب، وأما الكلب فلا يكون عقوراً إلا حيث لا ترده الحجر والعصا، أو يكون ختولاً يعدو على حين غفلة، ويجب على مالك العقور حفظه أو قتله، فإن لم يفعل جاز لغيره قتله.
[الفائدة الثالثة والأربعون والمائة: في العمل بالخط والكتابة]
العمل بالكتابة ثابت عقلاً لإطباق العقلاء من الموحِّد والملحد، على الفزع إليها عند إرادة التوثق في معاملتهم وعقودهم وعهودهم وهدنهم، وفي الروابط المعقودة بينهم، والرجوع إلى العمل بما تضمنته عند اختلافهم، وهذا معلوم بالضرورة، وسمعاً لتعظيم الله سبحانه القلم بالقسم، وبه الامتنان بتعليمه حتى قرنه بأصل من أصول النعم، وهو خلق الإنسان من علق.
وفي المجموع وغيره: أَنه أول مخلوق خلقه الله، ثم خلق الدواة، ثم أمره بكتابة الكائنات، وذلك دليل على علو شأنه، واعتباره والعمل به في حفظ العلوم والحقوق، وغيرها، وإقامة الحجة بالكتابة على العباد، وإرشاد لهم إلى ذلك، ولهذا امره الله بكتابة الكائنات، مع أنه يعلم السر وأخفى، لا يخفى على الله شيء، ومن ذلك: قصة سليمان عليه السلام؛ لأنه طلب إسلام بلقيس وقومها، وامتثالهم مجرد كتابه إليها، ونحوه.
مدح الذين يتبعون الرسول الأمي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ ظاهره أنهم في ابتداء امرهم اتبعوه بِمجرد كونهم وجدوه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، ومن ذلك قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...}[البقرة: 282] الآية.
فإنه يدل على جواز العمل بالكتابة أو وجوبه، ودلالته على الوجوب أظهر، والآية واردة في كل معاملة فيها مداينة مؤجلة، إذ الدين يتناول القرض والسلم، والبيع إلى أجل، ونحوها وبيان دلالتها من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى أمر بكتابة الدين المؤجل أمرًا مجملاً، والأمر ظاهر في الوجوب، والأمر بها يستلزم وجوب العمل بها، وإلا لم يكن له فائدة، وكون الأمر في الآية للوجوب، قد قال به بعض المحققين: وهو الذي يقتضيه ما مر.
الثاني: أنه لما أمر بها إجمالاً أكد الأمر بها ثانياً، مقروناً ببيان حال من يتولاها، فقال: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ }[البقرة: 282] أي كاتب عادل؛ لأن الكتابة لا تكون ضماناً تاماً لحفظ الحقوق إلا إذا كان الكاتب عدلاً لا غرض له إلا بيان الحق؛ لأن غير العدل، لا تؤمن منه المحاباة والزيادة والنقصان، وتعمد تضييع حق أحد المتعاملين.
الثالث: أنه لما أكد الأمر بها صريحاً، عقبه بالنهي عن الأباء منها، المستلزم للأمر بها، ثم قرنه بتذكيره بنعمة تعليمه الكتابة؛ ليعلم أنه لا ينبغي له أن يبخل بنفع الناس بها، كما نفعه الله تعالى بتعليمه إياها، فهو مثل:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص: 77]ويؤخذ من الآيتين أن العالم بما فيه نفع ومصلحة للناس، يجب عليه القيام بذلك إذا دعي إليه مع تمكنه، كما علمه الله، وأحسن إليه بتعليمه وتمكينه.
الرابع: تكرار الأمر، بقوله: {فَلْيَكْتُبْ}[البقرة: 282] تأكيداً لما مر.
الخامس: أمر من عليه الحق أن يلقي على الكاتب ما عليه من حق، فقال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } [البقرة: 282]وذلك ليكون إملاله حجة عليه تبينها الكتابة، وتحفظها، وفي ذلك دليل على العمل بها، لا سيما مع أمره بتقوى الله ربه بإملائه على الكاتب، وأن لا يبخس منه شيئاً، فلولا أنه يرجع في إثبات الحق إلى ما كتبه الكاتب لأمره بتأدية ما عليه كاملاً دون إملائه على الكاتب.
السادس: أنه تعالى بعد تكرار الأمر بالكتابة، وتأكيده أردفه بالنهي عن السأمة عنها، فقال: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً }[البقرة: 282].
قال بعض العلماء: وهذا دليل على وجوب الكتابة في القليل والكثير، ولهذا قدم الصغير الذي يتهاون به الناس، ودليل أيضاً على وجوب العمل بها عند استيفاء شرائطها، يؤيده إتيانه بعدها ببيان الحكمة في الأمر بها، في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا }[البقرة: 282] والإشارة إلى جميع ما تقدم ومنها الكتابة أو إلى الكتابة فقط، كما قيل: وقد بين وجه الحكمة من وجوه:
أحدها: أن ذلك أقسط عند الله، أي أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين.
