[الفائدة السابعة والثمانون: تقسيم الماء إلى ملك وحق]
الماء على أضرب حق إجماعاً كالأنهار غير المستخرجة والسيول، وملك إجماعاً كالذي يحرز في الجرار ونحوها، ومختلف فيه كماء الآبار والعيون والقناة المحفورة في الملك من دار أو أرض، والمذهب أنه حق، وله أحكام الحق بأن للحافر أو السابق إليه قدر كفايته لنفسه وعياله وماشيته وزرعه، للإجماع على أن الحافر أحق بالماء وإن بعدت أراضيه، وتوسط غيرها وبعد الكفاية يجب عليه بذل الفضلة لمن سبق إليها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاث )) وذكر منها الماء.
ولنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن منع فضل الماء إن استغنى عنه، والمراد استغناء الحافر والسابق، كما مر.

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له )) وفي رواية فهو أحق به، وظاهر الأدلة أنه لا فرق بين أن يكون الماء في أرض مباحة أو مملوكة، وسواء كان للشرب أو لغيره ولِحاجة الماشية أو الزرع، وفي فلاة أو غيرها، فإن بذل الفضلة واجب في ذلك كله لمن سبق إليها لسقي أو غيره، هذا إذا كان للفضلة طريق من ملك آخذها أو من مباح، فإن لم يكن لها طريق إلا من ملك الغير لم يجز إلا بإذنه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه )) هذا ما لم يكن الأخذ للشرب ولو للدواب، أو للطهور أو لغسل الأبدان أو الثياب، فلا يأثم ولو استغرق جميع الماء، ولو ضر صاحب الحق إذا كان الأخذ على وجه لا يستعمل ملك الغير، وإلا أثم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرء مسلم ...)) الخبر.
والوجه في أنه لا يأثم بالأخذ للشرب ونحوه، ولو استغرق إن لم يستعمل ملك الغير، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم :((الناس شركاء في ثلاث ...)) الخبر.

[الفائدة الثامنة والثمانون: لكل مالك أن يفعل في ملكه ما يشاء]
ولكل أن يفعل في ملكه ما شاء، وإن ضر الجار في غير العلو والسفل إلا عن قسمة، فليس لأحد المتقاسمين أن يفعل ما يضر بالآخر، سواء كان الضرر في الملك أو المالك ما لم يخرج عن ملك المتقاسمين ببيع أو نحوه؛ إذ القسمة شرعت لدفع الضرر عنهما، وقد زال إلا ما شرط عند القسمة أو كان معتاداً قبلها فيجوز فعله ومن فعل في ملكه شيئاً لقصد الضرر أثم، ومنعه على أهل الولاية؛ لأن قصد الضرر بالغير قبيح عقلاً لإطباق العقلاء على ذم من عرف منه قصد إنزال الضرر بغيره، وشرعاً؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) ونحوه.

[الفائدة التاسعة والثمانون: مايلزم من في ملكه أو حقه مسيل]
ومن في ملكه أو في حقه حق مسيل أو إساحة أو طريق فعليه إصلاحه ويجبر عليه ليصل رب الحق إلى حقه، كما يلزم المؤجر للدابة وغيرها القيام بما تحتاج إليه العين المؤجرة ليتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة، وكما يجب على رب السفل إصلاحه لينتفع رب العلو.
قال في شرح البحر: وكل من عليه حق فعليه القيام به.
وقال في حواشي الأزهار: إلا أن يجري عرف بخلافه لم يجب على المالك إصلاحه.
d: ويكون الإصلاح في ذلك كله على ما جرت به العادة في تلك الجهة؛ إذ الأصل براءة الذمة عما زاد على المعتاد.

