قال عليه السلام: قد اختلفت أقوال مشائخنا في ذلك، لكن قد اتفقوا على الفرق بينه وبين النظري بأن هذا مبتدأ ليس بمتولد عن نظر، واختلفوا في الموجد له هل الباري تعالى فهوضروري، أم أحدنا فليس بضروري، لكنه جار مجراه في عدم انتفائه بشك أو شبهة، بل هو كالملجأ إلى إيجاده مهما بقي العلمان الأولان معه.
قال عليه السلام: وأي الطريقين ثبت في هذا العلم، فلا أقول أن المجبرة جاحدون للضرورة مكابرون، بل أحملهم على أنه قد سبق إلى أوهامهم من الشبه ما دعاهم إلى اعتقاد جهل دافع حصول هذا العلم بعد التأمل والله أعلم.
هذا تلخيص ما حققه المهدي عليه السلام.
هذا وأما القائلون من أئمتنا: بأن العلم بهذه المسألة استدلالي كما هو ظاهر كلام الإمام القاسم بن محمد في الأساس، فلهم حجج كثيرة عقلية وسمعية، فمن العقلية التفرقة الضرورية بين حركتي الساقط والصاعد، وتعلق المدح والذم بالفاعل من حيث أنه فاعل دون شكله ولونه، وهاتان الحجتان ضروريتان دان بها كثير من الأشاعرة وفروا إلى الكسب.
فإن قيل: ألستم تحمدون الله على الإيمان؟ وهو من فعلكم ومتعلق بكم وتذمون على الإماتة بالغرق، وهو فعل غيركم؟ وهذا يبطل احتجاجهم بتعلق المدح والذم إذ قد تعلقا بغير الفاعل
قيل: إنما حمدنا الله على مقدمات الإيمان كالإقرار والتمكين واللطف، وذلك موجود من جهة الله تعالى، كما قال سبحانه: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِْيمَانِ } [الحجرات: 18].
وأما الإيمان نفسه: فالله تعالى الذي يحمدنا عليه، كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } [الإسراء: 19]فصح أن حمدنا لله على الإيمان إنما يراد به الحمد على مقدماته، فصار الحال فيه كالحال في الوالد إذا اجتهد في تحريج ولده وتأديبه حتى صلح، فإنه يقال: هذا من أبيه، والمراد أنه تقدم من الأب ما كان سبباً في صلاحه، ومثل هذا يقال في ذم من أغرق غيره؛ فإن الذم ليس على الإماتة بل على سببها، ومن الأدلة العقلية وجوب وجود أفعالنا بحسب قصودنا ودواعينا، وانتفاؤها بحسب كراهتنا وصار فينا، فلولا أنها من فعلنا لما وجب فيها ذلك، كما لا يجب في ألواننا وطولنا وقصرنا.
(السيد مانكديم): وهذه الطريقة هي المعتمدة، وهي مبنية على أصلين:
أولهما: وجوب حصولها بحسب دواعينا، وانتفاؤها بحسب صوارفنا، ودليله: أن أحدنا إذا دعاه الداعي إلى الأكل والقيام حصلا منه على طريقة واحدة ونبرة مستمرة، بحيث لا يختلف الحال فيه، وهذا يدل على توقفها على دواعينا دلالة واضحة.
(المهدي): العلم بوقوع أفعالنا بحسب دواعينا وصوارفنا ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال، وإنما المحتاج إلى الاستدلال هو معرفة أنا الموجدون لها.
ثانيهما: أنها لو لم تكن من فعلنا لما وجب فيها ذلك، فدليله: أنها لو كانت من فعل الله لجرت مجرى نحو: الصور والألوان مما علمنا أن العلة في تعذره علينا أنه لا يقف على أحوالنا، بل يوجد وإن كرهناه، وينتفي وإن أردناه، وكذلك أفعال غيرنا لما لم تكن من فعلنا لم تقف على أحوالنا.