الثاني: أنه أقوم للشهادة؛ لأن الشاهد إذ رجع إلى الكتابة أفادته ذكرها، وأداءها على وجهها، وفيه دليل للمذهب على أن للشاهد أن يرجع إلى الخط لتفصيل ما ذكر جملته.
الثالث: أن ذلك أقرب إلى نفي الريبة، والمعنى أن الاحتياط بكتابة الحقوق يمنع كل ريبة، وكل ما يترتب على الارتياب من المفاسد من ضياع الحقوق وغيرها.
الرابع: ما في رفع الجناح عن كتابة التجارة الحاضرة من الدلالة على أن كتابتها أولى، وأن تركها رخصة، والترخيص فيها يقتضي أن كتابة المؤجلة عزيمة ولما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من الأوامر المتكررة والتأكيدات المقررة، والحكم الظاهرة، فلا ينبغي أن يرتاب في جواز العمل بالخط المستوفي لشرائط العمل أو وجوبه، لا سيما والآية وردت في المعاملات مع عموم الخطاب، بقوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا } [البقرة: 282]إذ يتناول الشاهد والكاتب والحاكم وغيرهم ممن يرجع إليه في استخراج الحق الثابت بالكتابة، وفيه دليل على أنه يكفي الظن بصحة ما تضمنته الكتابة؛ إذ القرب إلى نفي الريبة يحصل بالظن؛ لأن الريب الشك وهو استواء التجويزين، فإذا انتفي جاز العمل، وهو ينتفي بظن الصحة؛ لأن الظن تجويز راجح، هذا مع ما علم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبلغ الشرائع بالكتابة إلى الغائبين، كما يبلغ بالخطاب إلى الحاضرين مع إيجاب العمل بكل ذلك بلا فرق، وكذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة الهادون وسائر علماء الإسلام، من فقهاء ومحدثين ومفتين ومؤرخين، وأطباقهم على التأليف لقصد العمل بما في المؤلفات وبالكتابة حفظت الشريعة المطهرة عن الضياع، مع قلة الحفاظ، وكلام أئمة الأصول في العمل بالوجادة معروف، حتى قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: إن العمل بها هو الذي أجمعت عليه العترة عليهم السلام.
وبالجملة إن العمل بالكتابة في العلوم الدينية، والوثائق المالية والروابط الإنسانية ظاهر لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، فلا حاجة بنا إلى نقل ما وقع، ولا يدخل نقله تحت مقدورنا، وأهل المذهب الشريف قد اعتبروا الكتابة في مواضع فجعلوها كناية طلاق، وصححوا انعقاد البيع والنكاح بها، وكذلك في كتاب حاكم إلى مثله، وأجازوا للشاهد الاستناد إليها فيما عرف جملته، ونسي تفصيله، وعدم اعتبارها في بعض المواضع، فهو إما لوجود مانع، أو عدم شرط عندهم، فمن وجود المانع، قولهم: لا يشهد لمعرفة خطه إلا إذ ذكر جملته لاحتمال التزوير، فينتفي اليقين لكنه يقال: الاحتمال لا يدفع الظهور، ويلزمكم أن لا تشهد على التفصيل، وإن ذكر الجملة لبقاء الاحتمال فيه على أنه قد جوز الشهادة، وإن لم يذكر الجملة الهادي في المنتخب، ومالك، وأبو يوسف، ومحمد، وقواه، والفقيه حسن إذا علم من نفسه أنه لا يضع خطه إلا على ما قد تحققه، وأراد الشهادة عليه للاضطرار، ويدل عليه ما مر من الأدلة على اعتبار الخط والعمل به، ولا ملجأ لتأويل كلام المنتخب، ومن ذلك قولهم: لا يستند الحاكم في حكمه إلى ما وجد في ديوانه؛ لاحتمال التزوير؟ وجوابه: ما مر، وأما عدم اعتبارهم الخط لعدم شرط، فمنه قولهم: من وجد خطاً لغيره بحق عليه وأنكره لم تجز الشهادة عليه بذلك الحق، ولا يجوز للحاكم أن يحكم بالخط ولا خلاف فيه.