[الفائدة التسعون: في عدم جواز منع الحق المعتاد ولو في ملكه]
وليس لمن ألحق في ملكه أو حقه أن يمنع المعتاد وإن ضر داره أو أرضه أو زرعه، فإذا كان الأعلى يستحق إفاضة مائه إلى الأسفل أو الأسفل يستحق مرور الماء في حق الأعلى لم يكن لأيهما أن يمنع المعتاد وإن ضر، فإن فعل غير المعتاد ضمن ما ضر ذلك، حيث كان له عناية في الزيادة على المعتاد، فإن لم يفعل إلا المعتاد لم يضمن؛ لأن له أن يستوفي حقه بالمعتاد، وليس عليه أن يفعل ما يدفع الضرر، وكذلك يضمن حيث كان يمكنه الزيادة وعلمها؛ لأن سبب دخول الماء بفعله الذي هو المعتاد وحصل منه التفريط بعدم رد الزائد.
قال في بعض شروح الأزهار: وإنما يشترط تمكنه وعلمه حيث لم يكن سبب الزيادة منه وإلا ضمن مطلقاً.
d: وليس على ذي الحق أن يفعل ما يمنع الضرر أو خروج الماء من ممره إلا لخلل فيه عن المعتاد، فيلزم إصلاحه وإلا ضمن ما أفسد لتفريطه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)).
قال في التاج المذهب: وعلى صاحب الأرض أن يفعل في أرضه ما يدفع الماء عنها إن شاء.

[الفائدة الإحدى والتسعون: تفريع على أقوال أهل المذهب ولكل أن يفعل في ملكه ما شاء]
ويتفرع على قول أهل المذهب، ولكل أن يفعل في ملكه ما شاء وإن ضر الجار، وقولهم: أنه لا يجبر أحد على عمارة ملكه فرعان:
أحدهما: ذكره الإمام الحسن بن عز الدين عليه السلام، وهو أنه إذا اجتحف السيل جربة في أعلى ضيعة، فلا يجب على مالكها إصلاحها؛ لئلا يجتحف السيل ما تحتها، ولا يجبر على إصلاحها إلا أن يكون فيها حق للغير لا يصل إليه إلا بإصلاحها فإنه يجب عليه لذلك.
قلت: وظاهر المذهب أن عليه الصلاح المعتاد وإلا ضمن لتفريطه.
الفرع الثاني: قال الإمام محمد بن القاسم الحوثي عليه السلام في رجل له مشرب إلى جربة فأصلحه الصلاح المعتاد، فجاء سيل عظيم فقطع المشرب وأدخل حجاراً أو تراباً إلى أموال بجنبه لغيره، فإنه لا يجب على صاحب المشرب إلا الصلاح المعتاد، فإن قصر عنه لزمه رفع ما أدخله السيل؛ لأنه المسبب.
وأما وقد فعل المعتاد فلا يلزمه؛ لأن ذلك من فعل الله تعالى لا من فعله ما لم يكن الداخل من الأحجار والتراب ملكاً لصاحب المشرب، فيلزمه رفعه لأن استعمال ملك الغير لا يجوز إلا بإذنه، ومثل هذا إذا كان لرجل جربة، وكلما جاء سيل دخلها غيار، ودخل إلى ما تحتها، فإنه لا يلزم صاحبها رفعه إلا إذا وقع منه تفريط أو التراب، ونحوه ملكه إذ لا يجبر على عمارة ملكه لحفظ مال غيره بما لا يعتاد وما لا يجبر على حفظه، فلا يلزمه رفع ما دخل فيه.

[الفائدة الثانية والتسعون: في حكم الحق السابق]
قال النجري: الحق السابق إذا كان مما لا يفوته إحياء الثاني، ولا ينقصه لم يمنع حكمه كالجبال التي أصبابها مستحقة، والمرافق البعيدة للبلد كالمحتطب والمرعى فتملك هذه بالإحياء ما لم تنقص الحقوق السابقة، كما لكل أن يستعملها فيما لا يمنع ولا ينقص تلك الحقوق وفي غيره وهو المذهب أن ما تعلق به حق للغير فلا يجوز إحياؤه إلا بإذنهم كمحتطب القرية ومرعاها، والنادي، وهو موضع اجتماعهم، والميدان وهو موضع إلقاء الزبل، والوادي المنحصر أهله، والطريق المنسدة (قرز)، بلا فرق بين البعيدة والقريبة، فلو أحياها أحد لا بإذنهم لم يملكها عندنا ولو كان من أهل ذلك المحل ولو بعمارة دار لا تضر بهم.