فإن قيل: فعل الملجأ يقع بحسب قصد الملجئ وداعيه، وسير الدابة تابع لقصد الراكب وداعيه، ونعيم أهل الجنة تابع لاختيارهم، ولا يدل شيء من ذلك على أنها أفعالهم.
قيل: ما فعل الملجأ، والدابة فهو تابع لداعيهما وقصدهما، وإنما وافق قصد الملجئ والراكب ودواعيهما، ولهذا لو أراد الإقدام بالدابة على سبع لامتنعت.
وأما نعيم أهل الجنة فليس بحسب قصودهم ودواعيهم، ولهذا لو دعا أحدهم الداعي إلى بلوغ منزلة نبي لما حصل له ذلك، فصح أن وقوعه بحسب إرادة الباري تعالى.
فإن قيل: حاصل هذا الدليل راجع إلى الدوران؛ لأن كوننا الفاعلين لها يدور على الدواعي والصوارف وجوداً وانتفاءً، ودليل الدوران ظني حتى أن بعضهم لم يتمسك به في ظنيات الفروع، وهذه المسألة قطعية.
قيل: لا نسلم أن الدوران لا يفيد إلا الظن على الإطلاق، بل قد يفيد القطع واليقين إذا كثر تكرره واختباره، بل يفيد الضرورة كما في سائر التجريبات.
فإن قيل: لا مانع من أن يوجد الله تعالى أفعالنا فينا عند دواعينا لمجرى العادة، قيل: لو كان ذلك كذلك لوجب صحة اختلافه؛ لأن كل شيء طريقُهُ العادة فإنه يجوز اختلافه كالإحراق ونحوه، كما روي أن في الحيوانات حيواناً يقال له: السمندل يدخل في النار ويتمرغ فيها فلا تؤذيه، وكنار إبراهيم عليه السلام.
(السيد مانكديم): فكذا في مسألتنا لو كان حدوث تصرفاتنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال فيها، حتى يصدق قول من قال: أنه شاهد في بعض البلاد النائية عنا من يقع منه الفعل عند الصارف، وينتفي عند الداعي وإنها تتأتى منه الكتابة ولما يعلمها ولا تعلمها، فلما تعلمها لم تتأت منه، ومن صدق مثل هذا الخبر فهو متجاهل أو غير عاقل.
(المهدي): وجوب اختلاف العادات لا يعلم ضرورة،ولا دليل عليه إلا حكمة الباري تعالى وعدله؛ لئلا يلتبس الجائز بالواجب، وهذه طريقة غير مرضية، لأن عدل الباري وحكمته لا يثبت إلا إذا أثبت أن أفعال العباد منهم، فأما مع تجويز خلقها فيهم فلا؛ لأن منها ما يقبح، وتجويز خلقه للقبيح ينافي العدل والحكمة، فاستدلالكم على أنها غير مخلوقة فيهم بما يفتقر إلى العدل والحكمة دور محض؛ لأنه لا يثبت أنها غير مخلوقة فيهم إلا إذا ثبت عدل الله وحكمته لما في بعضها من القبح، ولا يثبت عدل الله وحكمته إلا إذا ثبت أنه لا يخلقها فيهم.
قلت: ويمكن أن يجاب بأنا لم ندع وجوب اختلاف العادات بل جوازها، ودليل الجواز الوقوع كما مر، ولزوم الدور ممنوع، فإن ثبوت عدل الباري غير متوقف على كون أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، بل على أنه لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه ووجه قبحه وغناه عنه، وغاية الأمر أن في أفعال العباد ما هو قبيح لا يفعله الباري لعلمه بقبحه، وهذا لا يتوقف عدله سبحانه عليه وإنما هو بعض القبيح الذي يتوقف العدل على العلم بجملته.
والحاصل أن المانع من فعله تعالى للقبح هو علمه بقبحه، وغناه عنه لا نفس القبيح فلا دور.