قلنا: أما الشهادة فمسلم لعدم اليقين وللإجماع على المنع؛ إذ قوله ولا خلاف فيه قيد فيها لا في عدم جواز الحكم، كما في حواشي التذكرة، ولخلاف مالك فإنه جوز الاستناد في الحكم على الغير إلى خطه، وهو مقتضى كلام المنتخب، وعلى كل حال فمنع الشهادة استنادًا إلى الخط لا يستلزم عدم جواز الاستناد إليه في الحكم للفرق بينهما؛ إذ الشهادة يشترط استنادها إلى اليقين غالباً، والحكم يكفي في مستنده الظن أو حصول سبب جوازه، وإن لم يحصل ظن ولم يحصر على سبب مخصوص، بل ما تبين به الحق صح جعله مستندًا للحكم؛ لأن البينة في الأصل ما به يتبين الحق، ويتضح أعم من أن تكون هي الشاهدين أو غيرهما، ولهذا اعتبر شاهد ويمين وعدلة فيما يتعلق بعورات النساء، وعلم الحاكم وتحقيق القول في المسألة: أن الحكم بالشهادة ليس أمراً تعبدياً حتى لا يجوز العدول إلى الحكم بغيرها، وإنما هي أحد الأسباب التي يتوصل بها الحاكم إلى معرفة المحق من المبطل غير مقصودة لذاتها، بل لأمر آخر هو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، فكان ذكرها في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((شاهداك أو يمينه )) إنما هو لكونها طريقة لتحصيل ما هو المعتبر في جواز الحكم، وهو العلم أو الظن بثبوت الحق على المدعى عليه، لا لقصر الحكم بها فقط، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشاركها كل ما قام مقامها في تحصيل أيهما، إذ لا مانع، والفرق تحكم لا يقال فيلزم أن يحكم بالشاهد الواحد؛ إذ قد يحصل عن شهادته الظن؛ لأنا نقول إن القضاء إذا كان بأحد الأسباب المشروعة وجب التوقف فيه على ما ورد، وهو الشاهدان أو
الشاهد واليمين، وحديث ذي الشهادتين يقوي ذلك، ولا نزاع فيه، إنما النزاع فيما إذ جاء سبب آخر معتبر في الشرع هو أولى بالقبول من الشهادة كحكم الحاكم، أو مساو لها في تحصيل الظن كالخط المعتبر، فهذا لا ينبغي الشك في جواز الاستناد في الحكم إليه، لا سيما والظاهر أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((على المدعي البينة )) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للكندي: ((ألك بينة)) يتناوله، وبيانه كما ذكره بعض المحققين هو: أن البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة أعم منها في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين، فهي اسم لكل ما يبين الحق، كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ، بِالْبَيِّنَاتِ}[النحل: 43] وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة: 4]... وعليه حمل ما جاء في السنة وكلام الصحابة، إذ لا مانع، ولا دليل على قصرها على الشاهدين، وعلى هذا فيقال في حديث الكندي: ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة؟ إذ الشارع يقصد ظهور الحق، وبيانه بما أمكن من البينات التي هي دلالة عليه؛ لئلا تضيع حقوق الله وعباده، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين مع مساواة غيره له في ظهور الحق به دليله تنوع الأدلة على كثير من المسائل، فإن منها ما يستدل عليها بادلة متنوعة من كتاب الله، وسنة رسول الله، مع إجماع أو قياس، والدليل والبينة بمعنى إذ المقصود بيان الحق ولو بقرينة مقرونة بما يقويها؛ إذ بعض القرائن قد ترجح في ظهور
الحق في الأحكام والأموال.
ألا ترى أنه لو وجد رجل على رأسه عمامة، وفي يده أخرى، وبعده آخر يعدو أثره مكشوف الرأس، ولا عادة له بكشف رأسه، فإن قرينة الحال تفيد صدق المدعي أضعاف ما تفيده اليد عند كل أحد، والشارع لا يهمل مثل هذه البينة.
ومن هنا اختار الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمد: أنه إذا تضارب اثنان فصاعداً، وانجلت الفتنة عن جنايات في بعضهم، فإنه يحكم بها على الآخر، وإن لم تقم لدى الحاكم شهادة على أنها من خصمه، اعتباراً بالقرائن والأمارات التي ورد الشرع باعتبارها حفظاً للحقوق؛ إذ لو لم نعتبرها لهدرت الدماء، وهتكت الأعراض.
والحاصل أن الشرع جعل الطريق التي يحكم بها أعم من التي يتوثق بها في حفظ الأموال، وإن كانت داخلة في مفهومها، وبين الحكم والتحفظ فرق ظاهر، فكل ما يبين الحكم الحق يصح الحكم بمقتضاه، دليله الحكم بشهادة الكفار على الوصية في السفر، وبشاهد ويمين، وبشهادة القابلة على الولادة، والاستهلال، ورتب على شهادتها أحكاماً، وأمر بفراق الزوجة؛ لقول امرأة أنها أرضعتها، وزوجها إلى غير ذلك، وبمجموعها يظهر قوة القول بأن الطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الأموال، وأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((على المدعي البينة )) يتناول أي طريق يتبين بها الحق، وأن الظن كاف في جواز الحكم، وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }[الإسراء: 36] فيحتمل وجوهاً:
أحدها: أن يكون وارداً فيما المطلوب فيه اليقين كالعقائد، فيكون من العموم الذي أريد به الخصوص.