والحاصل أن ما تعلق به حق إما عام أو خاص لم يجز الاستقلال بإحيائه، فالحق العام نحو بطون الأودية، وهو كل واد يسقى به قوم غير منحصرين، ومحتطب القرية والمصر ومرعاهما ولو بعدت، وكذا مرافقهما والطريق المسبلة، وأما الحق الخاص فنحو الطريق المشروعة بين الأملاك، وحمى الدور والأنهار المملوكة لمنحصرين، ونحو ذلك، فهذه الحقوق لا تخلو إما أن يتعين ذو الحق أو لا، إن لم يتعين بأن يجهل، وهو منحصر أو كان معلوماً لا ينحصر كبطون الأودية لم يجز إحياؤها؛ لتعلق حق المسلمين بها فجرت مجرى الأملاك إلا بإذن الإمام أو الحاكم، ولو من جهة الصلاحية وعدم الضرر، وأن يكون لمصلحة عامة كمسجد ونحوه فإن تحول عنها جري الماء إلى مباح جاز إحياؤها؛ لانقطاع الحق، وعدم تعيين أهله وإنما يجوز بإذن الإمام، وعدم الضرر ولو على واحد في الحال أو المال.
d: ومن أحيا الحق بدون تلك الشروط لم يثبت له حق ولا ملك، فيرفع سواء في الأودية أو السكك، وإن تعين صاحب الحق نحو محتطب القرية ومرعاها حيث أهلها منحصرون، وبطن الوادي المنحصر أهله، والطريق المنسدة، فهذه لا يجوز إحياؤها إلا بإذن أهلها جميعاً، وإلا لم يملك ما أحياه، وإذا كان فيهم صغير أو مجنون ناب عنه وليه في الإذن إن كان له فيه مصلحة وإلا فلا.

[الفائدة الثالثة والتسعون: حكم من رغب عن ملك]
وتخرج الأملاك عن ملك صاحبها بالرغبة عنها، ولا فرق بين المنقول وغيرها، ولا تصح رغبة الصبي والمجنون؛ لأنه لا يصح تصرفها في ملكها، فإذا ترك الملك رغبة عنه كما يفعله كثير ممن يقصد الاحتطاب والاحتشاش فإنه إذا كان أرضاً وأحياه غيره بعد ذلك ملكها المحيي، كمن سيب دابة رغبة عنها، والقول قوله في عدم الرغبة ما لم يكن الظاهر خلافه، فلو أحياها محيي ظناً منه أنها تملك ثم انكشف ملكها للغير لزمه لمالكها الأجرة.

[الفائدة الرابعة والتسعون: عدم جواز إحياء ما ملكه مسلم]
ولا يجوز إحياء ما ملكه مسلم أو تحجره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه )) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من غصب شبراً من أرض طوقه الله من سبع أرضين )) وما كان محفوفاً بملك الغير فلا حريم له؛ إذ لا يتجاوز ملك أحدهما إلى ملك الآخر إلا ما كان من حق كمسيل أو طريق فله ذلك بالاستحقاق، فإن حق بموات استحق منه ما لا يصح ملكه إلا به من مسيل، وطريق من غير إذن الإمام، فإن كانت بئراً فله حريمها من الموات والطريق إليها، وما يحتاج إليه من استعملها من عطن المواشي حتى تشرب قليلاً قليلاً ونحو ذلك.

19 / 28
ع
En
A+
A-