فإن قيل: لو سلم عدم الدور فيلزم أن لا يعلم العبد أنه محدث لفعله حتى يعلم عدل الباري وحكمته، وخلاف ذلك معلوم.
قيل: لا وجه للملازمة؛ لأن دليل العدل هو علمه بالقبيح وغناه عنه، ودليل كون العبد هو المحدث لفعله هو توقفه على دواعيه وصوارفه، فأين أحدهما من الآخر، هذا مع أنا لا نقول بجواز اختلاف العادات إلا لدليل الوقوع، والوقوع فرع للجواز.
فإن قيل: يرد على الاستدلال على أنا الموجدون لأفعالنا بتوقفها على دواعينا وصورافنا الساهي والنائم؛ فإنه لا قصد لهما ولا داع.
قيل: أما الجمهور فقالوا: الداعي في حقهما مقدرًا؛ أي لو قدرنا لهما قصداً وداعياً لوقع تصرفهما بحسبه، ولهذا زاد بعضهم بعد قوله: وينتفي بحسب كراهتنا تحقيقاً أو تقديراً؛ ليشملهما الدليل.
(المهدي): الحق أن النائم والساهي لا يقع عنهما الفعل الكثير إلا لداع كاليقضان بخلاف اليسير، فقد يصدر من غير قصد كتحريك الأصبع، ألا ترى أن النائم إذا صدر منه كلام، فإنما يكون لرؤيا رآها تدعوه إلى ذلك، وكذلك أفعاله الكثيرة، إذ قد يقوم ويريد الخروج لرؤيا رآها تفزعه أو تفرحه، وربما حركت المرأة يدها كما تفعل الطاحنة.
قال عليه السلام: ولست أقول أن الفعل لا يصح إلا لداع، بل أقول إنه لا فرق بين النائم واليقضان في أن الفعل الكثير منهما يستلزم الداعي، وكذلك المجنون إذ لا بد من باعث لهما على الفعل، فباعث النائم الرؤيا، وباعث المجنون الخيال، وأما الساهي فمن البعيد أن يصدر منه فعل كثير في حال سهوه، وأما منع أصحابنا الداعي المحقق للنائم والساهي، محتجين بأن الداعي فعل، فإما أن يحتاج إلى داع آخر من فعلنا فيتسلسل أو ينتهي إلى داع ضروري، وهو لا يصح؛ لأن الله تعالى لا يفعل الظن أو الاعتقاد؛ لأنه لو فعله في النائم لكان علماً ضرورياً والمعلوم خلافه.
وقد أجاب المهدي عن ذلك: بأن الباعث على الداعي رؤيا وسبب الرؤيا خواطر، وفي مجموع كلامهم أن هذه الخواطر داعية إلى الاعتقاد وهي من الله أو من ملك أو شيطان بحسب الحال، أو فكر فأثبتوا للنائم اعتقاداً، وجعلوا الباعث عليه أخذ هذه الأسباب فما المانع من جعل الاعتقاد، وهو الداعي إلى الفعل.
وأما قولهم: لو انتهت إلى داع ضروري من جهة الله لكانت علماً، فيقال: قد جعلتم الداعي من جهة الله أحد الأسباب كما مر قريباً على أنه لا يلزم إلا لو كان الاعتقاد من جهة الله، لكنا نقول: الاعتقاد من النائم والداعي يجوز أن يكون من جهة الله، وأن يكون عن غيره، فلا محذور على أنه قد اعترضهم الإمام المهدي، فقال في إطلاق أصحابنا: أنه لا يكون من الله لكونه جهلاً، نظراً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لم يبق من الوحي إلا الرؤيا )) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ } [الإسراء: 60] وهي صريحة في أن الرؤيا قد تكون من الله.
قال عليه السلام: فالأولى أن يقال: الرؤيا تصور يصرف النائم ذهنه إليه، إما ابتداءً أو يدعو إليه خاطر تنيبه من الله تعالى، أو من ملك بأمره أو من شيطان فيفعله الله بمجرى العادة، وذلك التصور علم ضروري فلا يقبح بحال، وأما إيجاد الظن فإن جعلناه من جنس الاعتقاد، فالكلام فيه كما مر، وإن جعلناه قسماً برأسه منعناه من النائم؛ لأنه لا يكون إلا عن العادة وهي ممتنعة في حق النائم.
[الفائدة السابعة والعشرون: في دفع التعارض بين حديث
من سن سنة سيئة))
وبين قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }]
نحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سن سنة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها)) لا يعارض بقوله {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[الإسراء: 15] من حيث أن وزر الآثم لا يتحمله غيره؛ لأنا نقول الفاعل المسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين: جهة فعله، وجهة تسببه.
[الفائدة الثامنة والعشرون: شروط الدعاء]
اعلم أن الله تعالى قد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، فقال تعالى: {ادْعُوْنِي أَسْتَجِبْ لَكُم ْ} [غافر:60] {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِه } [النساء: 32]{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ } [الأعراف: 200] ولكنه لا يتم الدعاء إلا إذا علم العبد بعجز نفسه عن الاستقلال بنفع نفسه ودفع المضار عنها، وأنه لا غنى له عن توفيق الله ولطفه، ويعلم أن الله قادر على كل الممكنات وعالم بها، فإذا علم العبد أنه لا يحصل له ذلك إلا من ربه الذي لا يعجز عن شيء ولا يعزب عنه علم شيء، تحرك قلبه إلى الطلب برغبة وخضوع، وتضرع وخشوع، فقال: أسأل الله وأعوذ بالله؛ لعلمه بشمول علم الله وعموم قدرته، وصدق وعده، فيوجه طلبه إلى ربه وحده راغباً إليه قاطعاً لرجاه عمن سواه، خاصاً له بدعائه ونداه، كما نبه الله على الاختصاص وقطع الرجاء عن المخلوقين، بقوله تعالى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ }[الفاتحة:5].
ومن رواية أهل البيت عليهم السلام عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يقول الله عز وجل ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه ، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن استغفرني غفرت له)).
وقال علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن: (والج نفسك في أمورك كلها إلى إلهك؛ فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز) رواه في النهج.
ومن كلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام: (استعصم الله بعصمته التي لا تهتك، واسترشده إلى السبيل الذي ينجو به من الردى من هلك، واستوهبه التوفيق لهدايته والحظ الوافر من طاعته، وارغب إليه في إلهام حكمته واجتناب معصيته، وكل ذلك يدل على أنه لا ينال العبد الخيرات والبركات في دينه ودنياه إلا بمعونة الله، وأن الدعاء هو الوسيلة إلى جلب كل نفع، ودفع كل ضر في الدنيا والآخرة).
[الفائدة التاسعة والعشرون: في الإيمان]
اتفق المسلمون على أن الإيمان في اللغة هو التصديق، وأن المؤمن بمعنى المصدق، وأن اشتقاقه من الإيمان، ثم اختلفوا هل قد نقل في الشرع إلى معنى آخر؟ فقالت الزيدية كافة ووافقهم المعتزلة وجماعة من غيرهم: أنه قد صار حقيقة شرعية في معنى آخر، فقالوا: الإيمان هو أن يعتقد الحق بقلبه ويعترف به بلسانه، ويصدقه بعمله، وحاصله أن من استكمل الواجبات، واجتنب الكبائر فهو مؤمن، وإن لم يكن كذلك فهو فاسق لا يطلق عليه أنه مؤمن شرعاً، والدليل على ذلك أن الإيمان اسم مدح في الشرع، وقد ذكر الله تعالى المؤمنين في كتابه، ومدحهم وسماهم بأسماء حسنة، وحكم لهم بأحكام، وبين أنه لا يستحق هذا الاسم إلا من قال بقولهم، وعمل بعملهم، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 2-4]، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15].